كل عام وأنتم بخير وسعادة، وأمة الإسلام فى سؤدد وسلام بإذن الرحمن.
الباب الأول: قصة الهجرة.
بسم الله الرحمن الرحيم:
* إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ﴿التوبة: ٤٠﴾
ميلاد جديد للإسلام ولرسوله المصطفى محمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة وازكى السلام، به عم الإسلام ثلث وجه الأرض وباتت أبدا كلمة الله هى العليا. يأبى الله إلا أن يتم نوره فى مشارق الأرض ومغاربها ولو كره كل من فى الأرض، فكانت الهجرة نصر من الله للإسلام وميلاد جديد، فيها العبرة والموعظة التى فيها مقالنا.
عن قصة الهجرة يقول القرطبى رحمه الله فى تفسيره "الجامع لأحكام القرآن":
< الرابعة ـ قوله تعالىٰ: {إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ} الغار: ثقب في الجبل، يعني غار ثَوْر. ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا: هذا شر شاغل لا يُطاق؛ فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمّى عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشِيَهم النوم، فوضع على رؤوسهم تراباً ونهض، فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أَرقْط.
ويُقال ابن أريقط، وكان كافراً لكنهما وثقا به، وكان دليلاً بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَوْخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جُمَح ونهضا نحو الغار في جبل ثَوْر، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلاً فيأخذ منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيُعَفّى آثارهما. فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار فقال: هنا انقطع الأثر. فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن ردّه عليهم. الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك ابن جعْشُم في ذلك مذكورة. وقد رُوي من حديث أبي الدّرداء وثَوْبان (رضي الله عنهما): أن الله عزّ وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردّهم ذلك عن الغار.
الخامسة ـ روى البخاريّ عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدِّيل هادياً خِرِّيتاً، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غارَ ثَوْر بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فُهيرة والدليلُ الدّيلي، فأخذ بهم طريق الساحل. قال المهلب: فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا عُلم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سِرّه في الخروج من مكة وعلى الناقتين.> ا.ه.
الثانى: ملابسات التفسير:
من طرائف الرازى رحمه الله فى تفسيره "مفاتيح الغيب" تفسير الضمير ومن المقصود بالسكينة:
< والوجه العاشر: قوله: {فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} ومن قال الضمير في قوله: {عَلَيْهِ} عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه:
الوجه الأول: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر، لأنه تعالى قال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}. والتقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن، وعلى هذا التقدير: فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر، فوجب عود الضمير إليه.
والوجه الثاني: أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً، فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه، أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس.
والوجه الثالث: أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال: إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا} فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره؟ ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال: فأنزل الله سكينته عليه، فقال لصاحبه لا تحزن، ولما لم يكن كذلك، بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن، ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة، وهو قوله: {فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر.> ا.ه.
نحن معه فى هذه المسألة لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لصاحيه رضى الله عنه: "لا تحزن إن الله معنا"، ولا يصدر ذلك إلا عن قلب ملؤه السكينة مفعم ومطمئن بالإيمان على يقين من نصرة الله لهما، لم يخالجه شك، ينبنى على سكينة متمكنة فيه. بخلاف موقعة "حنين" التى أنزل فيها السكينة صريحة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهم فى حال انكسار وفرار، قول الملك الحق:
* ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ * (التوبة: 26).
التأكيد فى ايجاب حرف الجر "على" مخصصة للرسول ومخصصة للمؤمنين، التفريق لا الجمع: "على رسوله والمؤمنين". كفوله تعالى: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج" فإختلفت الأسباب بين المناطات الثلاثة (الزمخشرى فى "الكشاف" وموضوعنا "الجدال والجدل"). هنا أيضا أسباب السكينة التى نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم تختلف عن الأسباب التى بها نزلت على المؤمنين. فى الهجرة لم تكن السكينة مقصود بها الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا لذكرت صراحة كما هى الحال فى سورة الفتح ايضا بنفس المنطوق قوله جل وعلا:
* فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ * (الفتح: 26).
