نجئ للرأى القائل بالجهة، أجمعت الأمة، أئمتها وعلمائها وجهالها بالدعاء والتضرع برفع اليد متجهة إلى السماء حيث الإله، جل وعلا. بالرغم من هذا الإجماع هناك من يخالف على المكان، فقد إختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، نفس الدليل الذى يجمع بينهم بعد طول شتات بإذنه تعالى، موضوعنا.
أولا: ماذا فى السماء؟ وكيف ترى كوكبنا الأرضى نسبة إلى الكون؟ التقديرات الفلكية تقريبية، تقول إحداها فى بساطة بلا إسهاب علمى: الشمس أكبر من الأرض مليون مرة:
(اللأرض نقطة صغيرة إلى اليسار من الكواكب الأخرى التى تدور حول الشمس)
وتتألف مجرتنا (درب التبانة) التي تضم مجموعتنا الشمسية من 200 مليار على الأقل من النجوم مثل شمسنا (فى التقديرات الأخيرة العدد يقترب من 400 مليار). النظام الشمسي بأكمله هو 200/1 من المليار من مجرتنا. منه أنه من الصعب أن ترى شمسنا عند النظر في درب التبانة:
(مجرة درب التبانة، الشمس إحدى النقاط الصغيرة)
الكون به 100 مليار مجرة. حتى مجرتنا هى 100/1 مليار من الكون. إذا كان لنا أن ننظر في الكون، فإن كل مجرة تبدو وكأنها نقطة مشرقة ضئيلة للغاية. العدد المقدر من النجوم في الكون حوالى 20 مليار تريليون (أو 20 sextillion) نجم:
(مجرة درب التبانة إحدى هذه النقاط)
ثانيا: من هذا المنظور الفلكى، شمسنا تمثل 20/1 من مليار تريليون من نجوم الكون، فيمكن تقدير كوكب الأرض على أنه 1/ مليون من الرقم السابق، ما من شأنه أن يجعل نصيبنا الأرضى من الكون:
%.000000000000000000000000005
فمن منظور الكون، الأرض تبلغ تقريبا لا شيء.
http://onewithnow.com/a-view-of-our-place-in-the-universe/
ثالثا: يقولون أيضا بأن سرعة دوران الأرض حول محورها، حول نفسها، يصل إلى حوالى 1,600 (ألف وستمائة) كيلو متر فى الساعة. بحسبة بسيطة فإن اليد المرفوعة إلى السماء تتحرك مع صاحبها بسرعة حوالى نصف كيلومتر فى الثانية الواحدة. أى أن الذى يدعو مع كل كلمة فى دعائه، لا تشير يده إلى نفس المكان فى السماء الذى كانت تشير إليه من ثانية مضت، بالرغم من سكون اليد عند الدعاء. فمن قال من المتكلمين بأن الله فى السماء ويقصد جهة محددة فهو قول باطل، ليس هناك دليل علمى عليه هذه الأيام، غير متحقق من حيث الواقع. بمعنى آخر إن كانت هناك تلك الجهة فلن يقصدها القاصد وهو على الأرض فى كل المرات، لأن السماء ليلا غير السماء نهارا، إلا أن تكون فى مركبة فضائية ثابتة المدار، نظرية المدار الذى يدور فيه القمر الصناعى لبث الإرسال التليفزيونى إلى الأرض، فهو يدور بنفس سرعة دوران الأرض حتى يشير إرساله لمكان ثابت على الأرض، زاوية إستقبال القناة. وحتى من القمر الصناعى فهو تابع للأرض مثل القمر الطبيعى، يدور معها حول الشمس:
(مدار الأرض حول الشمس، حيث تدور الأرض حول محورها المائل قليلاً عمودياً على مدارها الشمسى)
ليس هذا فحسب، فإن الأرض تدور فى مدارها حول الشمس بسرعة تصل لحوالى 107,000 كيلومتر فى الساعة، أى حوالى 3 كيلومتر فى الثانية، سرعة تحرك الأرض ومن عليها حول الشمس (سرعات فائقة فى الفضاء لا يحسها البشر). فاليد الممدودة إلى السماء فى الدعاء تتحرك فى إتجاهين، بسرعة نصف كيلومتر فى إتجاه، وثلاث كيلومترات كل ثانية فى الإتجاة الثانى. فهل تشير اليد إلى نفس السماء مع كل حرف يقال فى الدعاء؟ هندسيا، إذا إفترضنا أن اليد لها شعاع يشير إلى السماء، مثل الكشافات الليلية الكبيرة أو ما تراه فى الإحتفالات، وكانت المسافة التى يقطعها نصف كيلومتر مثلا، شكلت هذه الحركة قطاع من كرة. وبتصور بسيط عن المسافة التى يتحركها الشعاع على إمتداد الكون، على بعد مليون كيلومتر مثلا، تكون المسافة التى يتحركها الشعاع تخيلية بإمتداد الكون الرهيب. لو أن اليد ظلت مرفوعة إلى السماء لمدة 24 ساعة لأشارت فى مسح فضائى إلى الكون بأكمله بدلا من القطاع السابق المحدود. هى نفس النتبجة بإعتبار جميع المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها. فإن قصدت الإله الذى فى السماء فقد قصدته فى الكون بأكمله، أى التسليم بأن الله موجود فى كل الوجود. منه أنهم ينفون الجهة من حيث يريدون إثباتها، بل من المستحيل إثباتها على أساس من منجزات العلم الحديث.
