فكم من جنود الله فى السماوات وفى الأرض لا يعلمها البشر فى حمل معجز لرسالة التوحيد بالله، واحد أحد لا شريك له ولا ولد، ورسالة معجزة للبرهان على قدرته وإبداعه فى الخلق. ولا يعلمها البشر إلا فى آية من آيات الله ومعجزاته. ثم إنه جل وعلا يدلل فى الذكر الحكيم على أن الطير مسخرات بأمره يرسلها حيث يشاء ومعها رسالة ما لبنى البشر بينة ناصعة تحكى قدرته العلية فهو الخالق البارئ المصور الذى قال:
* حُنَفَاءَ لِلَّـهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّـهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ﴿الحج: ٣١﴾
التشبيه بالكاف يجعل الآية من المتشابه، وفى التأويل مقصوده أن يكون مقهور الإرادة تستقى من قوله: "خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ"، مثل أوراق الخريف، يصبح كالفريسة التى تتنافس عليها الطير كغذاء. ثم مقصوده الضلال فى الدنيا بلا قرار وبئس المصير، المعنى المضمر فى قوله: "تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ". ويحتمل التشبيه بالكاف إعجازا علميا لم نتوقف عليه بعد. هنا دخلت الطير كنذير فيه العقاب، والمآل الفناء. والله أعلم.
* أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّـهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * ﴿النحل: ٧٩﴾
الإمام الرازى، رحمه الله، قال في تفسيره "مفاتيح الغيب" بلغة علمية ميكانيكية:
< {مَا يُمْسِكُهُنَّ} فالمعنى: أن جسد الطير جسم ثقيل، والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقاً من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجو هو الله تعالى، ثم من الظاهر أن بقاءه في الجو معلقاً فعله وحاصل باختياره، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى. قال القاضي: إنما أضاف الله تعالى هذا الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات التي لأجلها يمكن الطير من تلك الأفعال، فلما كان تعالى هو المسبب لذلك لا جرم صحت هذه الإضافة إلى الله تعالى.>
قضية خلافية من قضايا علم الكلام، نسبة أفعال العباد أو الطيرإلى الله، قضية أساسية فى ثنائية الإختيار والجبر فى منهاج المثانى، ليس مقام تفصيلها، إنما نقول بأن الجبر فيها بالخلق، أن خلق الله الطير وخلق له أدوات الطير. أما إذا كان الفعل جبرا سقط عن المخلوقات الإختيار، ما ينافى أصول الدين من أن الله أنزل إلينا الشرائع تحكم على أفعال العباد. فإن كانت الأفعال جبرية، كما تقول طائفة الجبرية الكلامية، إنتفت الشرائع والحكمة منها ومن تنزيلها، متفق عليه بين علماء السنة والجماعة. المعنى هنا فى قوله: "يُمْسِكُهُنَّ"، ينبنى على الجبر بالخلق، إمكانيات بقاء الطير طائرة فى جو السماء، إتفاقا مع إمامنا فى تفسيره. لكنه يرجع أيضا إلى الإختيار، إختيار الطائر البقاء طائرا فى السماء من عدمه، إعتمادا على ما هو فيه من ترحال أو من قنص فريسة أو تصيد الغذاء. فإذا جئنا إلى حال الطير فى الفاتيكان غلبنا الجبر فى الفعل من حيث أنه من أمر الله، لا من حيث إرادة الطير الطبيعية وإلا إنتفى الإعجاز عنها، أى أنه سلوك غير طبيعى، ما أثبتناه سابقا فى الجزء الأول. من وجه ثان على المنهاج أن سلوك الطير على ذلك النحو من باب الطاعة، طاعة الله فى أوامره ونواهيه، فيها من المثانى كليهما الإختيار والجبر، مفاد قوله تعالى:
* ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * (فصلت: 11)
قوله: "أَتَيْنَا" فيه الإختيار، و"طَائِعِينَ" من الجبر، طاعة أوامر الله فى قوله: "اِئْتِيَا". سبق الإختيار على الجبر. الآية الكريمة من متشابهات المنهاج على المثانى، دليل المتشابه المجاز فى "قَالَتَا"، فيها تفصيل. والله أعلم.
