كلاميات:

كلاميات:

كلاميات:

By المنهاج | 1:58 AM EET, Tue March 19, 2019

  المرجعية:

قوله تعالى: ** أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ  **

 الموضوعات:

الإستدلال على الغائب بالشاهد.

الإستدلال على الغائب بالشاهد.

By المنهاج | 2:37 AM EET, Fri March 22, 2019
قياس الغائب على الشاهد بين أهل السنة والأشاعرة

<إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
هل اعتمد الأشاعرة على قياس الغائب على الشاهد؟
قال سعيد فودة في كاشفه (44) :"اعلم أن قياس الغائب على الشاهد هو أصل أصيل عند ابن تيمية، وقاعدة أكيدة لا يستطيع أن يستغني عنها الإنسان لا في مجال المخلوقات، ولا في مجال الخالق، ومذهبه في العقائد وهو مذهب التجسيم قائم على هذه القاعدة...." .انتهى
وهذا الذي اتهم به سعيد فودة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ قد اعتمد عليه الأشاعرة في إثبات الصفات ونفيها مع تناقض واختلاف بينهم.
فأولا: لا يخفى أن أقوى الأدلة التي استدلت بها الأشعرية على وجود الله وإثبات صفاته هو قياس الغائب على الشاهد يقول الإيحي: "احتج الأشاعرة بوجوه، الأول: ما اعتمد عليه القدماء، وهو قياس الغائب على الشاهد، فإن العلة والحد والشرط لا يختلف غائبًا وشاهدًا". (عقيدة العادة عند الأشاعرة (18) للشيخ جابر السميري)
وثانيا: أن السبب في نفي صفات الله الخبرية أو الاستواء والنزول أو غيرها من الصفات هو الفرار مما يتوهمه العقل من مشابهة المخلوقات وهذا عند التحقيق هو قياس الغائب على الشاهد.
قال حسن الشافعي في كتابه "الآمدي وآراؤه الكلامية" في مبحث قياس الغائب على الشاهد، وبيان شيوعه لدى المتكلمين: "ولكن القياس الفقهي مشروع ومبرر تماما مادام الأصل والفرع مشتركين في الوصف المؤثر في استحقاق الحكم، ولدينا الوسائل المختلفة لاختبار تحقق هذا الوصف فيهما، فيما يعرف (بمسالك العلة). أما بالنسبة للمسائل الإلهية فكيف يمكن التحقق من اشتراك الغائب والشاهد في وصف يعمهما أو في حكم يترتب على ذلك؟ وهل يجوز للعقل أن يطبق المقولات الإنسانية في ذات الله تعالى وما يتصل بها من صفات وأفعال؟ تلك هي أزمة هذا القياس الكلامي ومع ذلك فقد استخدمه المتكلمون بعد أن استعاروه من (أصول الفقه) ...
يقول الجرجاني: وإنما يسلكونه إذا حاولوا إثبات حكم لله تعالى فيقيسونه على الممكنات قياسا فقهيا ويطلقون اسم الغائب عليه تعالى. وقد شاع استخدامه لدى مختلف المدارس الكلامية. فالحشوية القائلون بأن الله جسم يعتمدون على أن كل موجود في الشاهد فهو كذلك. والمعتزلة – المشهورون بالتنزيه - أخذوا به فيما يتعلق بأفعال الله تعالى فحكموا بحدوثها وأوجبوا عليه بعض الأمور طبقا لقواعد التحسين والتقبيح الإنسانية. ومع ذلك فهم لا يسرفون في استخدامه في مجال الصفات إسراف الأشاعرة الذين يعترف بعضهم بذلك، والآمدي يحكي "اتفاق الأصحاب على إلحاق الغائب بالشاهد". ولكنهم بدورهم يقللون من استخدامه بالنسبة لأفعال الله تعالى بعكس المعتزلة. لكن الأشاعرة ومن وافقهم من المتكلمين حين قاسوا الغائب على الشاهد حاولوا أن يلتمسوا لذلك جامعا فقالوا: إن الحقائق أو التعريفات والأدلة والشروط والعلل يجب أن تطرد شاهدا وغائبا وأن توجب في الغائب ما توجبه في الشاهد من الأحكام. والآمدي يحكي اتفاقهم على ذلك ويضرب له أمثلة توضيحية ويشير إلى ما ذهب إليه الإسفراييني من أن كل أمرين ثبت تلازمهما في الشاهد لزم أن يتلازما غائبا ولم يعتبر في ذلك جامعا -ثم نقل نقد الآمدي لذلك- وخلاف الأشاعرة في هذه المسألة. (الآمدي وآراؤه الكلامية(142))
وقال السنوسي : اعلم أن المعتزلة لما ساعدت على أن العالم القادر الحي المريد في الشاهد عالم بعلم وقادر بقدرة ومريد بإرادة وحي بحياة ألزمهم أهل السنة اعتبار الغائب بالشاهد. قالوا: والجمع بين الغائب والشاهد يفتقر إلى جامع وإلا جر إلى التعطيل والتشبيه وعنوا بالشاهد الحادث وبالغائب القديم. 
قالوا: والجوامع أربعة:
1- جمع بالحقيقة كقولهم العالم شاهدا من له العلم أو ذوي العلم والباري عالم فله علم وهذه عمدة من ينفي الأحوال .
