هذه بضاعتنا:
هذه بضاعتنا:
- 6720 views
المرجعية:
قوله تعالى: ** هَـٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا **
الموضوعات:
تقديم "مناهج الأدلة" لإبن رشد.
تقديم "مناهج الأدلة" لإبن رشد.
- 1896 views
للقاضى الحكيم أبو الوليد إبن رشد
تقديم:
ولد إبن رشد فى الربع الأول من القرن السادس الهجرى. وكانت نشأته فى بيت علم ودين، فقد كان أبوه وجده قاضيين فى قرطبه، ثم ولى هو هذا المنصب بعد أن إجتاز إليه مناصب أخرى فى دولة الموحدين التى أفسحت صدرها لعلمه، وإن تنكرت له فى أواخر أيام حياته. غير أن إبن رشد كان أبعد شهرة من سلفيه فى العالم الإسلامى بل فى العالم الغربى، وذلك بسبب إشتغاله بالفلسفة وشروحه لكتب أرسطو. وكان لهذه الشهرة جزيتها أو فداؤها. فإن أمثال إبن رشد كثيرا ما يصبحون، شاؤا أم لم يشاؤا، هدفا لحقد العلماء وجيل العامة وسخط ذوى الأمر، أى هدفا لأهم عوامل الشر فى كل مجتمع قديم أو حديث.
وقد كنا نود أن لو عرضنا لحياة هذا الفيلسوف بالتفصيل فى هذه المقدمة، لكن لا حاجة إلى أن نعيد ما سبق أن قلناه من تاريخ حياته فى موضع آخر (يقصد كتابه "إبن رشد وفلسفته الدينية"/ منهجيات). وربما يغفر لنا رغبتنا عن تكرار أنفسنا أن نشير هنا، ما وسعنا الإيجاز، إلى مسألة جوهرية فى تاريخ إبن رشد، وأن نقتصر فى الإشارة إلى هذه المسألة على القدر الذى يمكن أن يلقى ضوءا على آرائه فى العقائد الإسلامية، ويكشف لنا عن حقيقة الخلاف بينه وبين المتكلمين، وعن سبب العداء بينهم وبينه، بما أدى إلى نشأة تلك الفكرة السائدة الخاطئة عنه. فقد وصفه أعداؤه أولا، ثم وصفه الناس دون بحث بعدهم، بأنه بعيد عن الروح الإسلامية: إما مروقا وإما زندقة، أى وصفا يقترب أو يبتعد به عن الدين، تبعا لدرجة الجهل بآرائه. ومن آفات الرأى التقليد.
لقد كان القرن السادس الهجرى فى بلاد الأندلس عصرا كثرت فتنه، وبدأ فيه ملك المسلمين ينحسر عن تلك البلاد، وفيه شرع الفرنجة يستردون ديارهم، ويغيرون بعزم على المسلمين الذين إنقسموا على أنفسهم، فأنشأ أمراؤهم دويلات واهية متناحرة تسيطر عليها النساء، وعج فيها البذخ والتظاهر بالقوة، ويختلف فيها العلماء والفقهاء، ويحار فيها العامة بين هؤلاء وهؤلاء. وفى أثناء ذلك يتخطفهم العدو من كل جانب. لكن كانت تأتيهم النجدة بين حين وحين عبر مضيق جبل طارق، أى من الجانب الآخر للبحر المتوسط، حيث كانت تقوم فى ذلك الوقت بعض الدول الإسلامية الكبرى على الشاطئ الإفريقى كدولة المرابطين والموحدين. فكان أهل الأندلس يستردون شيئا من القوة، ولكن إلى حين، إذ كلما إنقطع عنهم عون أخواتهم من مسلمى إفريقيا عادوا إلى ما كانوا فيه من صراع وإنحلال. وقد تجلى هذا الصراع فى مختلف مظاهر الحياة الإسلامية، فبدأ بين الأمراء، وتردد صداه فى الطبقة التى تليهم، وهى طبقة الفقهاء والعلماء، ثم إنتهى إلى قلوب العامة، فأفسد كل شئ، إذ إنتصر هؤلاء لرجال الفقه وأهل الكلام والجدل، فأخذوا يحاربون معهم العلم والفلسفة. ووجد الفقهاء فى جهل العامة خير حليف، فأعلنوها حربا عوانا على أعدائهم، وأحرقوا كتب الفلسفة، ونفوا الفلاسفة والعلماء. وقدر لأهل الظاهر أن يغلبوا على أمر الدولة، وأن يدخلوا فى روع الجمهور أن الفلسفة والعلم مضادان للدين. وحقيقة لم يحارب البحث العقل قط بمثل العنف الذى حورب به فى المغرب. وربما كان السبب فى ذلك أن مسلمى الأندلس قد تشبهوا بعامة المسيحيين ورجال الكهنوت لديهم، عند ما كانوا يضطهدون العلم والعلماء فى ذلك العصر، فى حين أننا نرى عكس هذه الظاهرة فى المشرق، إذ إنتصر بعض خلفاء العباسيين من أمثال المأمون والمعتصم لأصحاب التفكير النظرى من المعتزلة، وغلوا فى الإنتصار لهم، فاضطهدوا خصومهم.