الإمساك هنا يحتمل الإعجاز العلمى فى التأويل، في الآية الكريمة متشابه إعجاز علمى، دليله أن الله لا يمسك الطير ماديا كما يمسك الإنسان الشئ بين يديه، وإلا التشبيه فى الذات الإلهية. قال الكلاميون أن لله يد ليست كيد الإنسان، وأن التشبيه حاصل فى الفعل، لا فى كيفيته ولا فى أدواته، قضية خلافية. الإعجاز هو أن بعض الطير قادرة على أن تظل ساكنة فى الهواء دون تحريك لأجنحتها، لا مجرد كونها طائرة فى جو السماء ترفرف بأجنحتها. ذلك أن معنى الإمساك فى اللغة يمنع الحركة، فيه السكون أكثر من الحركة بالنسبة للطير. الرازى قصد الإمساك طائرا بين الأرض والسماء، والمعنى الأدق طائرا بين الأرض والسماء ساكنا. المعنى أكثر وضوحا فى قوله تعالى:
* أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَـٰنُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ * (الملك: 19).
هنا تفصيل أكثر على التثنية، أن الطير قادرة على أن تطير فى صفوف منتظمة. وأن أساس الطيران النظرى هو مسألة دفع الهواء بالجناح عند قبضه (ضمه) بعد بسطه، العملية المستمرة بسط/قبض اللازمة لطيران الطير وحملها فى الهواء. وأن الطير قادرة أيضا أن تكون طائرة فى سكون، معلقة بين الأرض والسماء دون بسط وقبض، ماهو من الإعجاز العلمى فى القرآن. دليل التشابه كما ذكرنا هو قوله: "يُمْسِكُهُنَّ" فى الآيتين. الإعجاز الأكبر فى هذه الظاهرة أن معنى المسك محقق فى السكون، ولا يكون سكون إلا بتوازن بين قوتين، الإشارة إلى ذكر اللفظ مرتين على المثانى، سنة الله فى الكون والحياة. سبق. فكيف تكون ساكنة فى الهواء مثل الطائرة الهيلوكبتر؟ تفصيل القوتين يحتاج إلى بحث علمى طبيعى ليس مقامه. هناك نوع من الطير تظل ساكنة بجناحيها لبرهة، مثل طائر العقاب قبل الغطس لإصطياد السمك، ومنها الطيور الطنانة Hummingbirds التى تستطيع ليس فقط السكون فى الهواء، مرفرفة بجناحيها بذبذة عالية، إنما الطيران إلى الخلف أيضا. والله أعلم.
---------------------------------------------------------
قال الخلاق العليم:
* أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * ﴿النور: ٤١﴾
هنا أيضا إعجاز علمى وإخبار عن أمة الطير، أن من الطير كما هو معلوم ما تطير فى مجموعات لها قائدها مثل المصلين وإمامهم. مبناه الإقتران بين "صَافَّاتٍ" و "صَلَاتَهُ"، والتخصيص بالصلاة والتسبيح فى "كُلٌّ". بمعنى أن الطير فى طيرانها على هذا النحو تسبح لخالقها البارئ المصور وكأنها تصلى مثل البشر المسلمين لها إمام، من ثم يجرى عليها القول كأمة أن بها مسلمون وكفار. تأكيد دليل الإعجاز العلمى فى قوله: "وَاللَّـهُ عَلِيمٌ". والله أعلم.
وقال:
* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * ﴿ص: ١٩﴾
الأواب معروف على أنه من البشر بالتقوى بعد الإيمان، لكن الله أضاف الصفة إلى الطير مثلهم، ما لا يعلمه البشر. فيها تفصيل على المثانى، ثنائية المجتمع والفرد، الجمع فى "محشورة"، والإفراد فى "كل". والله أعلم.
وقال:
* وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ * ﴿الأنعام: ٣٨﴾
مرة ثانية يماثل تعالى ذكره بين البشر والطير فى الحياة الإجتماعية بلا تفريط عن صفات خلقة. قال الإمام القرطبى، رحمه الله، فى تفسيره "جامع البيان":
< يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعرضين عنك المكذّبين بآيات الله: أيها القوم، لا تحسبنّ الله غافلاً عما تعملون، أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون، وكيف يغفل عن أعمالكم أو يترك مجازاتكم عليها وهو غير غافل عن عمل شيء دبّ على الأرض صغير أو كبير ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء؟ بل جعل ذلك كله أجناساً مجنسة وأصنافاً مصنفة، تعرف كما تعرفون وتتصرّف فيما سخُرتْ له كما تتصرّفون، ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها، ومثبت كلّ ذلك من أعمالها في أمّ الكتاب....... حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أمْثالُكُمْ} يقول: الطير أمة، والإنس أمة، والجنّ أمة.>
عن الطير فى المأكل قال الرزاق العليم:
* وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * ﴿الواقعة: ٢١﴾ ضمن ما سخره الله للبشر من نعم ومنافع لهم بالخلق، إنما ليست الطير كلها مما يشتهيه عامة الناس على إختلاف المشارب والتذوق بينهم. فى التأويل تحتمل كذلك أن عامة الطير مما يشتهيه الناس كمأكل من نبات أو حيوان، وبمعنى أن الطير من المأكل الحلال. والله أعلم.
