الدلالة أفقيا ورأسيا.

   المثال هنا هو إسم "رمضان". عمدتنا فى التفسير الإمام النابه وشيخ الإسلام فخر الدين الرازى، رحمه الله، يقول فى تفسيره "مفاتيح الغيب" عن لماذا كان رمضان بهذا الإسم ولماذا هو شهر الصيام، مجمل فى معنى كلمة "رمضان":
< المسألة الثانية: اختلفوا في رمضان على وجوه أحدها: قال مجاهد: إنه اسم الله تعالى، ومعنى قول القائل: شهر رمضان أي شهر الله وروي عن النبـي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا: جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى".
القول الثاني: أنه اسم للشهر كشهر رجب وشعبان، ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه:
الأول: ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم.
الثاني: أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس، والإسم الرمضاء، فسمي هذا الشهر بهذا الإسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته، كما سموه تابعاً لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم، وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، وقيل: سمي بهذا الإسم لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"
إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباد الله".
الثالث: أن هذا الإسم مأخوذ من قولهم: رمضت النصل أرمضه رمضاً إذا دفعته بين حجرين ليرق، ونصل رميض ومرموض، فسمي هذا الشهر: رمضان، لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ليقضوا منها أوطارهم، وهذا القول يحكى عن الأزهري.
الرابع: لو صح قولهم: إن رمضان اسم الله تعالى، وهذا الشهر أيضاً سمي بهذا الإسم، فالمعنى أن الذنوب تتلاشى في جنب رحمة الله حتى كأنها احترقت، وهذا الشهر أيضاً رمضان بمعنى أن الذنوب تحترق في جنب بركته.> أ.ه.

ثلاثة وجوه:
الأول: كما قلنا من قبل أنه الشهر الذى يقضى على شرورا كثيرة فى دواخل الإنسان، فى التفسير إجابة لم هذا الرمض وفيه تيسير على العباد؟ تطهير النفس من الذنوب كما قال شيخنا والإجماع، فبعض الدواء من المر. تطهير النفس من الذنوب يعنى الفوز بدار السلام، مفاد التيسير فى الشريعة الغراء. وكما قال الرؤوف الرحيم:
*  وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ  *
الثانى: أن الشرور فى دواخل الإنسان لا تقتصر على النفس إنما تشمل الأبدان، ما أثبته العلم الحديث أن رمضاء رمضان تشفى من الأمراض.التى منها أيضا شرور الأفئدة والعقول، الآيات القادمات فى الآفاق. فهل نكون قد جئنا بتفسير جديد لو قلنا أن الصيام يشفى من السمنة مثلا؟ كذب أعداء الإسلام والوضعيون، لسنا فى حاجة إلى تفسير جديد فى كل عصر. فإذا قال الرازى أن رمضان يحرق الذنوب، ثم جاء الطبيب فى العصر الحديث ليقول "مثل" ما قال الرازى ولكن فى البدن، فهو إضافة جديدة عصرية ومستحدثة تثبت بالدلائل المادية القاطعة أن الله تعالى رحيم بعباده فى التيسير عليهم إن حملوا التكليف. دلائل الرازى لغوية عقلية، ودلائل الطبيب روشتة المرض. كلاهما برهان للمعنى المضمر فى اللفظ والمقصود فى التشريع، لم يتبدل مع الزمن، أو كما يحلو للوضعيين أن النص تاريخى، لا فض فيهم.
الثالث: مطابقة اللفظ للمعنى الذى يحمله، الإسم والمسمى، ثنائية الشكل والمضمون فى المنهاج. هذه المطابقة فى معنى آخر هى الصدق فى التعبير، وهى فى الفلسفة من صفات الجمال, فرمضان من الرمضاء، كل الأنواع، يقضى على الشرور بما يعنى التيسير على البشر فى دنياهم ولينالوا الظفر بالآخرة أيضا. فى الدنيا ما أثبته العلم حديثا، وفى الآخرة ما قاله الأوائل رحمهم الله. فهل إمتلأ اللفظ "رمضان" بالرمضاء التى تزيل وتقضى على الشرور فى دواخل البشر؟ الغيب فى علم الله وفيه دلائل جديدة على المعنى الأصلى. فى المنهاج قوله تعالى:
* مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * (ق: 30)
لا يبدل القول، لا تاريخية للنص القرآنى، المعنى فى إحكامه ثابت. فى التأويل البعيد: الأرجح أن "جهنم" قصد بها "القول" فى الآية قبلها. المجاز واضح فجهنم لا تتكلم، مثاله الشهير عند أهل المجاز "واسأل القرية" (يوسف). فالكلام يرجع إلى "قول" التى كررت ثلاث مرات مطلوب الإستدلال فى المنهاج، وكرر الفعل مرتين إشارة للمثانى وتأكيدا لأن الراجح فى تأويل "جهنم" هو القول. فيها تفصيل منهاجى. منه أن النص فى القرآن الكريم قابل لتحمل الجديد من الأدلة والبراهين بالإضافة، كما فى إسم رمضان.
      الرازى عنده دليل والطبيب أضاف دليلا ثانيا، وغدا تثبت دلائل أخرى لنفس القول، أو الدليل اللغوى، مفاد قوله تعالى: "هَلْ مِن مَّزِيدٍ". لا تنفى إحداها الأخرى - كما يفترى على الله الوضعيون بتاريخيتهم - إلا بدليل، إنما زيادة فى الدلالة كلما زيد الناس من علم الله فى الكون والأنفس سواء. هى دلالة فى علم الله وحده إلى أن تثبت بالقرائن على مر العصور، مبنية على مفهوم خاتمية الرسالة.