فائدة: مفاد ذلك العلم أنك فى الدعاء لا تشير يدك إلى مكان واحد الذى يفترضه أهل القول بالجهة أوالمكان أو الجسم. ومن قالوا بأن الله فى كل مكان قد أصابوا من هذه الزاوية العلمية الحديثة مع فرض جهة ثابتة، فليست كذلك. أصحاب هذا القول ردوا مغالطة رفع اليد إلى السماء بالدعاء، وإن كانت فى الحقيقة لا تشير إلى ثابت، بأن مقصودها ليس جهة مكانية معينة، إنما جهة العلو والسمو المعنوية التى تليق بالإله، ولله المثل الأعلى. نحن هنا نثبت بأن رفع اليد إلى السماء تشير إلى أن الله موجود فى كل الوجود. ليس المقصود الدلالة المعنوية فقط إنما المادية أيضا، فلله المثل الأعلى وموجود فى كل مكان، كليهما. مع التسليم بهذا القول، ما ذا عن دعاء المصلى فى السجود وليس مستقبلا قبلة السماء التى فيها الإله، بل قالوا بأنه أكثر الدعاء قربا من لله، يقصدون حالة الخشوع، فهل يصل دعاؤه إلى ربه فى السماء؟
بقى تعريف السماء: فى اللغة كل ما سما وعلا، وفى العلم يقصد بها الغلاف الجوى ذى اللون الأزرق نهارا، ويقصد بها الأوسع وهو الكون بما فيه من كواكب ونجوم ومجرات. أيا كان التوجه فهو إلى السماء الأعلى، كانت الغلاف الجوى أو الكون بأكمله، إعتمادا على ما توصل إليه العلم، وكليهما مشار إليه فى الذكر الحكيم، لا يغير شيئا مما توصلنا إليه فى المسألة. مذكور أيضا أن هناك سبع سماوات طباقا، بمعنى أن السماء الدنيا محتواه فى السماء الأعلى منها، الثانية التالية، وهذه محتواه فى الثالثة وهكذا، فى كرات متداخلة لا مركزية. إذا إفترضنا أن للأرض سماء وللشمس سماء، كانت سماء الأرض محتواه فى سماء الشمس، الدائرة الأكبر، وسماء الشمس محتواه فى سماء مجرة درب التبانة، وهكذا. فأى سماء تشير إليها اليد فى الدعاء؟ فإن قلنا أن الله فى السماء الأعلى السابعة التى تشير إليها اليد أثبتنا الجسمية والتشبيه.
منه لو تعمد الداعى أو المصلى التوجه لمكان ما أو وجهة ما فيها الإله فليس بقاصدها البتة، وقد فاته الإله. فى الحقيقة وكما ذكر فإن إتجاه الشعاع الصادر عن اليد إلى السماء يرسم كرة مركزية وليس خطا مستقيما فى الفضاء كما هو التصور لو أن اليد ثابتة لا تتحرك مع فرض سكون الأرض، التصور الفلكى القديم. الأصح علميا وكما جاء فى الذكر الحكيم، أن الله فى كل مكان حتى لو تعمدت التوجه لجهة معينة التى هى السماء، كنت رافعا اليد إلى السماء أو ساجدا. فيه تفصيل بإذنه تعالى، إنما مقصدنا هنا نفى الجهة من الثبات التى قصدوها. وعليه فقد تحقق علميا مفاد قوله الحكيم العليم:
* فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ * (البقرة: 115)
مفاد ذلك فى الدلالة أنه لم بتكشف من قبل الدليل الطبيعى المطلوب لتأويل الدليل القرآنى الذى وضع متشابها لتأخر الدليل الطبيعى زمنيا، المفهوم الفصيح لخاتمية الرسالة وتضمينها المتشابه، مطلوبه التأويل البعيد زمنيا وعقليا، المفهوم الذى لم يبسط على أصوله من قبل. دل الطبيعى بالتأويل على مقصود النقلى، وبه دل النقلى على إعجاز الله فى الكون، أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، الذى يثبت أن وجه الله أينما تولى المصلى من حيث العبادة، وأن الله موجود فى كل الوجود من حيث الإعتقاد، ودل فى المآل على أنه تعالى واحد أحد لا شريك له ولا ولد، هو الخالق يعلم من وما خلق وهو اللطيف الخبير. التشابه هنا منشؤه قوله: "وجه الله". يستقى مجمل مفاد الدلالة من قول النبى، صلى الله عليه وسلم: "لا يخلق عن كثرة الرد"، ثراء الدلالة متشابها ومطلوب التأويل البعيد زمنيا وعقليا، زمنيا