الطير فى آيات بينات مع الرسل والأنبياء:
فى هجرة خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم، عندما طارده كفار قريش وبيتوا لقتله، غادر مكة المكرمة ليلا وإختبأ وصاحبه أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، فى غار حراء. أيده سبحانه بجنوده من الحمائم والعنكبوت على باب الغار، فظن الكفار فى مطاردتهم له أن ليس بالغار أحد، ونجاه ربه بمعجزات فى جنوده. مفاد قوله أحكم الحاكمين:
* إلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ﴿التوبة: ٤٠﴾
أيده الله سبحانه وتعالى بجنود لم يرها الناس كجيوش مجيشة. فى التأويل تحتمل أنها الجنود التى بها "لم يرى" الكفار محمد عليه الصلاة والسلام فى الغار، هى الحمائم والعنكبوت. الآية الكريمة من المتشابهات، فيها متشابه الضمير فى "سَكِينَتَهُ"، دليله العقلى فصل فيه الإمام الرازى، رحمه الله، وقد ذكرناه مع موضوع الهجرة، عائد إلى الصديق، رضى الله عنه. وفيها متشابه الجنود، وفيها متشابه مكانى أن الكلمة هى العليا أو السفلى معنويا وليس مكانيا. إستدللنا من قبل على أن المجاز بأنواعه المختلفة والتشبيه فى الذكر الحكيم يقع فى الآيات المتشابهات. على هذا الوجه يلزم التأويل، شاهده ما حدث بالفعل من معجزة فى الطير والعنكبوت جنود الله الحقيقية، وإن كان الشائع فى التفاسير أن الجنود هى الملائكة كما فى غزوة بدر، معومة غير محددة، وغير ممتنعة فى هذه المسألة. نميل فى ذلك إلى قول الإمام الزمخشرى، رحمه الله، فى تفسيره "الكشاف":
< لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم أعم أبصارهم" فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون. وقد أخذ الله بأبصارهم عنه.>
التأويل الأرجح فى عدم رؤية جنود الله. والله أعلم.
مع رسول الله عيسى بن مريم، عليه السلام، إعجاز الله فى الخلق مؤيدا به رسوله إلى بنى إسرائيل، قال العزيزالقدير:
* وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي * ﴿المائدة: ١١٠﴾
جاءت هذه الآية خطاب من الله لرسوله عليه السلام، وجاء الخطاب على لسان عيسى فى موضع آخر بنفس المضمون الإعجازى، قوله تعالى:
* وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ * (أل عمران: 49)
مثال الطير فى إحياء الموتى، وإشارة إلى المثانى، وإشارة إلى إعجاز علمى فى صناعة الطائرات والصواريخ، وفيها نظرية الدفع فى المحركات النفاثة المبنية على النظرية الميكانيكية "لكل فعل رد فعل مساو له فى المقدار ومضاد له فى الإتجاه". فقد دلنا البحث فى بلاغة القرآن الكريم والمتشابه فيه إلى أن التشبيه بالكاف فى عامته كقاعدة إذا ما إقترن بالماديات يتضمن إعجازا علميا، باب من أبواب المنهاج. مثل ذلك قوله تعالى: "كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ"، "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ"، "كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ"، "فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ"، "كَمَثَلِ الكَلْبِ"، "كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ"، ومثله كثير. لكن الذين يقولون فى الإعجاز العلمى لا يتبعون دليلا لغويا ولا قانونا أو قاعدة تأويلية، ما يعتبر تقولا على الله ولو صح تأويلهم، نستغفره ونتوب إليه، له الأمر من قبل ومن بعد. والله أعلم.
