دليل المتشابه الثانى المجاز فى تشبيه الكفار بعد الرمى بالحجارة بأنهم أصبحوا عصفا، غير جائز فى اللغة - على قدر علمنا - ولا فى الطبيعة، إنما الأرجح فى التأويل أنهم أصبحوا كالمأكول الذى تعصف به الرياح، ما قال به المفسرون كما سنرى. فثبت المتشابه من عدة وجوه، ولزمه التأويل.
الطبرى:
< حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله: {طَيْراً أبابِيلَ} قال: يتبع بعضُها بعضاً. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: {أبابِيلَ} قال: هي شتى متتابعة مجتمعة.>
الشوكانى:
الزمخشرى:
فى تأويل قوله: "سِجِّيلٍ"، أى ما يؤؤل إليه فعل رمى الحجارة: كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال؛ لأنّ العذاب موصوف بذلك، وأرسل عليهم طيراً.>
قيل أيضا فى "السجيل" أنه إسم واد فى جهنم. كأنه قيل كتب عليهم عذاب نار جهنم. يؤكد ما توصلنا إليه من قبل فى الجزء السابق من تأويل قوله جلت حكمته:
* قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ * (الأنعام: 65)
مرجعيته المحكمة كما ذكر قوله تعالى:
* فَبَعَثَ اللَّـهُ غُرَابًا *
فى قوله: "يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ" غائب محذوف تقديره أداة العذاب، سبق. مصداقها مع الطير الأبابيل قوله: "سِجِّيلٍ". فثبتت صحة طريقة التأويل التى نتبعها فى المنهاج تنبنى أوليا على الإستقراء التام (تعبير الإمام الشاطبى)، إن صح التعبير. الثلاث آيات تفسر بعضها بعضا. وهو دليل ثان على عظم شبكة المعانى فى المتشابه من الذكر الحكيم التى سبق التدليل عليها وقوله تعالى: "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا..." الآية. والله هو الهادى إلى سواء السبيل، هو الأعلم.
الرازى: عن تأويل "العصف المأكول"، ما آل إليه حال أهل الفيل بعد أن بادرهم الطير بالحجارة:
< المسألة الأولى: ذكروا في تفسير العصف وجوهاً ذكرناها في قوله:
* مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا * (الأحزاب: 40)
* وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ ۗوَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ * (آل عمران: 7)
وقوله:
* وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ * (التوبة: 122)
المسألة الثانية، الآيات المعجزات التى أيد الله بها رسله وأنبيائه، عليهم الصلاة والسلام، لا تعنى إنقطاعها مع الزمان لقوله تعالى: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا..." الآية. وعندما تأتى آياته جلت قدرته حتى بعد إنقطاع الوحى، فهى برهان على وحدانيته، وبرهان على صدق الرسالات السماوية جاءت بالحق، وبرهان على بعثة رسل الله وأنبائه، خاصة محمد، عليه الصلاة والسلام، الذى نزلت عليه خاتمة الرسالات السماوية. كان يكفينا هذا الدليل للتدليل على الإستمرارية، لكنه تعالى شأنه أكد عليها فى مواضع آخرى تهمنا فى هذا المقام. قال العليم الحكيم:
* قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى * (طه: 52)
الله تعالى لا ينسى ولا يأمر بالنسيان، متفق عليه فى الصفات بين المتكلمين من أهل السنة والجماعة. فثبت المتشابه، وجاز حمل المعنى على أنها آية من آيات الإعجاز.
< يعنـي جل ثناؤه بقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} إلـى غيره، فنبدله ونغيره. وذلك أن يحوّل الـحلال حراماً والـحرام حلالاً، والـمبـاح مـحظوراً والـمـحظور مبـاحاً ولا يكون ذلك إلا فـي الأمر والنهي والـحظر والإطلاق والـمنع والإبـاحة، فأما الأخبـار فلا يكون فـيها ناسخ ولا منسوخ.>
هذا بديهى، متفق عليه. فآيات الإعجاز ما وقع منها هى فى عداد أنباء الغيب، خبر الماضى والمستقبل. النسخ فى المعجزات يأتى من طريق الإقتران بين النسخ والنسيان، نسيان أنها فى قديم الزمان ولم يعد لأثرها تأثير فيما بين أيدينا، الحاضر، أو زمان غير زمنها. فآية الإعجاز فى الطير الأبابيل خبر لا سبيل لنسخه، أو تكذيبه، أورفعه، أو محوه، إنما الأثر والتأثير هو الذى يقصد به النسخ، وتبقى الموعظة والحكمة منها مصونة ومحفوظة فى الذكر الحكيم. حتى فى هذه ربما لم تعد بالنفاذية المطلوبة فى هذا العصر أو فى غصر بعده. لقد أيد الله رسوله موسى عليه السلام بآية السحر، التى لم تعد تجدى لإثبات النبوة مع عيسى عليه السلام، فأيده بأخرى أخير وأكبر منها هى إحياء الموتى، ثم نسخت هاتين وجئ بالإسراء والمعراج مع محمد عليه الصلاة والسلام، أخير وأكبر من السحر ومن إحياء الموتى، لأنه مثال على يوم البعث حيث إجتمع بمن قبله من الرسل وصلى بهم ثابت فى كتب الأحاديث، قوله تعالى:
< وهذا المعنى جار في تقييد المطلق فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده فلا إعمال له في إطلاقه بل المعمل هو المقيد. فكأن المطلق لم يفد مع مقيدة شيئا فصار مثل الناسخ والمنسوخ، وكذلك العام مع الخاص إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار فأشبه الناسخ المنسوخ. إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق. فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد.>
ذكرنا من قبل أن الشاطبى من المفردين الذين أجروا الشرع على المثانى، فكان من الراسخين. بينما ينسخ الأخرون العام بالمخصص، فهو لا يقول بالنسخ لأن العام مطلوبه مطلوب الخاص "لرجوعها إلى شيء واحد"، ثنائية من مثانى المنهاج، لنا فيها أن الخاص ناتج من العام ولا يستقيم إلا به، بل هو مرجعيته مع أن المعمول به هو الخاص، ويبقى العام حكمه كليا من منظور خاتمية الرسالة، لا ينسخ تلاوة ولا حكما. ينضوى ذلك فى المساحة المشتركة بين الشرعة والمنهاج، سبق. يختتم مقالته بالتبين:
* جَعَلَ لَكُمُ الليل والنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ * (القصص: 73).
"لِتَسْكُنُواْ" عائدة إلى "الليل"، و"لِتَبتَغُواْ" إلى "النَّهَارَ".
يكون المثل أكبر مقصود قوله: " أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا"، كما هو الحال بين طير أصحاب الفيل وطير الفاتيكان فى الحالتين. منه التأكيد على أن آية الطير فى الفاتيكان هى تأويل آية النسخ فى القرآن. والله أعلم.