2- والجمع بالدليل كقولهم الأحكام شاهدا دليل في العقل على أن لفاعله علما به والباري تعالى محكم متقن لأفعاله فدل أن له علما.
3- والجمع بالشرط كقولهم الباري مريد وكل مريد قاصد لفعله والقصد مشروط بالعلم والباري له علم وإلا لثبت المشروط بدون الشرط.
4- والجمع بالعلة وهو عمدة من يثبت الأحوال كقولهم العلم والعالمية متلازمان، والعالمية مترتبة على العلم. (شرح العقيدة الكبرى (175) للسنوسي)
عندما يقارن طالب العلم بين كلام أهل السنة والجماعة وبين كلام غيرهم من أهل الكلام والفلسفة يجد الثبات والوضوح في منهج أهل السنة والجماعة، ويجد الاختلاف والتناقض في كلام أولئك الذين خالفوا منهج أهل السنة والجماعة. وخذ مثالا على ذلك هذه المسألة، وهي مسألة قياس الغائب على الشاهد عند الأشاعرة؛ فمن مثبت لها إلى ناف لها إلى متناقض في مطالبها. فالآمدي يحكي اتفاق الأشاعرة على هذه المسألة وينقل قول الإسفراييني من أن كل أمرين ثبت تلازمهما في الشاهد لزم أن يتلازما غائبا ولم يعتبر في ذلك جامعا، والجرجاني يعتمده طريقا لإثبات الصفات، ومن قبله شيخ المذهب الأشعري يعتمده في اللمع، والباقلاني يعتمده وخصوصا في جامع العلة والدليل، والجويني والغزالي والرازي ينقدون هذه المسألة ولا يعتمدونها. وانظر لذلك "الآمدي وآراؤه الكلامية" في مبحث قياس الغائب على الشاهد. ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا تبين ذلك فنقول المتكلمون والفلاسفة كلهم على اختلاف مقالاتهم هم في قياس الغائب على الشاهد مضطر بين كل منهم يستعمله فيما يثبته، ويرد على منازعه ما استعمله في ذلك، وإن كان قد استعمل هو في موضع آخر ما هو دونه وسبب ذلك أنهم لم يمشوا على صراط مستقيم بل صار قبوله ورده هو بحسب القول لا بحسب ما يستحقه القياس العقلي". (بيان تلبيس الجهمية (1|310))
ضابط أهل السنة في مسألة قياس الغائب على الشاهد:
1- قياس الغائب على الشاهد منه الحق ومنه الباطل.
قال شيخ الإسلام: وإذا استدلوا بالنظر والقياس والمعقول والبراهين التي يحتج بنظيرها مخالفوهم بل بالبراهين التي هي أصح من ذلك وهي حق في أنفسها قرروا ذلك من وجوه: أحدها: وفيه قاعدة جليلة جامعة وهو أن يقال لا ريب أن قياس الغائب على الشاهد يكون تارة حقا وتارة باطلا، وهو متفق عليه بين العقلاء؛ فإنهم متفقون على أن الإنسان ليس له أن يجعل كل ما لم يحسه مماثلا لما أحسه؛ إذ من الموجودات أمور كثيرة لم يحسها ولم يحس ما يماثلها من كل وجه؛ بل من الأمور الغائبة عن حسه مالا يعلمه أو ما يعلمه بالخبر بحسب ما يمكن تعريفه به كما أن منها ما يعلمه بالقياس والاعتبار على ما شاهده. وهذا هو المعقول كما أن الأول هو المسموع والمحسوس ابتداء هو ما يحسه بظاهره أو باطنه،  وهذا بين. (بيان تلبيس الجهمية (1|303))
2- لا يلزم من الاشتراك اللفظي التشابه في الحقائق. قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه للطحاوية (105): "وأما ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور الغائبة فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عاداً؛ فإن عاداً من جنسهم، والريح من جنس ريحهم، وإن كانت أشد. وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بعينه الإخبار عن الأمم الماضية، ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا كما قال تعالى:
{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب}.
وقد يكون الذي يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم. فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه وفعل قولا يكون حكاية له وشبها به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة فينبغي أن يعرف هذه الدرجات:
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب. فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما  وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق بأن يقال ليس ذلك مثل هذا ونحو ذلك. وإذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط. انتهى