دليل التأويل هنا علمى تجريبى، أنك لو صنعت من الطين طيرا لن يطير بذاته إذا نفخت فيه. وربما قال المغرضون أن هذا من باب الخرافة. ننبه مرة أخرى على أن المتشابه جائز تفسيره على وجه، وجائز تأويله على وجه آخر، كلاهما سائغان، سقنا عليه الدليل أكثر من مرة. جاز فى مثالنا أن تكون معجزة أيد بها الله رسوله عليه السلام، وفقط، وجاز إعجازا علميا عصريا. فيه تفصيل، ومنه المعروف أن أول من قام بصناعة الطائرات مثل الطير هما "الأخوان رايت Write Brothers"، من النصارى، فالإحتمال قائم بنسبة الإختراع إلى تابعى عيسى عليه السلام. الآية الكريمة فيها "فَتَنفُخُ فِيهَا"، ولا تدل على محاولة عباس بن فرناس تقليد الطير بقدر ما تدل على الذى يطير ذاتيا على إثر النفخ فيه، الطائرات.

الأخوان رايت
مع موسى عليه السلام وقومه بنى إسرائيل كان طير السمان الذى هو "السلوى"، قول الغفور الرحيم:
* وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ﴿البقرة: ٥٧﴾
إتفق معظم المفسرون على أن "المن" هو سائل حلو المذاق يقترب من العسل ينزل على الأشجار بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وفيه فوائد طبية. أنزله الله على بنى إسرائيل مع شحة العيش. كما إتفقوا على أن السلوى هو طائر السمان المعروف بأنه طائر مهاجر، يعيش فى الشمال صيفا ويرتحل جنوبا فى الشتاء. الإشارات موقوته، فالغمام ظلل به الخالق سبحانه وتعالى بنى إسرائيل ليقيهم حر الصيف، ما يعنى عيشهم فى الصحراء المصرية، والمن موقوت بطلوع الفجر إلى طلوع الشمس، أما السمان فموقوت بالشتاء. حماهم الله من حرارة الصيف وأنعم عليهم المشرب والمأكل، لكن جانبهم الشكر على أنعم الله الطيبات. ثنى جل شأنه فى نفس موضوع بنى إسرائيل:
* وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * ﴿الأعراف: ١٦٠﴾
فى التثليث على المن والسلوى قال الحكيم العليم:
* يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ * ﴿طه: ٨٠﴾
ظللهم الله بالغمام وقاية من الحر، وأنجاهم من عدوهم فرعون، وواعدهم رسالة موسى عليه السلام على جبل الطور فى صحراء سيناء، وأنزل عليهم المن والسلوى. منحهم الله الأمن والأمان من عدو ومن طبيعة قاسية، ومنحهم الشريعة والمشرب والمأكل، مقومات الحياة الأساسية ضمنها الطير، لكنهم كفروا بأنعم الله، ظلموا أنفسهم وعبدوا العجل فحق عليهم التيه فى ربوع الأرض جزاءا وفاقا. التكرار ثلاثا فى "الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ" يعنى المنهاج فى التأويل. أن فى التوراة من منهاج الله ما يتناسب مع مسببات تنزيلها. كما تحتمل أن الرسالات الثلاث فيها المنهاج على المثانى، سبق التدليل عليه. ذكر الدليل كاملا من "وَظَلَّلْنَا" إلى "يَظْلِمُونَ" مرتين، ما يشير إلى المثانى، ومشار إلى المثانى فى "الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ". ثم كرر الدليل الأخير مرة ثالثة للإشارة للمنهاج. فيها تفصيل جم خاصة مع إقترانها بعدد أبواب المنهاج الإثنتى عشر، كما سيجئ بعون الله. يجدر بالذكر ما سبق أن إستدللنا عليه من أن المأكل والمشرب فى الذكر الحكيم له معنيان، متشابه وغير متشابه، وصح التفسير والتأويل على الوجهين. والله أعلم.