وعلى كل، لم يكن بد من أن تؤدى المقدمات إلى نتائجها، فقد شهدت أسبانيا كيف إنتهى النزاع بين الأمراء، ثم الصراع بين الفقهاء والعامة من جهة، والفلاسفة والعلماء من جهة أخرى، إلى إنهيار الحضارة الإسلامية وإلى إنطفاء جذوتها. لكن قبل أن تندثر هذه الشعلة صحت صحوة الموت، وأشرقت مفعمة كاملة الضياء، ممثلة فى تفكير إبن رشد، ثم إنتقلت إلى أوروبا فأيقظتها، بينما ضاقت بلاد المسلمين، كما ضاقت بها صدورهم من قبل فصرفوا أعينهم عنها، ورضوا أن يسلطوا سبيل الجمود والتقليد، فساروا فى طريقهم نحو عصور الفتور أو الركود التى بدأت حقيقة من القرن الثانى عشر أو قبله بقليل، ثم إستمرت تزداد حلكة حتى بلغت الغاية القصوى فى أثناء القرن الثامن عشر، حيث إنحسرت الحضارة الإسلامية حتى كادت تغيض. لكن لم يستطع الجمود وأعوانه أن يقضوا تماما على آثار هذه الحضارة. وجاء العالم الغربى من جانب آخر يستعمر بلاد المسلمين فحدثت الصدمة الكبرى، ونمت تلك الجرثومة الواهية فى نفوس كانت خامدة، فبدأ يشع قبس من التفكير العقلى حمله جمال الدين الأفغانى، ومن بعده تلميذه محمد عبده، كما حمله آخرون قبلهم فى بلاد الهند. وكان هذا القبس الجديد هو الذى حاول فقهاء الأندلس وغوغائها أن يطفئوه فى القرن الثانى عشر. إن نهضة البلاد الإسلامية فى العصر الأخير تتسم بعدوة فكرة الإعتزال المعتدل وتمجيد العلم والعناية بالفلسفة، على عكس ما أراده لهما أهل الظاهر الذين كانوا يظنون أن دينهم يخشى تقدم العلم، مع أنه لا يتضح فى أذهان معتنقيه إلا إذا سار مع العلم جنيا إلى جنب، لأن الجمود والتقليد من أقتل أعدائه.