وقال رحمه الله: ويقال لهم: هذا كاشتراك الموجود الواجب والموجود الممكن في مسمى الوجود مع امتياز هذا بما يخصه وهذا بما يخصه، فإن الوجوب المشترك الكلي ليس هو ثابتا في الخارج بل للواجب وجود يخصه وللممكن وجود يخصه كما أن لهذا حقيقة تخصه ولهذا حقيقة تخصه. وكذلك إذا قيل لهذا ماهية تخصه ولهذا ماهية تخصه فإنهما يشتركان في مسمى الماهية ويمتاز أحدهما عن الآخر بما يختص به وإنما اشتركا في المسمى المطلق الكلي وامتاز كل منهما عن الآخر بالوجود الذي في الخارج. (درء التعارض (2|391)). وقال أيضا: وبين فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معينا مقيدا وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر هو تشابهها من ذلك الوجه وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا لأن الموجودات في الخارج لا يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله. ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس متناقضا في هذا المقام فتارة يظن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حذرا من ملزومات التشبيه وتارة يتفطن أنه لا بد من إثبات هذا على تقدير فيجب به فيما يثبته من الصفات لمن احتج به من النفاة. (مجموع الفتاوى (3|76))
3- لا يستعمل في حقه تعالى قياس الشمول وقياس التمثيل بل يستعمل في حقه قياس الأولى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله: والأقيسة العقلية وهي الأمثال المضروبة كالتي تسمى أقيسة منطقية وبراهين عقلية، ونحو ذلك استعمل سلف الأمة وأئمتها منها في حق الله سبحانه وتعالى ما هو الواجب وهو ما يتضمن نفياً وإثباتاً بطريق الأولى، لأن الله تعالى وغيره لا يكونان متماثلين في شيء من الأشياء لا في نفي ولا في إثبات بل ما كان من الإثبات الذي ثبت لله تعالى ولغيره؛ فإنه لا يكون إلا حقا متضمنا مدحا وثناء وكمالا، والله أحق به ليس هو فيه مماثلاً لغيره، وما كان من النفي الذي ينفي عن الله وعن غيره؛ فإنه لا يكون إلا نفي عيب ونقص، والله سبحانه أحق بنفي العيوب والنقائص عنه من المخلوق فهذه الأقيسة العادلة والطريقة العقلية السلفية الشرعية الكاملة، فأما ما يفعله طوائف من أهل الكلام من إدخال الخالق والمخلوقات تحت قياس أو تمثيل يتساويان فيه؛ فهذا من الشرك (والعياذ) بالله، وهو من الظلم، وهو ضرب الأمثال لله، وهو من القياس والكلام الذي ذمه السلف وعابوه. ولهذا ظن طوائف من عامة أهل الحديث والفقه والتصوف أنه لا يتكلم في أصول الدين، ولا يتكلم في باب الصفات بالقياس العقلي، وأن ذلك بدعة، وهو من الكلام الذي ذمه السلف، وكان هذا مما أطمع الأولين فيهم لما رأوهم ممسكين عن هذا كله إما عجزاً أو جهلاً. وإما لاعتقاد أن ذلك بدعة وليس من الدين وقال لهم الأولون: ردكم أيضاً علينا بدعة؛ فإن السلف والأئمة لم يردوا مثل ما رددتم، وصار أولئك يقولون عن هؤلاء إنهم ينكرون العقليات، وأنهم لا يقولون بالمعقول، واتفق أولئك المتكلمون مع طوائف من المشركين والصابئين والمجوس وغيرهم من الفلاسفة الروم والهند والفرس وغيرهم على ما جعلوه معقولاً يقيسون فيه الحق تارة والباطل أخرى، وحصل من هؤلاء تفريط وعدوان، ومن هؤلاء تفريط وعدوان أوجب تفرقاً واختلافاً بين الأمة ليس هذا موضعه.
ودين الإسلام هو الوسط وهو الحق والعدل وهو متضمن لما يستحق أن يكون معقولاً ولما ينبغي عقله وعلمه ومنزه عن الجهل والضلال والعجز وغير ذلك مما دخل فيه أهل الانحراف فسلك الإمام أحمد وغيره مع الاستدلال بالنصوص وبالإجماع مسلك الاستدلال بالفطرة والأقيسة العقلية الصحيحة المتضمنة للأولى. وذلك أن النجاسات مما أمر الشارع باجتنابها والتنزه عنها، وتوعد على ذلك بالعقاب كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه . وهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وهي مما فطرت القلوب على كراهتها والنفور عنها واستحسان مجانبتها لكونها خبيثة؛ فإذا كان العبد المخلوق الموصوف بما شاء الله من النقص والعيب الذي يجب تنزيه الرب عنه لا يجوز أن يكون حيث تكون النجاسات، ولا أن يباشرها ويلاصقها لغير حاجة، وإذا كان لحاجة يجب تطهيرها ثم إنه في حال صلاته لربه يجب عليه التطهير؛ فإذا أوجب الرب على عبده في حال مناجاته أن يتطهر له وينزه عن النجاسة كان تنزيه الرب وتقديسه عن النجاسة أعظم وأكثر للعلم بأن الرب أحق بالتنزيه عن كل ما ينزه عن غيره. (بيان تلبيس الجهمية (2|536)).
