مثانى:

علم المثانى.

علم المثانى.

بسم الله الرحمن الرحيم:
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِ‌يضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ‌ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‌ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرً‌ا فَهُوَ خَيْرٌ‌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ‌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ‌ رَ‌مَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْ‌آنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْ‌قَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ‌ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِ‌يضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ‌ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‌ ۗ يُرِ‌يدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ‌ وَلَا يُرِ‌يدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‌ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُ‌وا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُ‌ونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِ‌يبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْ‌شُدُونَ * (البقرة: 183 - 6)
بإذن الرحمن الرحيم ستكون هذه الآيات الكريمة موضوعا لعدة رمضانيات.
الخامسة:
 بعون الله وفضله فقد ذكرنا فى الرمضانية الثالثة مسألة التلازم فى المثانى وأنها منعطف كبير فى دراسات المثانى. وتباركا بالشهر الكريم وليلة القدر التى أنزل فيها دستور الأنام هدى للبشر أجمعين نفصل بعض الشئ فى مسألة المثانى. فهى علم جم بعد المنهاج، بحره واسع وشطآنه عزيزة المنال مثل المنهاج. فى مقام آخر قلنا أنها تبز كل الوضعيات فى الجدل على مدى تاريخ نتاج العقول من فلسفة ومنطق، مفاد قوله العليم الحكيم جل ذكره:
فَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (الشعراء: 45)
وقوله الحق:
* وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * (الإعراف: 117)
ذكرت "تَلْقَفُ" مرتين كما ذكر الضرب بالعصا ثلاث مرات، مرتان للحجر فى قوله: "اضْرِ‌ب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ‌"، ومرة للبحر فى قوله: "اضْرِ‌ب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ‌"، وذكرت ثلاث مرات مع الإلقاء، قوله: "أَلْقِ عَصَاكَ"، إشارة للمتشابه ومنهاج المثانى، ودليل على أنه يجب الوضعيات فى عمومه ومثانيه. المتشابه واضح فى الآيتين فالعصا لا تلقف فمن المجاز.
إذا تدارسنا المثانى فى الذكر الحكيم سنجد بعون الله أنها فى طبقات أربع أساسية جاز فيها التفرع، مثانى كونية مادية، تستقيم بها مكونات الكون من كواكب وأفلاك وذرات والتوازنات فيها، ومثانى حيوية تستقيم بها الحياة فى كل الأحياء، ومثانى دينية كالترغيب والترهيب والنذير والبشير فى العقائد، والحلال والحرام فى الشرعيات، ومثانى عقلية منها ما هو إفتراضى وما هو تجريدى. وقد ضرب الله لكل أمثلة على مدار الذكر الحكيم ضمنها أمثلة السبع المثانى، ما أشرنا إليه سابقا فى مقالة "سنة الله فى الكون المثانى". دليل الطبقات فى قوله العليم الحكيم:

* الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَ‌ىٰ فِي خَلْقِ الرَّ‌حْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْ‌جِعِ الْبَصَرَ‌ هَلْ تَرَ‌ىٰ مِن فُطُورٍ‌ * ﴿الملك: ٣﴾ 
وقوله الحق:
* أَلَمْ تَرَ‌وْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّـهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * ﴿نوح: ١٥﴾
كررت "طِبَاقًا" مرتين، داخل فيها السبع المثانى. فى الآيات الكريمة على وجه آخر إعجاز علمى ليس مقامه.
ضمن هذا الخضم من المثانى يندرج الجدل والجدال أشيرت لهما بأمثلة متعددة تفرق بينهما وتبين صفاتهما، فليست كل المثانى تحتها جدل أو جدال، ما يحضرنا منها فى المقام هو أن الجدال حالة خاصة من الجدل. من ذلك قول العليم الحكيم:
*وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا * (الكهف: 54)   
لم يقل "أكثر شئ جدالا". وقوله:
* ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * (النحل: 125)
لسنا فى معرض التفاصيل إنما الخطوط العريضة لعلم المثانى فى الذكر الحكيم. من ثم كان الجدل بابا من أبواب علم المثانى، علم أرحب وأصعب تبيينا من الوضعيات فى الجدل، فليس مما قالوه السبع المثانى التى هى كليات الوجود والتى بها وصف تعالى القرآن بالعظيم:
* وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْ‌آنَ الْعَظِيمَ * ﴿الحجر: ٨٧)
من هنا يتضح التمييز بين السبع المثانى فى الآية الكريمة والمثانى الأخرى التى ليست منها فى قول الحكيم العليم:
* اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ(الزمر: 23)
فليست كل المثانى فى الذكر الحكيم من السبع المثانى التى يمتثل لها الوجود بأكمله. أجمل القرآن كل أنواع المثانى فى أنها متقابلات، سبق، كما فى سورة الزمر حيث ذكر متشابه المثانى، قوله أحكم الحاكمين:
*  وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا * (71)
* وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا * (73)
التقابل مرتان، فى "كَفَرُوا" مع "اتَّقَوْا رَبَّهُمْ"، وفى "جَهَنَّمَ" معها "الْجَنَّةِ"، إصطحبه تثنية "وَسِيقَ الَّذِينَ" و"إِلَىٰ" و"زُمَرًا"، إسم السورة.

يتبع ذلك التقسيم إلى طبقات أولا، ثم إلى نوعيات تبعا لما إذا كان بين عنصرى (طرفى) الثنائية جدلا من عدمه، وما إذا كان بينهما تلازما كما ذكرنا من قبل، وتبعا لصفة العلاقة بين العنصرين من تضاد أو تناقض أو تكامل أو تقابل وما شابه، وتبعا لما إذا كانت التثنية من الطبيعيات أم من مدركات الحس أو العقل، وما إذا كانت من الأخلاقيات أو السلوكيات أو المعنويات، فضلا عن البنيانية داخل السبع المثانى. البحر متسع والله المستعان، ولكل مجتهد نصيب، أخطأ أو أصاب، بإذن الله تعالى الهادى إلى صراطه المستقيم.
هنا يصدق أكثر ما يصدق حديث خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام من أن القرآن لا يشبع منه العلماء فضلا عن أن تنقضى عجائبه:
".. كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء ولا أصحهما على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد. من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم..(الترمذى: باب ما جاء في فضل القرآن 2906).
ضمن هذا البحر فى علم المثانى ثنائية العام والخاص فى آيات الصيام ورمضان والرخصة التى تكلمنا عنها وقوله: "مَن كَانَ مَرِ‌يضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ‌". مسألة عويصة أين موضعها من هذا التقسيم وهذه النوعيات وإن كنا قد أجملنا المدخل. فى ذلك التحدى الكبير فى الذكر الحكيم، وقول الكبير المتعال جل ذكره:
* وَإِن كُنتُمْ فِي رَ‌يْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَ‌ةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * ﴿البقرة: ٢٣﴾
وقوله الحق:
* أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَ‌اهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَ‌ةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * ﴿يونس: ٣٨﴾
ذكرت مرتين على مدار الذكر الحكيم فمقصودها المثانى وعلمها. تحدى مع الشهداء منهم وما إستطاعوا من أهل الوضعيات والتقنيات إن شاءوا. التحدى فى أن المثانى لا تقع فى سورة واحدة حتى لو أتوا بمثل سورة منه، فهى تلف الذكر الحكيم من أوله إلى آخره، من سورة "الفاتحة" إلى "الناس" ستجد المنهاج والمثانى، قوله تعالى: "كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ"، الإعجاز العظيم فى القرآن الكريم.
والله أعلم، هو الهادى إلى سواء الصراط، منه التوفيق والرشاد.
كل عام وأنتم بخير رافلون فى حلل من السعادة والسلام بإذن الرحمن.
-----------------------------
يوليو 2014