أما فى عصر إبن رشد فكان التفكير النظرى فى طريق الإحتضار، بعد أن كتبت الغلبة لأهل الظاهر. حقا كانت آراء هذا الفيلسوف زبدة الحضارة العربية والتفكير الإسلامى. ولكنها جاءت متأخرة. ولذا قوبلت بالعداء والجحود فوصف صاحبها بأنه إمام الملحدين. وما كان يستطيع أن يقف وحده أمام موجة الجهل الزاحفة التى تصحب دائما إنهيار الحضارات. أى أن آراء إبن رشد وحدت أمامها عدوين لا سبيل إلى الغلبة عليهما، إذ ماذا يستطيع هذا الفيلسوف أمام التدهور السياسى الذى يتحالف مع الجمود الفكرى؟ لقد كتبت الغلبة لجماعة من الفقهاء الذين سيطروا على العقلية الإسلامية، فكادوا يقضون على خصائصها بسبب غلوهم فى التفريع والجدل والتشدد وفرض أنفسهم وآرائهم على ضمائر الآخرين وخلجات صدورهم، مما بعث اليأس فى النفوس وصرفها إلى سبيل أخرى علها تجد فيها متنفسا. فقد إنساقت إلى نوع من التصوف الغريب الذى حاول أصحبه أن يفروا إليه بأنفسهم من تشدد الفقهاء وتعنتهم وجدلهم وفروضهم التى لا تنتهى عند حد. فكأنما آلم هؤلاء ألا يثقلوا على الناس بعلمهم فأكرهوهم على تتبعهم فى مسائل خلافية تافهة لا طائل تحتها. وهكذا تحجر العلم، وعسر التأليف، وتعقدت العبارة، وإستغلقت الكتب، وفترت الهمم، وثقلت التكاليف، فجاء الياس يزيح عن الكواهل عبء الجهل، ويمسح سبة التقصير، وإنحدر الناس شيئا فشيئا فى تصوفهم وتواكلهم إلى فنون من الشعوذة والعقائد الفاسدة التى قد تصل إلى مرتبة الشرك، كتقديس الأولياء وطلب الشفاعة منهم، حتى صح أن يقال إن حال المسلمين فى العصر الراهن، أو قبيل هذا العصر، لا تعبر عن حقيقة دينهم الذى لا يفهمونه حق الفهم. ولذا أصبحوا أذلاء مستضعفين بينما يريدهم دينهم أن يكونوا أعزاء أقوياء.
لقد تصدع الصرح، وتشتت الفكر، ولعب أهل الجدل دورهم فى هدم هذا البناء العتيد عن غير قصد. ذلك أنهم فرقوا، دون أن يعلموا، بين قلوب المسلمين، وأباحوا لهم أن ينصرفوا إلى تكفير بعضهم بعضا، وإلى تقليد شيوخهم وتعطيل عقولهم، كما سولوا لهم – عن قصد أو غير قصد أيضا – أن يخالفوا الرسول بأن يبحثوا فى ذات الله وصفاته، بدلا من أن يتفكروا فى خلق الله. ومن جانب آخر ليس لنا أن نغفل نصيب بعض أهل التصوف فى القضاء على الحضارة الإسلامية. فقد صرفوا الناس، عمدا أو عفوا، عن العلم حينما زعموا لهم أن المعرفة لا تكتسب بالجهد والبحث والملاحظة والتجارب. بل هى نوع من المعجزات، ألا تفيض المعرفة، فى ظنهم، فيضانا فتغمر قلوب هؤلاء الذين عرفوا كيف يسلكون معارج الطريق؟ قد يقال أننا نقسو على أهل الجدال والتصوف، أو أننا نمجد العلم أكثر مما ينبغى له؟ وقد يظن أننا نعبر عن وجهة نظر فردية؟ لكنا على يقين من أن هذه الفكرة هى التى توجبها معرفة تاريخ التفكير الإسلامى. فلقد تفرقت هذه الأمة وأصبحت فرقا وشيعا، وإنصرفت كل فرقة أو شيعة منها إلى الجدل واللجج والتظاهر بالمعرفة، ولو كان هذا التظاهر على حساب التفكير السليم والأسس المنطقية. ثم إنتهى الجدل بأن فرح كل بما لديه، وظن أنه على الحق وحده، فأخذ يكفر غيره، مع أنه لا يحق لمسلم أن يحكم بالمروق على آخر إلا إذا شق عن قلبه بسيفه ليرى إن كان يعتقد ما يقول، أو يبطن غير ما يظهر.