وقال شيخ الإسلام: "والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع، ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه؛ فإن الله سبحانه ليس مثلاً لغيره ولا مساوياً له أصلاً بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك، (والعياذ) بالله، وجعل الند بالله، وجعل غيره له كفوا وسميا  وهم مع هذا كثير والبراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه (والعياذ) بالله، وجعل غيره له كفواً ونداً وسمياً كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك . ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة في كتاب "الإيضاح في شرح الصحاح" أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه، وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى، وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكلما ثبت للمخلوق من صفات، فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه، ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى وأحرى أن يكون هو موصوفا به إذ ليس أعطى، وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله لغيره؛ فإن ذلك لا يمكن بل وهب له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة، وكذلك ما كان منتفياً عن المخلوق لكونه نقصاً وعيباً، فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع. وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل , ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها , وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحق بالتنزيه عنها لأنه عن العدم أبعد من سائر الموجودات . ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته , وذاته بذاته تنافي العدم، وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته؛ فإذا أثبت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريق القياسية العقلية التي لله فيها المثل الأعلى كان ذلك اعتباراً صحيحاً، وكذلك إذا نفي عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطريق. ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية. (بيان تلبيس الجهمية (1|327))
وقال ابن أبي العز الحنفي: ومما يوضح هذا أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده؛ فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء فلا يجوز أن يمثل بغيره. ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها. ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين بل تناقضت أدلتهم وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافيها ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى سواء كان تمثيلاً أو شمولاً كما قال تعالى {ولله المثل الأعلى } مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه؛ فالواجب القديم أولى به، وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر؛ فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات؛ فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى. (شرح الطحاوية (119))
وقال شيخ الإسلام: … والثالثة طريق قياس الأولى وهي الترجيح والتفصيل، وهو أن الكمال إذا ثبت للمحدث الممكن المخلوق فهو للواجب القديم الخالق أولى، والقرآن يستدل بهذه وهذه. ثم قال: وأما الاستدلال بطريق الأولى فقوله {ولله المثل الأعلى} ومثل قوله {ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم}. وأمثال ذلك مما يدل على أن كل كمال لا نقص فيه يثبت للمحدث المخلوق الممكن فهو للقديم الواجب الخالق أولى من جهة أنه أحق بالكمال لأنه أفضل. (مجموع الفتاوى( 16/357))> أ. ه

