الدلالة التربوية فى فداء الأضحى.

 بسم الله الرحمن الرحيم:

* وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖسَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * (الصافات 99 - 110)

صدق الله العظيم

فى المناسبة عدة مسائل:

الأولى: كى يهديك الله فعليك أن تذهب إليه جل فى علاه. وأن تذهب إليه هو أن تكون إليه قريب كما هو أقرب إليك من حبل الوريد، بقلب مفعم بالإيمان والتقوى و بالأعمال الصالحات.

الثانية: عندما تكون إلى الله قريب فليست الجائزة الهدى فقط، إنما الإستجابة للدعاء أيضا. فلما دعا إبراهيم عليه السلام أن يهبه الله الذرية الصالحة أستجيبت دعوته فى قوله تعالى: " فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ".

الثالثة: الموعظة الأعظم فى التربية، أن إبراهيم عليه السلام نبى الله يستشير إبنه فيما يفعله، وإن كان ما سيفعله فى مرتبة الأمر من الله. على الجانب الآخر إمتثال الإبن لأبيه ولأمر الله، طاعة فى الحق عمياء فى رقبته. هل رأيتم فيما قيل: "إن كبر ابنك خاويه"، وقال الحكيم العليم: " فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ"، تحتمل سن السعى على الرزق, قيل فى الروايات أنه كان فى حوالى الثانية أو الثالثة عشر من العمر. فى الرابعة عشر سن الحلم، وهو الأكثر تماشيا مع معطيات الذكر الحكيم.

الرابعة: هنا مشكل: أنه لا خلاف على أن الوحى من أمر الله وأمر من الله كليهما، لكن كيف تكون الرؤيا أمر من الله؟ المسألة فى التأويل، فى سورة يوسف هناك رؤيا وهناك تأويل لها، إنما المتقدم فى السورة تعليم تأويل الأحاديث. قال العلماء فى ذلك الكثير. شبه الإجماع على أن الرؤيا فى القرآن الكريم ليست من المحكم ويلزم لها التأويل. على الأرجح كان هذا أساس الفداء، فلم تكن الرؤيا على الحقيقة أمرا أو نهيا فى الشريعة وأمرا من الله، وإن كانت من أمر الله وحجته البالغة. دليل ذلك أن الله لا يأمر بالذبح بغير جريرة تعالى جل شأنه عن الظلم، قال بذلك المتكلمون وذكره الرازى فى تفسيره "مفاتيح الغيب"، دلائله كثر. فى ذلك قوله تعالى: "إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ"، أن يذبح نبى الله بغير جريرة.

الخامسة: مقارنة تربوية داخلة فى حجة الفداء. فلنقارن بقتل الغلام مع موسى والخضر عليهما السلام فى سورة الكهف، والذى خشى أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا، قوله تعالى:

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * (الكهف: 80).

ألم تر أن الخضر عليه السلام قال "خشينا" ولم يقل "خشيت"؟

 من هنا كان الفداء لنبى الله إسماعيل عليه السلام، الذى عنه قال تعالى:

* وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * ﴿مريم: ٥٤﴾

هنا إسماعيل عليه السلام فى بنوة ونبوة وهناك غلام فى عقوق وطغيان وكفر. هنا رؤيا وهناك واقع اليقظة، فكان الفداء، الحجة والموعظة.

ولنقارن مع قصة نوح عليه السلام وابنه الذى لم يستمع إلى نصح والده أن يركب الفلك معهم للنجاة من الطوفان، وهى الفلك التى حملت "المثانى"، فكان من المغرقين. قال العليم الحكيم:

* وَنَادٰى نُوۡحُ اۨبۡنَهٗ وَكَانَ فِىۡ مَعۡزِلٍ يّٰبُنَىَّ ارۡكَبْ مَّعَنَا وَلَا تَكُنۡ مَّعَ الۡكٰفِرِيۡن * قَالَ سَاٰوِىۡۤ اِلٰى جَبَلٍ يَّعۡصِمُنِىۡ مِنَ الۡمَآءِ‌ؕ قَالَ لَا عَاصِمَ الۡيَوۡمَ مِنۡ اَمۡرِ اللّٰهِ اِلَّا مَنۡ رَّحِمَ‌ۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا الۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ الۡمُغۡرَقِيۡنَ * وَقِيۡلَ يٰۤاَرۡضُ ابۡلَعِىۡ مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ اَقۡلِعِىۡ وَغِيۡضَ الۡمَآءُ وَقُضِىَ الۡاَمۡرُ وَاسۡتَوَتۡ عَلَى الۡجُوۡدِىِّ‌ وَقِيۡلَ بُعۡدًا لِّـلۡقَوۡمِ الظّٰلِمِيۡنَن * وَنَادٰى نُوۡحٌ رَّبَّهٗ فَقَالَ رَبِّ اِنَّ ابۡنِىۡ مِنۡ اَهۡلِىۡ وَاِنَّ وَعۡدَكَ الۡحَـقُّ وَاَنۡتَ اَحۡكَمُ الۡحٰكِمِيۡنَ * قَالَ يٰـنُوۡحُ اِنَّهٗ لَـيۡسَ مِنۡ اَهۡلِكَ ‌ۚاِنَّهٗ عَمَلٌ غَيۡرُ صَالِحٍ ‌‌ۖ  * (هود 22 - 26). 

عصى الإبن أباه أن يجاهد معه فى سبيل الله وإختار أن يكون مع الكافرين، فكان من  المغرقين، هو حكم الله فى اليقظة لا الرؤيا، قوله: "وَاَنۡتَ اَحۡكَمُ الۡحٰكِمِيۡنَ"، لم يشفع له أنه إبن نبى الله، قوله: "رَبِّ اِنَّ ابۡنِىۡ مِنۡ اَهۡلِىۡ": لجأ الإبن إلى الطبيعة لتعصمه من أمر الله، كيف وهو الخلاق العليم؟ جاءته النصيحة فى قوله: " لَا عَاصِمَ الۡيَوۡمَ مِنۡ اَمۡرِ اللّٰهِ اِلَّا مَنۡ رَّحِمَ‌ۚ "، ولم تصبه الرحمة فى جانب الكفر وهو إبن نبى الله، فقد أرسل الله الطوفان عقابا للكافرين ولينجى نوح عليه السلام ومن معه والمثانى أيضا، قوله تعالى:

* قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ * (هود)

هنا أيضا من الحجة البالغة لم كان الفداء فى الأضحى المبارك. وليكن عيدا للفداء وطاعة الله، وطاعة  الوالدين فى الحق والإستماع لنصائحهما فطاعتهما من الإيمان، إلا إذا غويا على الشرك، قول الرؤوف الرحيم:

* وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا * (العنكبوت: 8).

وقال:

* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا * (لقمان: 15).

كررت مرتين، إشارة للمثانى، وقصة سفينة نوح عليه السلام فى اليقظة وبالوحى هى الإنقاذ لسنة الله الرئيسية فى الكون والحياة، المثانى أيضا. تعجب وتأمل، ستجد أن طاعة الوالدين فى الحق من الإيمان، الحجة فى فداء الأضحى.

وعليه كانت الرؤى فى الذكر الحكيم يلزمها التأويل، جاز على رؤيا الأنبياء، مثار الخلاف بين جمع من العلماء. وليس من المعقول أن نساوى بين حال المنام وحال اليقظة أو بين الرؤيا والوحى فى سبل البيان والإستدلال والتأويل، وإلا أن تنطمس معالم الحدود بلا فرقان، نستغفره ونتوب إليه جلت حكمته، فهنا مثال للفرقان فى القرآن ، تمييزا للحدود.

السادسة: المعنى بالصدق فى الرؤيا من حيث الرواية من جهة، ومن جهة أخرى التصديق بها وتفعيلها، قوله جلت حكمته: "فلما تله للجبين". لا يتعارض هذا الصدق مع لزوم التأويل للرؤيا، كما هى الحال مع رؤيا يوسف عليه السلام التى لم يكن السجود فيها للكواكب وللشمس والقمرعلى الحقيقة مع الصدق فى الرواية، إنما الإخوة والوالدين. مثله أن رؤيا إبراهيم عليه السلام لم تكن على الحقيقة أمرا من الله تعالى بذبح الإبن الصالح البار، الصادق الوعد، لذا كان الفداء وعيد الأضحى المبارك إحتفاءا بها. والله أعلم.

أما قوله تعالى:

* لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ (الفتح: 27).