فأينما قصد بها الرسول صلى عليه وسلم ذكر وأشير إليه صراحة، كان تعظيما لخاتم المرسلين أو كان من البيان. وعليه فضمير السكينة فى آية الهجرة راجع للصديق رضى الله عنه، تأويل الرازى. والله أعلم.
حيث أن التكرار ورد حرفيا مرتين، فهو يشير إلى المثانى، أن فى المثانى سكينة للمؤمنين، ما يمثل دليلا ثانيا لم كان التخصيص بالتفريق لا الجمع. آية قوله "على" فى الأيتين التدليل على ثنائية الفرد والمجتمع، مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كفرد والمؤمنون فى مقام الجماعة أو المجتمع، قدم فيها الفرد. أن تكون المثانى فيها سكينة المؤمنين، ربما كان دليلها فى قول العليم الحكيم:
* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ* ﴿الأعراف: ٥٣﴾.
جاء قوله "تأويله" مرتين بما يعنى إنتظار تأويل المثانى، وجاءت "نعمل" مرتين للتدليل على أن المقصود بإنتظار التاويل هو تأويل المثانى. وأن العمل بالمثانى أكثر إنضباطا وإرتفاقا بمقاصد الذكر الحكيم والحكم بما أنزل الله من حال قبل التأويل والإقتصار على الشرعة فى أسباب الإستخلاف فى الأرض. فإذا أضفت قوله "شفع" وذكرها مرتين أيضا فى نفس السياق، يصبح عندنا ثلاثة أدلة ما هو مطلوب الإستدلال فى المنهاج، من ثم فقد عنى بالعمل المنهاج ككل لا ينحصر فى المثانى وحدها، وعنى بإنتظار التأويل المنهاج أيضا. والله أعلم.
الملابسة الثانية عن الجنود التى لم ترى:
المفسرون قالوا بأن جنود الله فى الهجرة هى الملائكة، ومن قال بأنها الملائكة فى موقعة "بدر" بخروج عن السياق، وليس بدقيق البيان. فعندما يريد الله بها الملائكة فهى بالتنزيل وليس بالتأييد، والوارد فى الهجرة التأييد. فى موقعة "بدر" قال جلت قدرته:
* إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّـهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖفَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ * ( آل عمران: 122 - 4)
وقوله فى "حنين":
* لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙإِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * (التوبة: 25 - 6)
كلمة "جنود" كناية فليست بجنود مجيشة، المقصود بها كل من ساهم فى نجاح الهجرة. "لم تروها" المعنى بها لم تروها كجنود مجيشة، فليست بموقعة حربية حقيقية، وإن كانت الهجرة بمثابة موقعة بين المسلمين والكفار. إنما الجنود هم الصديق وعلى وعبد الله ابن ابى بكر وأسماء ابنته وعامر بن فهيرة رضوان الله عليهم، والدليل من الكفار ابن أرقط، وأن الله أعمى أبصار الكفار فغشيهم النعاس، ثم الغنم والعنكبوت والحمام (القصة أعلاه). ولو كانت الأخيرتين فقط كجند الله لسددتا المعنى الذى نسعى إليه. وقد قال تعالى:"ولله جنود السماوات والأرض"، داخل فيها العنكبوت والحمام، تلك التى مسيرة بمقدرة الله وإرادته. أما القول بأن "لم تروها" لأنها من الملائكة فمردود لأن ذكرهم مقرون بالتنزيل حالهم فى موقعتى "بدر" و"حنين". بهذا يصدق التأييد وليس التنزيل، فكل من شاركوا فيها من الصحابة رضوان الله عليهم، مؤيدين بإرادتهم وإيمانهم بالرسول صلوات الله عليه وسلامه.، ثم أيده الله بغشى الأبصار وبالعنكبوت والحمام. والله أعلم.
الثالث: السنة الهجرية كتقويم.
قوله جلت قدرته:
* هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّـهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * ﴿يونس: ٥﴾.