المعجزات البينات فى الطير أيد الله بها عددا آخر من الأنبياء. مع إبراهيم عليه السلام قال الحكيم العليم:
* وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ﴿البقرة: ٢٦٠﴾
مثال الطير فى إحياء الموتى مرة ثانية، هى الأولى زمنيا. التضمين لإعجاز الخالق فى خلقة، كيف يحيى الموتى بقدرته جل شأنه. فيها تأويل وإعجاز علمى لم يقف عليه بعد علم الذين يسعون معاجزين فى الله، يحاولون أن يبثوا الحياة فى الموتى، أو تخليق الأحياء ولو على مستوى البكتيريا. هيهات لهم، فالتحدى فى قوله تعالى: "وَاعْلَمْ "، وفيه الطير المثال على كيفية إحياء الموتى. ما لا يفهمونه أن إعجاز الخالق ليس فى تخليق الأحماض النووية فقط إنما أيضا بث الروح فيها التى هى من أمر الله وحده لا شريك له، وحيث خلق الله آدم عليه السلام من تراب. والله أعلم.
مع يوسف عليه السلام دخل الطير فى قضية التأويل، قول العزيز الحكيم:
* وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * ﴿يوسف: ٣٦﴾
فى التأويل قال:
* يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ * ﴿يوسف: ٤١﴾
كأن بطون الطير هى المآل الأخير للأحياء، بشرا أو ديدانا. فكل من عليها فان، وبأى آلاء ربكما تكذبان؟ رسالة التأويل وقوانينه عويصة المسالك مثل أحجار المتشابه، ليس مقامها، وقد أفردنا لها مدونة "تأويليات"، سيكون نظرنا فيها هناك بإذن الرحمن الرحيم.
مع داوود عليه السلام قال جل فضله:
* وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * ﴿سبإ: ١٠﴾
ثلاثة معجزات فى الجبال والطير والحديد، أيد الله بها نبيه داوود عليه السلام. قال فيها الزمخشرى:
< أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحاً كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح: معجزة لداود. وقيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها. وقرىء: «وَالطَّيْرَ»، رفعاً ونصباً، وعطفاً على لفظ الجبال ومحلها. وجوّزوا أن ينتصب مفعولاً معه، وأن يعطف على فضلاً، بمعنى وسخرنا له الطير. فإن قلت: أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال: {ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً} تأويب الجبال معه والطير؟ قلت: كم بينهما؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى: من الدلالة على عزّة الربوبية وكبرياء الإلٰهية، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذي إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا: إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت، إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته.>
< المسألة السابعة: ألان الله له الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير، فإنه يلين بالنار وينحل حتى يصير كالمداد الذي يكتب به، فأي عاقل يستبعد ذلك من قدرة الله، قيل إنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي الدروع، وإنما اختار الله له ذلك، لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وسعى في حفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزراد خير من القواس والسياف وغيرهما.>
هنا مثال للحد الفاصل بين توهم الخرافة عند المغرضين، زائغى القلوب (المضمون) وبين الحقيقة العلمية. بمعنى آخر التفسير بالظاهر والتأويل بالمضمون، بمعنى ثالث تفسير على أنه غير متشابه بظاهر النص، وتأويل المتشابه بناء على دليل لغوى أو عقلى أو علمى عصرى، سبق. نعم أيد الله رسله وأنبيائه بالمعجزات التى لم تكن لها تفسير على مر الزمن إلا بذلك الظاهر من النص محملة على قدرة الله جلت قدرته. نقول هى معجزات فعلية واقعية، آيات بينات للتدليل على الخالق جل وعلا. لكن هناك مقصود آخر على وجه ثانى مختبئ فى المتشابه من النص الخاص بالمعجزات، مقصود علمى وإعجاز هذا مثال له. مثل ذلك ما ذكرناه عن الطير وعيسى عليه السلام، أيده الله بمعجزة إحياء الموتى، إنما النص عن الطير فيه مجاز دلالة على إعجاز ثان. فهم السلف رحمهم الله أن الحديد قد ألانه الله لنبيه داوود كمعجزة تؤيده فى دعواه. فى عصر العلم نجد الأدلة الطبيعية على الإعجاز مستقطعا من سياق النبوة، أن فى صهر الحديد منافع للناس لا حصر لها فى أيامنا هذه، وكما ذكر الرازى عن صناعة الدروع كمثال، وعليها الشكر، مفاد قوله تعالى:
* فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚوَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ * (الأنبياء: 79 - 80﴾
واقع علمى حتى فى عصر نبينا داوود عليه السلام الذى كان فضل الله عليه علما. لقد علمه الله وحيا طريقة صهر الحديد لصناعة المنافع المتعددة، من باب الإعجاز التاريخى، الإحتمال الأرجح تأويلا فى قوله تعالى: "وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ". في الآية الكريمة الجبال والطير يسبحن بحمد الله تفسيرا وتثنية على أن كلا منهما أواب كما فى الآية الأولى. فيها تفصيل على المثانى. والله أعلم.