< * تذييل فى الكتاب: قتل أحد الصحابة مشركا نطق بالشهادتين، لأنه إعتقد أنه لم ينطق بهما إلا فرارا من حد السيف، فغضب الرسول عليه السلام وقال له ما معناه: هل شققت عن قلبه لتعلم إن كان مؤمنا أو غير مؤمن؟>
وآثرت جماعة أخرى ربما كانت أرق عاطفة، أو أقل جلدا على الصراع، أن تقول بالعلم اللدنى والفيض الصوفى، أى بالعلم الذى يتطلب جهدا ولا نصبا، وإنما يقود إلى التواكل والشعوذة، لأنه يطلب من غير منابعه، ويعتمد فيه على غير وسائله. وهكذا أصبح لكل فرد أمة وحده فى تفكيره وعقيدته، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى. وإنقلب الإيمان، الذى كان سببا فى توحيد القلوب، وبعث أمة مما يشبه العدم، شيئا يحتكره جماعة من الناس يقولون إنهم هم الذين يمثلونه خير تمثيل، وهم الذين يعترفون بوجوده لدى غيرهم، أو ينكرون وجوده لدى من يخالفهم فى الرأى، أى أصبحت مسألة الإيمان سلاحا يستخدمه الفقهاء أو الجمهور، كل حسب هواه، لكى يهدم به الآخرين، فيطعن فى عقائدهم، بل يستطيع توجيهه إلى صدر كل من دعا إلى التفكير الإسلامى الصحيح. فلا نكاد نرى مصلحا يدعو إلى ترك الخلاف والجدل إلا ورمى بالكفر أو الزندقة، وإلا أثارها حربا عوانا على نفسه، كما وقع لإبن رشد، وكما وقع لجمال الدين وغيره فى العصر الحديث.
ومن العجيب حقا أن علماء الكلام رموا الفلاسفة بالكفر وعابوا عليهم منهجهم، وظنوا أنهم أقرب إلى روح الإسلام من أمثال الكندى وإبن رشد، مع أننا نستطيع البرهنة، وسنبرهن بالفعل، على أنهم لم ينصفوا الفلاسفة، ولم ينصفوا أنفسهم، عندما ظنوا أنهم أكثر فهما لعقائد هذا الدين من غيرهم. فقد كان منهج الكندى وإبن رشد فى كثير من المسائل هو منهج القرآن الكريم، فى حين أن المتكلمين، أشاعرة ومعتزله، إتبعوا منهجا فلسفيا أقل وضوحا وقوة. وإنما كان منهجهم منهجا واهيا لأنه كان منهج جدل، لا منهج إقناع، ولذا فهو لا يصلح – فى الحقيقة – لا للعلماء ولا للعامة، بل هو أعجز عن أن يقنع المتكلمين أنفسهم.
< * تذييل: يرى الإمام الغزالى أن الإيمان الذى يورثه علم الكلام أضعف من إيمان العوام الذين يسلكون مسلك الفطرة السليمة.>
والدليل على ذلك أنهم لم يؤلفوا جبهة واحدة، واختلفوا فيما بينهم، ولم يعلموا أن خلافهم فى كثير من المسائل يرجع إلى سوء تحديدهم لها. فالمنهج الخاظئ يؤدى إلى نتائج خاطئة. وربما كانت أهم هذه النتائج هى أن طرق المتكلمين فى البرهنة على العقائد الإسلامية تثير من الشبه أكثر مما تدعو إلى الإقناع، أو أن المشاكل التى فرقت بين الأشاعرة والماتريدية أو بينهم وبين المعتزلة كانت مشاكل لفظية. إذ لو عولجت المسائل بطريقة علمية منطقية بعيدة عن روح التعصب والتقليد، لوجد هؤلاء فى الأغلب أنهم يقولون شيئا واحدا. لقد إختلفوا فى مسألة الصفات الإلهية والصلة بينها وبين الذات، كما إختلفوا فى مسألة الجهة بالنسبة إليه تعالى، وفى إمكان إستحالة رؤيته فى الحياة الأخرى، وفى الحسن والقبيح: هل يوجدان كذلك بالنسبة إلى الله تعالى، كما هى الحال بالنسبة إلى الإنسان! ولم يتفقوا، كما يقال، فى مسألة العدل والجور والقضاء والقدر، والكسب والحق، وأفعال العبد، وهل تصلح قدرته للضدين، وهل هناك ضرورة لفعل الصلاح والأصلح، وهل يجب إرسال الرسل، وماذا أدرى أيضا!؟ ففى الجملة لم يغادروا صغيرة وكبيرة فى أمور العقائد إلا إختلفوا فيها كثيرا أو قليلا. وما كان لهم إلا أن يختلفوا طالما كانوا ينهجون منهج الجدل، وطالما ينسون، فى كثير من الأحيان، أنه لا يحق للباحث فى مسائل الدين أن يطبق الإعتبارات الإنسانية على الأمور الإلهية، وأن الإسلام جاء يطهر العقائد من تلك الخرافات التى حجبتها ومسختها، بسبب المماثلة بين الخالق والمخلوق كما فعل اليهود، أو بين المخلوق والخالق كما رأى النصارى. لقد جاء القرآن بقوله تعالى: "ليس كمثله شئ" ولكن أهل الجدل نسوا فى حومة لججهم أن يرجعوا إلى هذه الآية دائما، فعالجوا صفات الله كما لو كانت صفات إنسانية، وتساءلوا مثلا عن علمه أهو كلى أو جزئى، وعن إرادته أهى قديمة أو حادثة، وهل يخلق أفعال العبد أم العبد هو الذى يخلقها أو يكسبها؟
محقق الكتاب وأستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة/مصر (1964)
_________________________________________________
برهان أول: تلاقح الحضارات، مفاد قوله جل شأنه:
* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * (آل عمران: ١٤٠)
والتى كانت الإلهام والمادة لإبن خلدون، رحمه الله، أن يؤلف مقدمته فى التاريخ والإجتماع وليؤسس بها هذين العلمين. ففى حين بدأ المسلمون فى الأندلس أن يسيروا مسيرة كنيسة عصر الظلام الأوروبى، بعدوى القرح كما فى قوله تعالى:"مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ"، وبدأ الفقهاء والمشايخ فى الإستحواذ على الحقيقة الدينية وتصريف أحوال الناس كما يحلوا لهم بالرأى على الظاهر من النص، فتشتت الشمل وبدأت آفات التخلف تتغلغل فى جسد الأمة الإسلامية، فى حين ذلك بدأ المسيحيون الأوروبيون فى إلتقاط خيط التحضر والرقى بالعلم من المسلمين. نقطة إنقلاب حضارى بارزة فى تاريخ العالم، بطلها إبن رشد، رحمه الله، ورفاقه من علماء الإسلام إيجابا فى صالح أوروبا، والمتصوفون والظاهربون فى الجانب الآخر سلبا على أمة الإسلام، تفسر وتبين بالوقائع التاريخية القاطعة مفاد قوله جلت قدرته أن فى طبيعة الأيام التدول بين الناس. النابه الراسخ إبن خلدون وضع السبب على المسبب فى "المقدمة"، فرصد دورات التاريخ وكيف أن القاهر فوق عباده قادر على أن يسلب القوم أسباب التحضر والعلم والغنى والرفاهية، حتى بدون أن يرسل عليهم الصواعق والطير الأبابيل، إن هم إنحرفوا عن صراطه المستقيم وظلموا، تعقيب الآية قوله تعالى: "وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"، ليهبها لغيرهم، ثم تبدأ دورة جديدة من دورات التاريخ.