الإمام فخر الدين الرازى كأحد الراسخين فى العلم كان تفسيره أكثر علميا من غيره، يكفيه التأسيس لعلم الميكانيكا فى هذا الأمر. نترك له مع "الويكيبيديا" هذا الباب، وإن كنا لسنا على وفاق معه فى الكلاميات مع تقدم العلوم، لا ننتقص من إجتهاده ورسوخه وأعماله الجليلة شيئا إن خالفنا، إنما التحديث والإضافه، كما هو الشأن مع كل علماء الإسلام وائمته الأفاضل، فلولا علمهم وإجتهادهم ما كنا سطرنا فى المنهاج بعد هدى الرحمن جلت أنعمه، رحمهم الله وأثابهم من فضله.
< وإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المتساوية في تمام الماهية تكون متساوية في جميع لوازم الماهية، فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي، فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر، وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضاً، وبالعكس. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر، واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد. وتقدير مقدر وذلك هو المطلوب، فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل، وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل، فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً} وهو المطلوب.
المسألة الخامسة: اعلم أن النور كيفية قابلة للأشد والأضعف، فإن نور الصباح أضعف من النور الحاصل في أول النهار قبل طلوع الشمس،وهو أضعف من النور الحاصل في أفنية الجدران عند طلوع الشمس، وهو أضعف من النور الساطع من الشمس على الجدران، وهو أضعف من الضوء القائم بجرم الشمس، فكمال هذه الكيفية المسماة بالضوء على ما يحس به في جرم الشمس، وهو في الإمكان وجود مرتبة في الضوء أقوى من الكيفية القائمة بالشمس، فهو من مواقف العقول. واختلف الناس في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض؟ والحق أنه عرض، وهو كيفية مخصوصة، وإذا ثبت أنه عرض فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس أو لأجل أن الله تعالى أجرى عادته بخلق هذه الكيفية في الأجرام المقابلة لقرص الشمس على سبيل العادة، فهي مباحث عميقة، وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات.
..................................
------------------------
المسألة السابعة: الضمير في قوله: {وَقَدَّرَهُ} فيه وجهان: الأول: أنه لهما، وإنما وحد الضمير للإيجاز، وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر، ونظيره قوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62]
والثاني: أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى القمر وحده، لأن بسير القمر تعرف الشهور، وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى:
{ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } [التوبة: 36].
المسألة الثامنة: اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل. وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم. وبحركة القمر تحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم. وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار يكون زماناً للتكسب والطلب، والليل يكون زماناً للراحة، وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف، وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله على الخلق وعظم عنايته بهم.> ا.ه.
السنة الهجرية فى "الويكبيديا" وإعجاز التقويم:
< تاريخ التقويم الهجرى:
أنشأه الخليفة عمر بن الخطاب وجعل هجرة الرسول من مكة إلى المدينة في 22 ربیع الأول (24 سبتمبر عام 622م) مرجعاً لأول سنة فيه، وهذا هو سبب تسميته التقويم الهجري. رغم أن التقويم أنشئ في عهد المسلمين إلاّ أن أسماء الأشهر والتقويم القمري كان تستخدم منذ أيام الجاهلية. أول یوم هذا التقویم الجمعة 1 محرم سنه 1 الهجری قمری (16 يوليو عام622م).
تتخذ بعض البلدان العربية مثل السعودية التقويم الهجري كتقويم رسمي لتوثيق المكاتبات الرسمية بين دوائر الدولة الرسمية إلاّ أن عامّة الشعوب العربية تألف وتتعامل بالتقويم الميلادي عنه من التقويم الهجري باستثناء المملكة العربية السعودية التي تتعامل بالتقويم الهجري على المستويين، الرسمي والشعبي.
أشهر التقويم الهجري:
يتكون التقويم الهجري من 12 شهر قمري أي أن السنة الهجرية تساوي 354 يوما تقريباً، بالتحديد 354.367056 يوم، والشهر في التقويم الهجري إما أن يكون 29 أو 30 يوماً (لأن دروة القمر الظاهرية تساوي 29.530588 يوم). وبما أن هناك فارق 11.2 يوم تقريبًا بين التقويم الميلادي الشائع والتقويم الهجري فإن التقويمين لا يتزامنان مما يجعل التحويل بين التقويمين أكثر صعوبة.