فقد احتج به فى أن رؤيا الأنبياء من الصدق والحقيقة بحيث لا تفتقر إلى التأويل. وهذا فى نظرنا ليس دقيقا من جهة أن هذه الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتحول إلى حقيقة إلا بأمر الله، المقصد فى قوله: "صَدَقَ اللَّـهُ" و"بِالْحَقِّ"، دليل ذلك قوله تعالى مع رؤيا يوسف عليه السلام:

* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا (يوسف: 100).

وبها تفسير قوله "بِالْحَقِّ" مع رؤيا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. والقرآن يفسر بعضه بعضا أكثر بيانا فى المنهاج وأدواته. ما يؤيد ما ذهبنا إليه. ففى رؤيا يوسف عليه السلام علمه الله التأويل، لأنه إن كان للكواكب والشمس والقمر أن تسجد فليس إلا الله الواحد القهار. فى رؤيا إبراهيم عليه السلام ناداه ربه ليصلح وكان الفداء بعد أن صدقها نبى الله. هنا فى رؤيا المصطفى عليه الصلاة والسلام جعلها الله حقيقة واقعة بإرادته. فى كل الأحوال كان الله  تعالت حكمته معقبا بالإصلاح أو التصديق، مثلما قال جل ذكره:

قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا * (البقرة: 144).

لم يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بها، فهى بمثابة رؤيا فى اليقظة، وكانت الإستجابة تحولت إلى حقيقة رؤيا العين، من باب التأييد للرسالة الخاتمة إلى أن يتم الله نوره بالحق. ربما كان هنا فارق بين رؤيا الأنبياء ورؤيا الرسل عليهم الصلاة والسلام. والله أعلم. من فضله الهدى وبه التوفيق.

الموعظة: عند الفداء أو النذر، أيما كان، أدعوا ربكم تضرعا وخفية مخلصين له الدين أن يهبكم الذرية الصالحة، وأن يصلح لكم فى ذريتكم، هو نعم السميع المجيب.

فى سورة إبراهيم قال تبارك وتعالى:

وَاِذۡ قَالَ اِبۡرٰهِيۡمُ رَبِّ اجۡعَلۡ هٰذَا الۡبَلَدَ اٰمِنًا وَّاجۡنُبۡنِىۡ وَبَنِىَّ اَنۡ نَّـعۡبُدَ الۡاَصۡنَامَ * رَبِّ اِنَّهُنَّ اَضۡلَلۡنَ كَثِيۡرًا مِّنَ النَّاسِ‌ۚ فَمَنۡ تَبِعَنِىۡ فَاِنَّهٗ مِنِّىۡ‌ۚ وَمَنۡ عَصَانِىۡ فَاِنَّكَ غَفُوۡرٌ رَّحِيۡمٌ * رَبَّنَاۤ اِنِّىۡۤ اَسۡكَنۡتُ مِنۡ ذُرِّيَّتِىۡ بِوَادٍ غَيۡرِ ذِىۡ زَرۡعٍ عِنۡدَ بَيۡتِكَ الۡمُحَرَّمِۙ رَبَّنَا لِيُقِيۡمُوۡا الصَّلٰوةَ فَاجۡعَلۡ اَ فۡـٮِٕدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهۡوِىۡۤ اِلَيۡهِمۡ وَارۡزُقۡهُمۡ مِّنَ الثَّمَرٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُوۡنَ * رَبَّنَاۤ اِنَّكَ تَعۡلَمُ مَا نُخۡفِىۡ وَمَا نُعۡلِنُ‌ ؕ وَمَا يَخۡفٰى عَلَى اللّٰهِ مِنۡ شَىۡءٍ فِى الۡاَرۡضِ وَلَا فِى السَّمَآء * اَلۡحَمۡدُ لِلّٰهِ الَّذِىۡ وَهَبَ لِىۡ عَلَى الۡـكِبَرِ اِسۡمٰعِيۡلَ وَاِسۡحٰقَ‌ؕ اِنَّ رَبِّىۡ لَسَمِيۡعُ الدُّعَآءِ‏ * رَبِّ اجۡعَلۡنِىۡ مُقِيۡمَ الصَّلٰوةِ وَمِنۡ ذُرِّيَّتِىۡ‌‌ ۖ  رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَآء * رَبَّنَا اغۡفِرۡ لِىۡ وَلـِوَالِدَىَّ وَلِلۡمُؤۡمِنِيۡنَ يَوۡمَ يَقُوۡمُ الۡحِسَابُ (إبراهيم: 35 - 41).

آمين يا رب العالمين.