مثل ذلك جنود الله من الجن والإنس والطير الذى سخرها سبحانه وتعالى لنبيه سليمان عليه السلام فى رسالته الإيمانية ودعوى الناس لعبادة الله الواحد الأحد. الهدهد آتاه بنبأ ملكة سبأ وصفات عرشها. هم عفريت من الجن أن يأتيه بعرشها قبل أن يقوم من مقامه، أما الذى عنده علم من الكتاب فقد آتاه عرشها قبل أن يرتد إليه طرفه. هؤلاء هم جنود الله من الطير والجن والإنس على التوالى، ثم أسلمت الملكة مع سليمان عليه السلام. القصة قال فيها العلى القدير:
* وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * ﴿النمل: ١٧﴾
الرازى فى تفسيرها وضع الطير مع الجن والإنس فى مقام واحد من التكليف:
<وأما قوله: {وَحُشِرَ لِسْلَيْمَـٰنَ جُنُودُهُ مِنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْس وَٱلطَّيْرِ}، فالحشر هو الإحضار والجمع من الأماكن المختلفة، والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف، أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف فلذلك قلنا إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل، وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره.
وأما قوله تعالى: {فَهُمْ يُوزَعُونَ} معناه يحبسون وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع، ويكون له تسلط على من يرده ويكفه ويصرفه، فالظاهر يشهد بهذا القدر والذي جاء في الخبر من أنهم كانوا يمنعون من يتقدم ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب فغير ممتنع.>
في القصة إعجاز الهدهد وكيف إستدل سليمان، عليه السلام، عن طريقه إلى خبر ملكة سبأ وأحوالها. واضح المتشابه فى الحوار والنبأ اليقين. فيه تفصيل كثير تجد بعضا منه فى باب "هذه بضاعتنا". نحن لا نركن إلى الخرافات الماضية مع الأقدمين، عذرهم غياب الدليل، إنما نبنى على دلائل علمية ونظرية تتناسب وعصر العلم الذى به الناس يعاجزون الله، تستنبط منه. فكيف يجئ عفريت من الجن أو الذى على علم من الكتاب بعرش ملكة فى طرفة عين؟ أعداء الإسلام الماديون بالعلم يعدون مثل ذلك من الخرافات، شبهات يلقونها إفتراءا وبهتنانا على الإسلام، والحقيقة أن فى القصة علم جم لم يكشف عنه بعد، دليله فى القصة متعدد، منه أن الله وهب "علما" لداوود وسليمان عليهما السلام، قوله تعالى:
* وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا *
الذى منه علم منطق الطير. هذا عجيب فى حد ذاته، إعجاز مستقل عن القدرة العقلية للطير التى ترتقى إلى "المنطق"، الذى عده كثير من الفلاسفة أساس العلم. دليل العلم كذلك فى قوله: "بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ". أتفق - خاصة فى العصر الحديث - على أن السلطان جاء فى القرآن الكريم على أنه العلم، مثل ما جاء فى قوله تعالى
* يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ* ﴿الرحمن: ٣٣﴾
مقصوده العصرى علوم الفضاء، من الإعجاز الغيبى التاريخى. دليل العلم أيضا فى قوله تعالى: "بِنَبَإٍ يَقِينٍ"، فليس من يقين إلا بالعلم. ودليله فى قوله : "قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ"، وقوله: "وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا". من جانبنا وبعون الله وهداه نجلى بعض منه على قدر ما وسع الله علينا به من علمه، ضمن المتشابه الذى حير العقول لقرون مديدة.
أما قوله الحكيم العليم:
* وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ* (النمل: 20 -2)
ففيه إعجاز الهدهد، أنه لم يأت بنبأ ملكة سبأ إلا بأمر من الله، لا بناء على أمر أو رغبة من نبى الله بطبيعة التعلم، مثلما الحال مع الحمام الزاجل فى التراسل. فقد كان غائبا عن الفصيل وتوعده سليمان، لكنه إستدرك بأن الهدهد ربما كان فى مهمة ربانية على أمر من الله للإتيان بعلم لا يعلمه، فيسقط عنه الوعيد فى الإحتمالات المطروحة. هنا المثال الأمثل لحالة الطير فى الفاتيكان، أن النورس والغراب كانا على أمر من الله مثل الهدهد. والله أعلم.