إجتماع العرب لتوحيد الأشهر:
في سنة 412م وقبل البعثة النبوية ب150 سنة وبمكة المكرمة اجتمع العرب سواء من رؤساء القبائل أو الوفود في حج ذاك العام أيام كلاب بن مرة جد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخامس، لتحديد أسماء جديدة للأشهر يتفق عليها جميع العرب واهل الجزيرة العربية بعد أن كانت القبائل تسمي الأشهر بأسماء مختلفة، فتوحدوا على الأسماء التالية مع أسباب التسمية.
الأشهر في التقويم الهجري: .......................................
التحويل بين التقويمين الهجري والميلادي:
ورد بالقرآن في سورة الكهف: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ وفي تفسيرها: عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنة شمسية وهنا ذكر ثلثمائة قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون في ثلثمائة تسع سنين فلذلك ﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾[1].
رغم أن التفاسير اختلفت فالبعض [بحاجة لدقة أكثر] قال ان المقصود هو انهم لبثوا ثلاثمئة وتسع سنين، والبعض ذهب انهم لبثوا ثلاثمئة سنين وتسعة ايام أو تسعة شهور أو تسعة ساعات أو تسع جُمع.... وعموما كان وقت المفسرين يعرفون كيف يحسبون السنين الميلادية والهجرية، أي باختلاف سني الشمس والقمر؛ لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين.[1]
تقويم أم القرى:
تقويم أم القرى هو تقويم قمري يعتمد على دورة القمر لتحديد الأشهر وكذلك جزء منه تقويم شمسي لتحديد فصول السنة، وهو التقويم الرسمي لـ المملكة العربية السعودية الذي تؤرخ به على المستويين الرسمي والشعبي. ويعتمد إحداثيات (خط الطول وخط العرض) للكعبة المشرفة في مكة المكرمة أساسا لتقويم أم القرى، ويعتمد على ولادة الهلال فلكيا حال غروب القمر بعد غروب الشمس في مكة المكرمة.
التقويم الهجري المجدول:
التقويم الهجري المجدول (Tabular Islamic Calendar)، تقویم عالمي هجري يعتمد علي محاسبة عدديه (مجدول) يستخدمه المورخون لتسهيل محاسبته. الشهور في هذا التقويم توالي من 30 يوم في شهور المنفرد مثل المحرم و 29 يوم في شهور المزدوج مثل الصفر. ویکون شهر الآخر (ذو الحجة) في سنوات الکبیسة یکون 30 یوما. یکون 11 سنة کبیسة في کل من 30 سنة. إذا تقسم السنة الهجری علی عدد 30 وتبقی عدد من اعداد: (2 - 5 - 7 - 10 - 13 - 16 - 18 - 21 - 24 - 26 - 29) یکون السنة سنة کبیسة. هذا التقویم یمکن أن یکون متغایر مع تقويم أم القري أو تقاویم هجری أخری في یوم أو یومان. تاریخه الیوم یکون: 27 ذو الحجة 1433 هجري مجدول.> ا.ه.
الرابع: ارض منهاج الله الواسعة، فلتهاجروا إلى الله:
قال العفو الغفور:
* إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَـٰئِكَ عَسَى اللَّـهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا * ﴿النساء: 97 - 101﴾.
ذكرت الهجرة ثلاث مرات فى وحدة سياقية منهاجية إستدلالا على أن المقصود به هو الهجرة إلى منهاج الله. ليست هجرة مكانية كما كان الشأن مع الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما هجرة إيمانية بها يتم الله نعمته علي المسلمين بالمنهاج ومثانيه إضافة إلى الشرعة. فى الأولى تسبيب للإستضعاف وظلم النفس حيث أرض الله الواسعة ثم المآل لهؤلاء جهنم وساءت مصيرا، فكانت الهجرة مطلب إيمانى. فى الثانية أيضا تسبيب للطلب والجهاد فى سبيل الله على أرض الله الواسعة. فى الثالثة النوعية والغاية من أنها هجرة إلى الله ورسوله، قوله: "وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ"، هجرة معنوية عقلية وفكرية فى رحاب القرآن وسعة المنهاج، مؤكدة ثلاثا. عنى بأرض الله الواسعة كليهما الأرض الطبيعية وأرض المنهاج ومثانيه التى هى كليات شاملة جامعة للوجود بأكمله بخلاف الشرعة التى لا تفى وحدها بمطلب الإستخلاف فى الأرض.
