- Printer-friendly version
- 247 views
فى الفلسفة والحكمة
من الباب الأول، الفصل الأول تحت عنوان: "خطاب العقل".
......................................................
< المَقْرِيزي، رحمه الله، صنف الفلاسفة بين الطوائف التي تخالف ملة الإسلام، مُؤَصِّلا المسمى "فَيْلَسُوف" بأنه يتألف من شقين: "فِيلو" ويعنى "محب" و"سُوفْيا" وتعنى "الحكمة"، أي أن الفيلسوف هو "مُحب الحكمة"، والفلسفة ترجمتها "مَحبة الحكمة". ثم قال: " والحكمة قولية وفعلية، وعلم الحكماء إنحصر في أربع أنواع: الطبيعى والمدنى والرياضى والإلهى. والمجموع ينصرف إلى: علم ما، وعلم كيف، وعلم كم. فالعلم الذى يطلب فيه ماهية الأشياء هو الإلهى، والذى يطلب فيه كيفيات الأشياء هو الطبيعى، والذى يطلب فيه كميات الأشياء هو الرياضى " [28]. ليس في هذه العلوم مخالفة للإسلام من حيث أنها علم، ولا من حيث أنها ترنو إلى معرفة الأشياء وعللها، إنما المخالفة تتأتى من الاعتقاد المتضمن في هذه الحكمة أو تلك متى نص عليه. فمنهم من ينكر النبوة كما ذكر المقريزى في تفصيله للاختلاف. بل إنها لا تخالف الإسلام من حيث أنها حكمة، وقد قال تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة ِ﴾. لفظ الحكمة هنا هو نفسه هناك، إنما مقصود الآية الكريمة الحكمة الإسلامية، فجاز القول بالفلسفة الإسلامية من حيث أنها الحكمة المستقاة من مصادر الإسلام النقلية. حتى أن الحكمة أضيفت إلى الكتاب في مواضع كثيرة من القرآن فقال جل ذكره: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ﴾، كُررت ثلاث مرات بالمنطوق، وقال: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾. من ثم فمن حيث أن الفلسفة حكمة فهى مطلوبة مرغوب في خيرها. قيل في اللغويات: الحكمة هي: " ما قل لفظه وجل معناه، مثل الأمثال وجماع الكلم "، الوصف الظاهرى، وقيل في المعجم الوسيط: " معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم والعلم والتفقه ". فى تعريفات الجِرْجَاني: " كل كلام وافق الحق فهو حكمة "، ومنه الحكم القضائى، وفي الحكمة الإلهية قال: " قيل: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاه، ولذا إنقسمت إلى العلمية والعملية ". قسمها الجرجانى إلى حكمة علمية (علم بالموجودات فكانت معرفية) وحكمة عملية، مثلما قال المقريزى أن هناك حكمة قولية وحكمة عملية، فالربط بين القول والعمل، مطلوب إسلاميا وفيه الخير الكثير. غير أننا نرى في الحكمة التبصير بحقيقة الأمور أكثر من كونها البحث في حقيقة الأشياء، الأولى مترتبة على الثانية في جوهرها وتركيبها، أعلى في مرتبة العقليات.
من ناحية ثانية، فمن تعريفات الفلسفة أنها: " علم يُعنى بدراسة المبادئ والعلل الأولى للأشياء وتفسير الأحداث والظواهر تفسيرًا عقليًّا، ويشمل: المنطق والأخلاق وعلم الجمال وما وراء الطبيعة " (معجم اللغة العربية المعاصر)، تمتد إلى البحث في العلاقات بين العقل والحس والموجودات والتفاعل بينها من فعل وتغير وحركة وصَيْرُورة، يضاف إليها كأساس المثال المأمول والمرجو من وراء التنظير. مثانى المنهاج ترتد مبدئيا إلى الجزء الأول من التعريف وهو العلم بالموجودات. وليست هناك فلسفة أشمل وأعم من "السبع المثانى" في الإلمام بالموجودات من حيث التجريد في العقل. لو نظرنا فى ثنائية "المضمون والشكل"، تجد أن كل موجود بالقوة أو بالإمكان في كل الوجود، بلغة الفلسفة، إلا ولابد له من مضمون أو جوهر وشكل أو مظهر، حتى الكلام كما هو معلوم فيه. تحتها ما قاله المقريزى من أن الفلسفة هى "عِلْم ما". كذلك ثنائية الكيف والكم، ما من موجود إلا وله كيف وكم، في مقالته يجئ تحتها "علم كيف" و"علم كم". فإذا تفحصت السبع المثانى (تفصيل عنها فيما بعد بإذن الرحمن) من هذا الباب وجدت الفلسفة بأنواعها قاصرة عن الإلمام بالموجودات في كلياتها. أما العلاقات بين العقل والحس والموجودات من المنظور الإسلامي فليس مقامنا لها، وقد قال فيها الكثير من علماء الإسلام مثل ابن رشد وابن سينا والفارابى والغزالى، رحمهم الله. مثل ذلك عما وراء الطبيعة ومقارباتهم للفلسفة اليونانية. ابن رشد خاض حربا فكرية ضروسا من أجل تبيان أن الفلسفة ليست جرما بل مطلوب كطريق من طرق التعرف على المعبود جل في علاه، حيث قال: " فإن الغرض من هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعى، النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ أم محظور؟ مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟؟ فنقول: إن كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات، سبارها، من جهة دلالتها على الصانع، أعنى من جهة ما هي مصنوعات الموجودات، إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم " [4 أ1]. من هنا فقد قارن المنهاج الفلسفة الوضعية في العلم بالموجودات وبالمثال، الذى منشؤه العمل على منواله، كما سنرى بعونه تعالى. أهل الفلسفة لهم الباع الأكبر في تحرير المسألة. لكنا نركن إلى الملفوظ الإسلامي، أي الحكمة، لا اليوناني أى الفلسفة، فهناك اختلاف في الدلالة، وكان المنهاج حكمة إسلامية، بدلالة نقلية نبسطها فيما بعد بإذن الرحمن.