قصة آل فرعون فى الذكر الحكيم من هذه النوعية، عندما طغى فرعون بعد أن وهبه الله ما لم يهب أحدا من العالمين، ولم يؤمن برسالة موسى عليه السلام، سلبه الله أسباب الطغيان وأغرقه وقومه فى التاريخ، فلم تقم لهم قائمة ويحكمون أنفسهم بأنفسهم إلا بعد قرون طويلة، فى القرن العشرين. هكذا كان حال الأوروبيين بعد أن حرفوا المسيحية والقول بالتثليث والإحلال، طغيان الكنيسة وظلمها ووأدها العلم، أغرقهم سبحانه فى ظلمات العقل والجهل والجور والطغيان لقرون مديدة، مثلهم فى القرآن أهل الكهف لو إطلعت علي تاريخهم لإمتلأت منهم رعبا. حتى حان الحين عندما ثابوا إلى رشدهم فأبهرهم نور الحق والعلم بين أيديهم بنصرة الحق سبحانه وتعالى، فصدع عن صداهم العقلى وغفلة القلوب. قانون ربانى لهواة العلم والتأصيل وإستكشاف إعجاز علمى لم يقف عليه أحد من قبل، أن التخلف بأسبابه الشتى هو فى الحقيقة العلمية فيروس فى معنى القرح، يصيب من لم يتحصن ضده بالإيمان الحق وبالعلم بنور من الله نور السماوات والأرض، التطعيم الربانى. قال رب العلمين:
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * (يونس: ٥٧)
برهان ثان: حكمة الله فى إنبعاث الرسل وهداية عباده الراسخين. أن إعجازه فى المبتدى تقشعر له العقول أن ينبت من بين ثنايا أرض الجهالة نور الحق وهداية الضالين، رسول أو نبى. كيف لا وهو الخلاق العليم، يخلق ما لم يكن شيئا، حتى نفخ من روحه فى مريم العذراء عليها السلام، فكيف لا ينبت بقدرته من بين ضفات الضلال هدى؟ ومن؟ رسول من بين أنفسهم، يأكل القديد ويمشى فى الأسواق تملأ الحكمة وجماع الكلم فمه صلى الله عليه وسلم، يفيض عرقا مع الوحى لينير الأرض والسماوات بنور الحق ليزهق به الباطل الذى تردى فيه الناس.
هكذا بين العلماء مسببات الرسالات السماوية التى سطرها الملك القدوس فى رسالاته. لا نقصد أن إبن رشد كان نبيا للمسيحية أو هو المهدى المنتظر أو المسيح الدجال، كيفما قيل، لكن الله تعالى رؤؤف بعباده، حكيم فى أفعاله، قادر فى تدبيره، بديع فى صنعه. عندما لا يرى الناس طريق الحق والإيمان ويغشى الضلال قلوبهم والإنغلاق عقولهم، يرسل لهم أحدهم من بينهم ليبصرهم بنور الحق لخيرهم فى دنياهم وأخراهم، ويسلموا القياد للخالق الواحد الأحد لا شريك له، وليؤمنوا بأن إرادته فيهم الخير واليسر. هذا فى جانب الأنبياء والرسل، أما وقد جاءتنا خاتمة الرسالات السماوية، وقال تعالى:
* الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَـكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا * (المائدة: 3)
فقد تحولت أسباب البعث إلى التجديد كلما ضل القوم سعيهم فى الحياة الدنيا، فقال خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". قال فيه أحد الباحثين:
< وليس أدل على ذلك من الحديث السابق، «يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد...» والتاريخ الإسلامي حافل بالمجددين من عصر التابعين إلى يومنا هذا، فالحسن البصري وأبو حنيفة ومالك والشافعي مجددون حقيقيون، والشافعي جدد مذهبه مع اختلاف المكان وعرف له مذهبان قديم وجديد، واستمرت الأمة تعطي وتتقدم على مدار تاريخها حتى طغت الحياة المادية وقل المجددون ونام المسلمون في كثير من الميادين عن الاجتهاد والإبداع، ولم يُعْنَوْا باكتساب العلوم الحديثة بل منعوا الأفكار الجديدة أن تدخل منطقتهم. وكان العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه مصاباً بالجدب العلمي وشبه شلل فكري قد أخذه الإعياء والفتور واستولى عليه النعاس.