كرر ذكر قوله تعالى: " الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ" مرتين على مدار الذكر الحكيم، دليل على أن الإستضعاف بسبب من غياب المثانى وأن فى المثانى عناصر القوة والغلبة. والله أعلم.
الهجرتين والأرضين مقصودهما مقرر فى قوله تعالى:
* إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ *
الجمهور من المفسرين قالوا بثانى إثنين عددا، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يشار إليه عددا وهو المرسل من عند الله رحمة للعالمين، تقلل من شأنه الذى مدحه وذكاه رب العزة أكثر من مرة لا يحتاج إلى بيان. منه أن الرسول لا يكون ثانيا فى المقام إنما هو فى حقيقة الأمر الأول وليس ثانيا تبيانا ومقصدا، إنما الثانى فى المقام هو الصديق أبو بكر رضى الله عنه فى الصحبة، قوله "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ". الصاحب يجئ ثانيا فى الإستدلال تكوينا. من هنا الدليل العقلى من أن قوله "ثَانِيَ اثْنَيْنِ" من المتشابهات. وهو من المتشابهات بتكرار التثنية، "ثانى" و "إثنين" على الجذر من البعيد فى التأويل على المثانى. هذا برهاننا بأن المقصد أن هناك هجرتين، الأولى مكانية بالظاهر من القول يطابقه الواقع من الأمر، هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وميلاد جديد له وللإسلام. الثانية من البعيد هجرة من الإقتصار على الشرعة فى الإستخلاف والإيمان إلى السير على ساقى أصول الدين، الشرعة والمنهاج. هناك تشابه بين الهجرتين فى مآلهما. الهجرة المكانية لم تعن الترك إنما الإنقاذ. لم تعن ترك مكة مهبط الرسالة السماوية، ومقام إبراهيم عليه السلام، إنما إنقاذ الرسول والإسلام من جور الكفار وتبييتهم للرسول. فتحت مكة فيما بعد فلم تكن الهجرة تركا بالأصل. فى الهجرة الثانية نفس الأمر أنها ليست تركا للشرعة، إنما إدراك تمام الدين والحكم بما أنزل الله شرعة ومنهاجا. هى تركا للجمود والعقم فى الإجتهاد والتقليد والتقهقر سلفا والتشيع ثم جدب الدعوة التى حلت بالأمة بعد الإنحسار فى الأندلس، فبات المسلمون شيعا بالإنحصار فى الجزئيات، والمنهاج ومثانيه أرض خصبة واسعة فى العقل والتطبيق كليهما، بإتساع البحر من النهر. أنه ليس من صحيح الدين الإقتصار على الشرعة فتسبيب للهجرة الثانية.
فى الإتساع قال الحكيم العليم:
* لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ﴿التوبة: ٢٥﴾.
وقال:
* وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * ﴿التوبة: ١١٨﴾.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(308) " من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام "، صدق رسول الله.
المعنى مطابق بين الذكر الحكيم والحديث الشريف، أن الهجرة من الإيمان إذا ثبت الإستضعاف، كانت هجرة فردية أو جماعية، مكانية أو عقلية بغيتها نصرة النفس والإسلام. الهجرة المعنوية تستقى من قوله "وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ"، وقوله: "ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ"، قوله "مدبرين" فيها الإتساع من الأرض المكانية، فلا يستوى الضيق منها والإدبار وكان المقصد بقوله: "بِمَا رَحُبَتْ"، ليس مكانيا إنما الأسباب والإستدلال والسبل وما إليها فى العقل والإيمان.. والهجرة معنوية فى قول العلى القدير:
* فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ﴿العنكبوت: ٢٦﴾
ليست الهجرة هنا مكانية إنما معنوية إيمانية إلى منهاج الله، وهو المطلوب.