تعنى أنباء غيب ما بعد الوحى، وعقليا تعنى التأويل البعيد فى العقل، ما قال به إبن رشد، رحمه الله. وقوله" "لا تنتهى عجائبه"، الإعجاز يترى بلا سقف زمنى (سبق الحديث فى الجزء الأول من الإستشكال)، شاهده الإستشكال موضوع البحث كإعجاز طبيعى، وشاهده كإعجاز تاريخى من أنباء الغيب الحواريون الجدد، وشاهده بين أيدينا كإعجاز حى إعصار كاترينا وآية الطير فى الفاتيكان (مبسوط على المدونة فى باب "إعجاز")، وكل ما أثبته العلماء من إعجازات العصر. والله أعلم. هو نفس المفاد فى قوله العزيز الحكيم:
* قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا * (البقرة: 144)
عند أصحاب اللغة: "قَلَبَ القَضِيَّةَ عَلَى وُجُوهِهَا : نَظَرَ إِلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الأَوْجُهِ". كأنه صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء فى غير جهة ثابتة، أن الله موجود فى كل الوجود، إنما خصص سبحانه قبلة الصلاة تثبيتا لفؤاده وتوحيدا المسلمين، خاص يشير إلى العام، ذكرناه فى مقام آخر.المرجوح فى التأويل، أنه صلى الله عليه وسلم عندما يتوجه إلى السماء يكون توجهه مثل اليد المرفوعة إلى السماء بالدعاء، وقد رأينا أنها لا تشير إلى ثابت فى السماء. فكان التقلب ناتجا عن حركة الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس، مع كون النظر متوجها إلى السماء. قوله تعالى: "نَرَىٰ" فيه متشابه تأويله أن النبى كان ينظر إلى السماء "ليرى" الله فيتوجه إليه حيث يكون، ولو أن رؤيا الله ممتنعة، إنما كان البحث أصلا عن قبلة لصلاة المسلمين، مفهوم الآية. ظاهر الفعل يدلل على علم الله، أنه تعالى مطلع على الأفئدة مفروغ منه، ولا تتفق الدلالة بالنظر إلا أن يكون الفعل متشابها، ولأن التقلب فى حقيقة أمره ليس بالوجه إنما بالنظر، وكان النظر جزء يشير إلى الكل، مثل الخاص الذى يشير إلى العام. منه أن العلم الحديث يثبت الإعجاز فى هذه الآية أيضا، أن التقلب المسند للوجه ناتج عن حركة الأرض لا من حركة النظر، ولأنه غير متصور أن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يقلب وجهه فى السماء بحثا عن الله، وإلا لتناقلته الروايات والتأويلات الكلامية وإتبعته الأمة لأهميته فى العقيدة مقام البحث. والله أعلم.
فائدة ثانية، أن ما تقدمه التقارير العلمية تثبت الإعجاز العلمى فى قول الخلاق العليم:
* لَخَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَڪۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَڪۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ * (غافر: 57).
عندما يذكر تعالى "يَعۡلَمُونَ" فإنها تعنى فى الغالب الأعم العلم الطبيعى، خاصة فى مواضع تحدى علم البشر مثل ما فى هذه الآية الكريمة. وقوله: "أَڪۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ "، تعنى أن العلماء الذين يعلمون هم قلة قليلة، وفى علم الغيب. بالمقارنة، فعدد النجوم فى الكون هو 20 مليار تريليون، ويقدر العلماء عدد خلايا جسم الإنسان ب 50 تريليون. ومهما كانت نسبة التقريب والخطأ فى هذه التقارير، فإن عدد النجوم يفوق عدد خلايا جسم الإنسان 400 مليون مرة تقريبا. لو أخذنا الجزيئات أو الذرات فى الحسبان وهو أمر عسير عده كونيا، ستجد نفس النسبة من حيث أنها أكبر أو أصغر. وسبحانه تعالى الخلاق العليم معجزا، تعالى عما يشركون بالجهة. والله أعلم.
مسك الختام كلام الخالق القدوس السلام:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
صدق الله العظيم