      القرآن حمال أوجه، قول على رضى الله عنه، وهذا وجه من أوجه تأويل "جَهَنَّمَ"، داخل فى مفهوم خاتمية الرسالة. وحمال أوجه بمعنى المزيد فى الدلالة أيضا، ففى كل وجه منها دليل، لا يجب إحداها الآخر إلا بدليل نفى، إنما الإضافة فى دلالة "القول". لنا  أن نفرق بين الزيادة الأولى على مر العصور كالدلائل العلمية العصرية، حينئذ تسمى "دلالة عصرية" لا تاريخية، وبين الزيادة من حيث الوجه فى التأويل. الأولى ليس لها حد معلوم، مفتوح على مر الزمن بمقتضى تقدم العلوم، ربما أثبت العلم المزيد من الدلالة، وربما لا يثبت. أما الثانية فمقصورة، أن يكون مثلا أحد أوجه الدلالة شرعى، والثانى عقيدى، والثالث منهاجى، أو كما جاء فى الذكر الحكيم أن يكون أحد الأوجه محكما والثانى متشابها، قوله تعالى:
* وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * ﴿الأنعام: ١٤١﴾
ليس هنا تعارض، فدلالة المتشابه تحتمل أكثر من وجه كما فى قوله تعلى "نَقُولُ لِجَهَنَّمَ"، وجه عقيدى، ووجه منهاجى. فى مثالنا عن رمضان، دليل الرازى عقيدى، الوجه الأول، أن رمضان يغسل الأبدان ويطهر الأمة من الذنوب. أما دليل الطبيب فمنهاجى، فيه الشفاء من علل طبيعية، وهو الوجه الثانى، يندرج تحت دلالة الإعجاز العلمى.
     يمكننا القول بأن دليل الوجه دلالة أفقية، أما الأدلة العصرية فدلالة رأسية، أى تستند إلى نفس الوجه. كمثال وخاصة فى الدلالة المنهاجية، يمكن لدليل القول فى رمضان أن يأتى دليل علمى فى الشفاء من السمنة، وأن يأتى دليل آخر على الشفاء من أمراض المعدة، وربما غدا دلالة ثالثة للشفاء من أمراض نفسية، كلها مضافة إلى وجه واحد من التأويل، دلالة عصرية فى الإعجاز العلمى، دلالة رأسية محملة على دلالة أفقية واحدة، معينة ومحددة مسبقا، لا تنفى الدلالة على الوجهين الآخرين العقيدى والشرعىى، ولا تتعارض معهما، بل تتعلق بهما من جهة البرهان، مفاد قوله تعالى: "هَلْ مِن مَّزِيدٍ" على التوسعة رأسيا. إن قلنا دلالة شرعية فليس فيها من مزيد لأن دلالة الدليل الشرعى واحدة ليس فيها تعدد كما إتفق الأصوليون بناء على أنها دلالة محكمة. المزيد من جهتها مضاف إلى الأوجه الأخرى لا فيها نفسها رأسيا. أما الدلالة العقيدية فتحتمل المزيد رأسيا، كأن يكون فى جهنم دليل الترهيب ويكون فيها دليل الإيمان باليوم الآخر والحساب. والمزيد هنا ينطبق أكثر على الدلالة المنهاجية رأسيا، كما هو الحال مع رمضان، بقدر ما فى النص من ثراء المجاز. مثالنا فيه الإجمال، فإسم "رمضان" فيه الثلاثة أوجه الأفقية، وجه عقيدى مثل ما قال الرازى من رمض الذنوب يحتمل المزيد، ووجه شرعي بفرض الصوم وليس فيه مزيد، والثالث منهاجي فيه المزيد بفوائد الصوم وأدلته العصرية متعددة محملة رأسيا على وجه واحد منهاجى.
      
القاعدة المعروفة فى النحو أن "الزيادة فى المبنى زيادة فى المعنى"، تحنلف عن مقصدنا هنا، لأن الفرض الأصلى فى الدلالة أننا بإزاء لفظ أو منطوق أو دليل واحد، الإقتتاحية فى قوله تعالى: "مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ"، لا يعتبر فيه التغير النحوى لأنه نقل إلى دليل آخر. من ثم فقد ثبت بالدليل القرآنى، قوله تعالى: "يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ"، أنه من الممكن مع المجاز الزيادة فى المعنى دون الزيادة فى المبنى بإجراء الدلالة على بعديها الأفقى والرأسى بشروطها المذكورة، ويمكن إعتبار ذلك قانون من قوانين التأويل المنهاجية.
والله أعلم، منه الهدى والرشاد، جل فضله.
-------------------------------
الإنشاء: [Minhageat.com]