جدير بالذكر فى الموضوع أن القصص القرآنى يقع معظمه فى المتشابهات، فيه من أنباء الغيب والمنهاج والعقيدة، بيانه تضمنه للمجاز، ليس بمحكم من ثم يلزمه التأويل. ففى القصص ثلاث مقاصد، أنباء الغيب ما قد سلف وإلى يوم الساعة، لما فيها من عظة وعبرة وبرهان الألوهية، والمنهاج للعمل به والحكم بما أنزل الله، كما فيه باب الإعجاز العلمى من أنباء الغيب وعليه براهين الخلق وآيات الآفاق، وفيه السبع المثانى كليات الوجود أدلتها المبدئية مطمورة فى القصص، فضلا عما يتضمنه من عقيديات وإثبات الإله الخالق مرسل الرسل والأنبياء، رسلا تترى على قلب رجل واحد من لدن إله واحد لا شريك له ولا ولد.
الطريق الأولى إليه التفسير بظاهر القول وما كان من مطابقة لواقع الأمور، الراحج فى لغة الرازى، والثانية بالتأويل، المرجوح فى لغته، كلاهما جائز وليس فيه من تقول على الله، إلى أن يتحول الراجح إلى مرجوح، أو المتشابه إلى محكم فيبطل ما عداه. ليس فى ذلك ظاهرية إنما إجتهاد يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب، كلاهما مثاب عند الله بإذنه، وللظاهرية مذهبها المعروف الذى لم يلق القبول عند أهل السنة والجماعة. هو تمهيد الطريق للصواب من المعنى وتكشف المضمون بعد إحتمال، فتستبين الحقيقة بالتأويل بناء على دليل ثابت عقلى أو نقلى لا شبهة فيه، وردت أدلة الطريق فى سورة الكهف.
هنا مبحث عظيم، فلم يقال بعد كل ما على التأويل وأدواته، لسبب بسيط أن المتشابه والمنهاج يعتبران حقلا بكرا، أبوابهما موصدة بسبب مقولة لا إجتهاد مع النص وفهمها الخاطئ، وبسبب تفسير "الواو" فى "والراسخون فى العلم"(آل عمران: 7) بأنها على الإبتداء، قليل ما هم الذين قالوا بالعطف من متأخريهم الإمام محمد عبده، إضافة إلى التفريط فى المنهاج بالقول أن السبع المثانى هى فاتحة الكتاب وعليه الجمهور، وبسبب الإختلاف حول مفهوم النص. من العوامل الفاعلة فى الأبواب الموصدة أن أحدا بقدر علمنا لم يجب إجابة شافيه وافية على سؤال ما فائدة المتشابه وما الطريق إلى سبر أغواره وكيف العمل به مقارنة بمحكم الشريعة الذى يحتل تقريبا ثلث القرآن. الشرعة ضاقت بها البحوث حتى قيل كما ذكرنا أنها قتلت بحثا، المعنى فى قوله: "ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ"، أما المنهاج فمازال بكرا، والله تعالى جل فضله قد جعل لنا كليهما نبراسا للإستخلاف فى الأرض فى معرض الحديث عن الحكم بما أنزل الله، قوله جلت حكمته:
* وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * ﴿المائدة: ٤٨﴾.