في المبتدي من المهم أيضا أن نَبْسُط الفارق بين مفهوم "المنهج" ومفهوم "المنهاج". الأول درج عليه الفكر البشرى عامة على أنه الوسائل والطرائق المؤدية لتحقيق الغاية متمثلة في اليقين العلمى، كما فى المنهج العلمى للبحث المبنى على فرض الفروض، بالضرورة لا يعتنى بالمثال، ما هو الفارق بين الفلسفة والعلم. تجده فى كل العلوم الإنسانية والطبيعية، بالإضافة إلى المنهج الخاص بكل علم. أما "المنهاج" فهو الذى ورد فى قوله تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾، يحتوى على مثالية لتضمنه الأصول والقواعد والكليات التى تجرى عليها حياة الناس فى الواقع اليومى الملموس، الفروع في سياق أصول الشريعة. الجديد فى موضوعنا أن الناظر فى المنهاج كالناظر فى الفلسفة، من حيث أن موضوعهما الكليات والمثل. الاختلاف أو الفارق بين المنهاج والفلسفة هو أن الأول لا ينفصل عن واقع الحياة المعاشة، مثل الأصول وفقه الفروع فى الشِّرْعَة. أما الثانية فيلزم ترتيب أيديولوجية لها تحملها إلى أرض الواقع، مع إمكان أن تخلو منها كما فى مثال الوجودية السابق. فبان بذلك الفارق بين المنهج والمنهاج. جاز أن نقول بأن "المنهج" طرائق وسبل مؤدية لليقين العلمى، يهدف فيما يهدف إليه إلى تأسيس النظريات، أما "المنهاج" في النقل فهو تنظيريا يعتبر بالتقريب فلسفة إسلامية بالدارج من المفاهيم العقلية.
إن قلنا بالجدل على أنه فلسفة عرفها الناس منذ نشأتها كعلم مع أرسطو ورفاقه، فهو نظر مجرد بالدرجة الأولى، قابل للتطبيق أو لا، يعتمد على معطياته ومدى تقبل الواقع له. أما فى المنهاج تجد "السبع المثانى" هى البنية الأساسية، وفيها الجدل يسطر الفعالية. مسمى الجدل هناك هو نفسه الجدل هنا. وليس من فارق أو تمايز بينهما من حيث المعنى، إلا فى صياغة المفهوم والمسميات كما سنرى بإذنه تعالى. ليس هناك جدل بلا ثنائية وثيقة الإزدواج. فإن نطرنا فى إزودواجية "المضمون والشكل"، فهى جدلية وهى ثنائية فى وقت واحد، من ثنائيات "السبع المثانى"، لا تمحيص بأحدهما دون الآخر، فيها تفصيل. يحضرنا هنا أحد الأدلة التطبيقية لهذه الثنائية، بلا إنفصام مع الواقع، وقوله تعالى: ﴿ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾، قدم فيه المضمون على الشكل، وكانت الثنائية بذلك أكثر فصاحة من الفلسفات الوضعية. على أن فى المنهاج فروق واختلافات عن الفلسفة تتضح فيما يأتى بعد من تفصيل بإذن الرحمن، وعلى ألا نحمل المنهاج فى هذا المقام على أنه جدل وحسب، إنما كليات الإسلام التى لم تمحص جيدا من قبل، بل يندرج تحته جانب من أصول الفقة والإعجاز العلمى والحكم المدنى والاقتصاديات والأخلاق والتربية، وكل ما لا تطوله الشِّرْعَة. وإنما المرام هو تبيان التوافق بين العقل والنقل، من ترتيبات الجزء الأول من الكتاب >
....................................................
(يطلب الكتاب من "دار الفارابى/بيروت":
http://dar-alfarabi.com/product/اشراق-تامنهاج-الجدل-بين-العقل-والنقل/
وموقع "نيل وفرات":
https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb360400-355792&search=books)