في نفس الوقت كانت أوروبا قد استيقظت من هجعتها الطويلة وهبت من مرقدها مجنونةً تتدارك زمان الغفلة والجهل وتعدو إلى غايتها عدوًا بل تطير إليها بكل جناح وتسخر قوى الطبيعة وتفضح أسرار الكون وتكشف عن بحار وقارات كانت مجهولة وتفتح فتوحاً جديدةً في كل علم وفن وفي كل ناحية من نواحي الحياة. وكانت النتيجة هذه الحضارة التي غزت الفضاء وفجرت الذرة؛ لكنها لم تسعد البشرية؛ إذ أنها لم تلتفت إلى الجانب الروحي ولم تربط المخلوق بخالقه، وهم معذورون؛ إذ ليس عندهم وحي معصوم أو هدي مستنير، إنما يملك هذا المسلمون وحدهم وهم الذين نائمون؛ لأنهم هم الذين قصروا في واجبهم حتى زاحمهم غيرهم على قيادة العالم.>
--------------------
ولأن حكمته وقانونه جل وعلا فى تداول الأيام فاعل فى كل حين وأوان فقد أعمى عقول هؤلاء ووضع بصيره فى نفوس وعقول أولئك. الأول ضلوا السبيل فزادهم الله ضلالا، والأخر ثابوا إلى رشدهم وأدركوا المأساة فزادهم الله من نوره وهداه. ترك هؤلاء ليفترسهم القرح جزاءا وفاقا ومنح أولئك من الحكمة الدواء شفاءا للعقول لعل وعسى أن يستوعبوا درس الأيام فى تداولها، يستقيموا على صراطه ويؤمنوا بعدالته، وينفضوا عن كاهل البشرية غبار العقول الغبشة من الوضعيين التى تجرهم إلى كهوف الذات والأنانية، يعتقدون أن مصير البشرية فى قطرات من حبر القلم. وليعلموا أن الله خلقهم أفرادا ليعيشوا جماعات متحابه فى سلام، فشرع لهم العدل ودلهم فى منهاجه إلى سواء السبيل، وفى الأخير يقبضهم أفرادا. ولكن كيف وأبونا آدم عليه السلام أغرته الشجرة فقال له الكبير المتعال:
* فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * (البقرة: ٣٦)
فكيف السبيل لإجابة هذا الإستشكال، بحكمته تعالى ينير لهم الطريق بينما نفس فيهم العداوة منذ آدم عليه السلام؟
برهان ثالث: قول المحقق: < فإن أمثال إبن رشد كثيرا ما يصبحون، شاؤا أم لم يشاؤا، هدفا لحقد العلماء وجيل العامة وسخط ذوى الأمر، أى هدفا لأهم عوامل الشر فى كل مجتمع قديم أو حديث. >
قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع". وقال أيضا: "إن من أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". وصدق خاتم المرسلين إذ قال: "العلماء ورثة الأنبياء"، حتى فى الإبتلاء، إبتلاء على الإفراد وإبتلاء على الجمع، حكمته صلوات الله عليه وتسليمه ترتفق ومنهاج الله فى قرآنه الكريم، ثنائية الفرد والمجتمع.
وليعلم الناس فى كل حين وعلى أية ملة أن من حباه الله بعلم من علمه إمتحن الثبات عليه بالإبتلاء. ليس إبن رشد وجمال الدين الأفغانى وحدهما على ملة الإسلام فجاليليو ونيوتن على ملة المسيحية، قليل من كثير الأمثلة، حدث لهم الإبتلاء فى صحبة هدى الله المباشر بعلم فيه برهان على الخالق القادر المنان. فهداه غير مقصور على ملة كذلك إبتلاؤه، والقصة تطول.
قال العزيز الجبار:
* فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * (الفجر: ١٥)
وفى التثنية قال:
* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * (الفجر: ١٦)
الإبتلاء إحتماله على المثانى وجهان، فى النعم وفى النقم، لمن شاء جل شأنه من عباده. ولا نعلم إبتلاء بالنعم للراسخين فى العلم ممن تفضل عليهم بعلمه بزيادة فى الهدى الذى تحصلوا عليه بعقلهم وجدهم وإجتهادهم، سبق، إذا للهو عنه. أما التفضل بالنعم جزاء وفاقا فمناطه يختلف، مسألة مختلفة.
لقد وصف قدرته وحكمته ورحمته العلية فقال:
"فَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" (فاطر: 8)
"إذا" شاء بحكمته، قوله "مَن يَشَاء"، فليست مطلقة، يزيدهم فى الضلال إن ضلوا بأنفسهم وعقولهم ورأوا الحسن فى القبح، لا حسرة عليهم ولا حزن. وعلى الجانب الآخر يزيدهم إن شاء هدى إن إهتدوا وآمنوا به إلها واحدا لا شريك له ولا ولد، وربما أرسل عليهم السماء مدرارا. ذلك هو الهدى لمن أحبهم الله وأنعم عليهم بعلم وإبتلاء، مثل الحكيم إبن رشد، لسان حالهم نحمده حمدا ملؤ السماوات والأرض، من لا يحمد على مكروه سواه.