فلتهاجروا إلى منهاج الله جل شأنه، يثبكم الله من فضله ويصلح لكم أعمالكم بعد تخلف، وحيث ضاقت عليكم الأرض فى الإستدلال والإستنباط وفيها رحاب المنهاج. فى سورة التوبة كررت "ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ" مرتين وفى سياق الحديث عن ثنائية الكيف والكم، قوله تعالى: "أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ". وعليه كان المقصود فى قوله: "بِمَا رَحُبَتْ" هى رحاب المثانى، وقد ذكرنا ذلك فى موضوع المنهاج كيف أن قوله: "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا.." الآية، ينطبق على المثانى. ثم إنه فى آية الهجرة قول العلى القدير:
* إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ﴿التوبة: ٤٠﴾
كررت "إِذْ" ثلاث مرات، إشارة للمنهاج، من التأويل البعيد الذى قال به إبن رشد رحمه الله. البعيد هذه فى ثلاثة أنواع، الأول ما عنيه إبن رشد من أنه فى العقل، تدليل وإجتهاد وقدح للعقل أكثر. البعيد الثانى عندنا فى الزمن، أن دليله متأخر لم يتوفر عليه الأولون، ومنه ما لم يتوفر بين أيدينا بعد. البعيد الثالث فى تأويل المنهاج أنه ليس بالتأويل المعروف دلائله فى الشرعة أو العقيدة، مبناه الأول التكرار وثلاث من الأدلة، يحتاج البعيد الرشدى أكثر من غيره. وليكن هذا النوع "بعيد التكرار"، بعيد فى الإستدلال على مكانه فى الذكر الحكيم، بمعنى أين هو؟ فى التفصيل يتفرع إلى درجات، فإن وقع التكرار فى نفس الآية كان قاطعا بالقرب فى المكان وإن كان بعيدا فى الإستدلال، ثم بعيدا فى آيات مختلفة متتاليات فى وحدة سياق منهاجية، ثم بعيد بالتكرار فى نفس السورة، ثم الأبعد مكررا فى سور مختلفة، دلائله متوافرة فى الذكر الحكيم، فيها تفصيل يجئ فيما بعد بإذنه تعالى. مثال الأول قوله "إِذْ" فى الآية الكريمة. مثال الثانى ما ذكرناه أعلاه وتكرار الهجرة ثلاثا فى سياق واحد وآيات متتاليات فى سورة النساء، وفى آيات القبلة وثنائية المجتمع والفرد فى البقرة، سبق. ومثال الثالث فيما يجئ بعد وقوله: "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ"، من الأبعد مكانا.
قوله "إذ" فى الآية الكريمة يعنى أن المسلمين فى يوم من الأيام، سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة، سيفتقرون إلى هجرة أخرى، ليست هجرة مكانية، إنما هجرة إلى منهاج الله فى الحياة، بعد هجران فى التدبر، وبعد تخلف وعوار فى الأعمال، وبعد أن سلبهم النهضة وأسبابها ومنحها لغيرهم. وما زال المسلمون يمشون فى الأرض على ساق واحدة من أصول الدين. إنه التصديق لما بين أيدينا، سبحانه وتعالى العزيز الحكيم جلت قدرته. هجرة إلى المنهاج، هجرة فى الأدمغة والفكر والممارسات والحكم بما أنزل الله (سبق منه فى موضوع: مرجعية الدستور)، قول العليم الحكيم:
* إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّـهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ* ﴿المائدة: ٤٤﴾.
الثمن القليل فى المتشابه الذى دأب المفسرون على نسخه فإبطال المنهاج.
وقوله:
* وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * ﴿المائدة: ٤٥﴾.
وقوله:
* وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * (المائدة: ٤٨).
كررت "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ" ثلاث مرات فى نفس السياق فى نفس السورة، أعقبها المقصود "شِرۡعَةً۬ وَمِنۡهَاجً۬اۚ "، فالمطلوب إستبقوا الخيرات فى كليهما سويا، ما فيه مدادنا بعون الله. قرر سبحانه فى الآيات الثلاث أن من لا يحكمون بما أنزل الله فئات ثلاث: الكافرون والظالمون والفاسقون، وهم نفس الفئات التى لا يهديها الله. فإستبقوا الخيرات يهديكم الله إلى صراطه المستقيم ويصلح لكم أعمالكم. والله أعلم.