من إعجازات جنود الله فى الأرض والسماوات الطير، حكاية الإمام فخر الدين الرازى، رحمه الله، مع الحمامة. وهو صاحب تفسير "مفاتيح الغيب"، العالم الموسوعى فى العلم الدينى أهمه التفسير وأصول الدين، وفى علم الكلام أشعريا، وفى العلم الطبيعى وريادته فى تأسيس علم الميكانيكا قبل نيوتن سواء. فلا غرو قد أيده الله بمعجزة من معجزاته. قيل فى الرواية المشهورة عنه أن طارد صقر حمامة فدخلت الحمامة الجامع، تخطت الصفوف وإستقرت فى حجر الرازى، فر الصقر ونجت الحمامة. أى أن إتيان الله بمعجزات الطير لم يقتصر على الرسل والأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، وحدهم. من هنا جاز الإمتداد للطير فى الفاتيكان، والله يعلم حيث يجعل رسالته، هو الأعلم.
لو تفحصت الإعجاز فى الذكر الحكيم وآياته التى أيد بها سبحانه وتعالى رسله وأنبيائه، لا تجد من المخلوقات إلا الطير كفاعل يحمل رسالة يؤديها بإعجاز. المخلوقات الأخرى التى ورد ذكرها وإن متضمنة فى آية من الإعجاز تقع مفعولا بها، لا فاعلة. الهدهد مع سليمان خير مثال، له دور وأتم مهمة، قام بفعل تمثل فى قوله تعالى: "فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ"، وقوله: "وَجِئْتُكَ". على خلاف بقرة بنى إسرائيل، أو ناقة نوح، أو الذبح العظيم فى فداء الأضحى، أو الحية مع موسى وإن كانت تسعى، أو النمل مع سليمان وإن تكلمت، أو الكلب مع أهل الكهف وإن بسط ذراعيه، أو الجراد والقمل وإن أرسلها ربها عقابا، أو الذباب وإن ضرب به المثل فى الإعجاز، أو الخنزير وإن حمل من الشريعة بابا، أو الحمار الذى يحمل أسفارا. ما يظهر معها من فعل هو دلالة على صفاتها أو أحوالها، وإن إكتنفته المعجزة العلمية بالغيب، فليس دلالة على فعل طاعة لأوامر إلهية كطاعة المسلم فى إتيان الفروض مختارا. أما قوله: " كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا " ففيه متشابه إعجاز علمى لا يدل على إستثناء من الطبيعة. كل هذه المخلوقات جزء من معجزة تدلل على إعجاز الخلق فيها، لكنها لم تقم فيها بدور أو فعل. الطير تتميز عنها بأن منها ما جاء فى موقع الفاعل، خصها الله به لحمل رسالاته البينة من المعجزات. من ثم تأتى بعد البشر فى مراتب الرقى بين الأحياء. وقد دل سبحانه على أن لها منطق. ألم يوحى إليها ربها كما فى حال النحل، الحشرة "الطائرة"، وأليس منها ما ينطق بلسان الإنسان، وألم يبعث الغراب وكأنه رسول؟
------------------------------------------------------
سبحانه وتعالى العلى القدير، الحكيم العليم، جعل فى الطير حكمة ومنطق ونظم إجتماعية وفوائد ونعم لبنى البشر، ثم حملها عبر الزمن والمتغيرات رسالات الإعجاز عبرة وعظة لمن يعتبر تدليلا على الإعجاز فى الخلق وتدليلا على أنه واحد أحد لا شريك له ولا ولد، والله يعلم حيث يجعل رسالته. نستنتج من هذا كله أن ما حدث فى الفاتيكان من هجوم النورس والغراب على حمائم السلام، ليس له تفسير ولا تأويل آخر سوى إعجاز الله يحمل رسالة إلى بنى البشر، مؤمنين وكفار، عليهم أن يقفوا على محتواها، وليستوعبوا معناها ليتحققوا من موعود الله ووحدانيته. والله أعلم.
مازال هناك نظر فى الموضوع فيما يأتى بإذن الرحمن وهداه. والحمد لله رب العالمين الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، جل فى علاه.
مسك الختام، آيات الخلاق العليم:
* سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *
صدق الله العظيم
-------------------------------