تلك من بضاعتنا الإسلامية فى النهضة الأوروبية. والله هو الهادى له الحمد والثناء على كمال صفاته.
مسك الختام قول الملك القدوس السلام:
متابعات القراء.
متابعات القراء.
- 1908 views
شهرية:
Month | Unique visitors | Number of visits | Pages | Hits | Bandwidth |
Jan 2019 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 |
Feb 2019 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 |
Mar 2019 | 192 | 475 | 9,393 | 9,830 | 236.76 MB |
Apr 2019 | 660 | 4,119 | 17,699 | 18,436 | 417.38 MB |
May 2019 | 4,261 | 10,515 | 39,535 | 39,759 | 936.76 MB |
Jun 2019 | 6,691 | 14,718 | 57,920 | 58,098 | 1.52 GB |
Jul 2019 | 2,701 | 4,423 | 9,430 | 9,501 | 198.05 MB |
Aug 2019 | 1,979 | 2,943 | 5,467 | 5,471 | 140.70 MB |
Sep 2019 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 |
Oct 2019 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 |
Nov 2019 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 |
Dec 2019 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 |
Total | 16,484 | 37,193 | 139,444 | 141,095 | 3.40 GB |
شهر يوليو 2019:
Day | Number of visits | Pages | Hits | Bandwidth |
01 Jul 2019 | 1,039 | 1,912 | 1,912 | 58.36 MB |
02 Jul 2019 | 422 | 764 | 786 | 21.78 MB |
03 Jul 2019 | 185 | 415 | 415 | 9.74 MB |
04 Jul 2019 | 196 | 534 | 542 | 10.23 MB |
05 Jul 2019 | 77 | 192 | 192 | 1.06 MB |
06 Jul 2019 | 46 | 117 | 117 | 818.92 KB |
07 Jul 2019 | 44 | 181 | 181 | 1.94 MB |
08 Jul 2019 | 39 | 94 | 94 | 798.88 KB |
09 Jul 2019 | 44 | 102 | 102 | 826.79 KB |
10 Jul 2019 | 58 | 233 | 233 | 1.86 MB |
11 Jul 2019 | 69 | 116 | 116 | 765.39 KB |
12 Jul 2019 | 44 | 95 | 95 | 604.39 KB |
13 Jul 2019 | 82 | 251 | 251 | 6.09 MB |
14 Jul 2019 | 152 | 315 | 315 | 6.81 MB |
15 Jul 2019 | 142 | 276 | 276 | 6.20 MB |
16 Jul 2019 | 171 | 283 | 283 | 7.48 MB |
17 Jul 2019 | 131 | 241 | 241 | 6.36 MB |
18 Jul 2019 | 143 | 251 | 251 | 5.26 MB |
19 Jul 2019 | 186 | 352 | 374 | 7.96 MB |
20 Jul 2019 | 187 | 334 | 334 | 7.65 MB |
21 Jul 2019 | 226 | 378 | 378 | 10.96 MB |
22 Jul 2019 | 153 | 272 | 272 | 7.64 MB |
23 Jul 2019 | 73 | 313 | 313 | 3.51 MB |
24 Jul 2019 | 47 | 98 | 98 | 415.08 KB |
25 Jul 2019 | 51 | 85 | 85 | 410.05 KB |
26 Jul 2019 | 53 | 102 | 102 | 393.88 KB |
27 Jul 2019 | 47 | 90 | 90 | 467.54 KB |
28 Jul 2019 | 70 | 115 | 115 | 881.64 KB |
29 Jul 2019 | 79 | 143 | 143 | 1.77 MB |
30 Jul 2019 | 81 | 141 | 141 | 869.31 KB |
31 Jul 2019 | 86 | 635 | 654 | 8.32 MB |
Average | 142 | 304 | 306 | 6.39 MB |
Total | 4,423 | 9,430 | 9,501 | 198.05 MB |