الخامس: جدب الدعوة:
قال العزيز الرحيم:
* ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * ﴿النحل: ١٢٥﴾
الدعوة لا تكون بين المسلمين إنما غيرهم، أما المنابر فعليها التبصير للمسلمين بأمور دينهم، هناك فرق. وفى الدعوة طرفان وحجتان فى جدال. إن غلبت حجة الداعى حجة الآخر كان التأثير والفاعلية، مع العكس يكون جدب الدعوة. الحجة فى الآية الكريمة هى الحكمة والموعظة، الوسيلة فيها الجدال. فبماذا تجيب فى عصر العلم من يقول بأن القرآن يخالف سنن الطبيعة عندما يقول أن هناك مشرقان ومغربان؟ هنا حجتان، حجة القرآن وحجة العلم المنظور. مطلوب الجدال أن تقارع العلم بالعلم والحكمة بالحكمة، إن شئت قلت الفلسفة ولا ضير، إنما الأحسن. فى صدر الإسلام إمتد إنتصاره من الأندلس غربا إلى الشرق الأقصى بالحجة الناصعة والعقول النيرة، حين لم يكن هناك من تقدم علمى وفسلفى يبهر العالم ويحكم أمورهم مثلما هى الحال اليوم. اليوم ذهب الناس إلى تأليه العلم مثلما يقولون بأن نيوتن هو نبى العلم فى الغرب، أدى بالرئيس الأمريكى بوش الصغير أن يصف نفسه بأنه رب هذه الأيام. فى الدعوة إذن علينا أن نعى الأسباب ثم نجابه بالحجة الأنصع. بوش الآن مثل فرعون فى القدم الذى قال أنا ربكم الإعلى. ومثله بابا الفاتيكان الذى لم يعلن ربوبيته مثل بوش لكن الناس فى الغرب يعبدونه على هذه الصفة. نحن لا نعادى دينا من الأديان بل العكس، المنهاج يحتضن كل الرسالات والنبوات بلا تحريف، أحد معاول الدعوة للدين الحق.الأسباب عند بوش تنوير وفلسفة وعلم بنى على فلسفة علمية منذ عصر النهضة. وعندما تجابه العلم والفلسفة بالدين عليك أن تنقيه أولا من الخرافات التى ليس لها مكان فى عصر العلم. ثم ثانيا المثال، أن تضرب المثل وتكون محلها فى الثقافات المتعددة، وليس حال العالم الإسلامى بقادر على هذه المجابهة بالتخلف ومع التغريب الذى زحف على القيم والمبادئ فضلا عن اللغة والدين. ثم عليك بالحكمة ثالثا التى تعرف عند علماء الإسلام بأنها فلسفة مجازيا. لا تجد هذه فى الشرعة إنما المنهاج. فلسفة الغرب بدأت بالتنوير وإبن رشد على أرضية إسلامية العلم، جحدها الغرب، وفى القرآن تنوير وحكمة وعلم طبيعى ونظرى لم ينل منها المسلمون مأربها بعد على أصولها. بإختصار هو المنهاج الذى يمكنه الثبات والفعالية فى هذا المضمار الوعر مع تأليه العلم. فى مقام سالف أشرنا إلى المثانى بأنها تجب كل الوضعيات الفلسفية.
إن كان للحكمة مكان فى الذكر الحكيم لا يكون إلا المنهاج، لا الشريعة ولا العقيدة. قيل فى إبن رشد أنه الحكيم وقيل الفيلسوف، فتقاربت الحكمة والفلسفة، وإن كان هناك فرق الوضعى من الوحى فى منظورنا، له مقام آخر. منه أن المقصود بقوله تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ" أنه بالمنهاج وما يتضمنه من تنوير وكليات الوجود المثانى. والله أعلم.
فاستبقوا الخيرات ولتنتصروا للمنهاج ينصركم الله، لندرك مسالك الإستخلاف فى الأرض على أصولها وكمالها. تلك هى الدعوة للهجرة الثانية وكى تصبح الدعوة للدين الحق مؤازرة ومؤيدة بحجة بالغة، حكمة الله الحكيم العليم. وصف نفسه تعالى بالحكيم ووصف نفسه بالعليم، كلاهما يسطر فى الذكر الحكيم بحروف من نور مبهرة للعقول، أكثر ما تكون فى المنهاج ومثانيه وأبوابه الإثنى عشر. مشوار ليس فيه ميسرة إزاء من يدعون الألوهية بالعلم، مطلوبه العزم وإنفتاح العقول، وإزاء الحرب الضروس على الإسلام. المطلب ذو شقين، الدفاع فى هذه الحرب الشرسة بالإرهاب وغيره، وفى الدعوة إلى عبادة خالق العباد بدلا من العباد المخلوقين. فلتهاجروا مرة ثانية، يثبكم الله من فضله، ينصر من ينصره بإذنه أرحم الرحمين.
والله أعلم بالحق فيما سطر، هو الهادى إلى الصراط المستقيم وبه التوفيق والرشاد، نحمده ونشكره ونستهديه.
- Printer-friendly version
- 846 views