منقول عن "ملتقى أهل الحديث"
---------------------------

ولا من طريق قياس الأولى، ولا أية قياس. فكل قياس فيه تشبيه بطريق ما لا يسلم منه. ماذا عن النقائص، إرتفاقا بمنهاج المثانى، هل تنسب بقياس الأولى إلى الخالق أيضا؟ نستغفره ونتوب إليه. فى قوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"، نفى لكل قياس موضوع. فيه نفى للتشبيه والتمثيل كليهما، نفى التشبيه بالكاف ونفى التمثيل بالمثل. فى الأول المخلوق وفى الثانى الأفعال. المسألة فى أصلها ليست "قياس" الغائب على الشاهد، فهو من الشرك وباطل أصله كما قال شيخ الإسلام، إنما المسألة "التدليل" على الغائب بالشاهد. إن كان المستهدف البرهان على الخالق فإن مسالكه لا تتأتى بالأقيسة إنما البراهين التى يتقبلها العقل الجمعى، وإنما كل مدارك العلم،  متكاثر نصا فى الذكر الحكيم، لا يحتاج إلى فلاسفة ولا متكلمين إبتداءا، مقام "يعقلون" و "يتفكرون" و "أولوا الألباب"، ومثله، فلم تنزل الرسالات للفلاسفة والمتكلمين إنما عامة البشر جاهلهم وعالمهم بما يعقلون وبما يعلمون قل أو كثر، كما فى قوله تعالى:
*  أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ* (الحج: 46)
وقوله:
* لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ* (الحشر: 21)
وقوله:
*إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ* (آل عمران: 190)
وحجاج إبراهيم عليه السلام فى قول الحكيم العليم:
* قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُ‌هُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * (الأنبياء: 63)
ومثله من تساؤلات البرهان، ومقام آيات الإعجاز فى الخلق والتنزيل. ما غلطوا فيه إلى الكفر والتكفير هو التأويل الزائغ للمتشابهات. المسألة برمتها سطرها القدير العليم فى قوله:
* وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَ‌بُّهُ قَالَ رَ‌بِّ أَرِ‌نِي أَنظُرْ‌ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَ‌انِي وَلَـٰكِنِ انظُرْ‌ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ‌ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَ‌انِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَ‌بُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ‌ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * (الأعراف: 143)
 منهاجية الإستدلال، كرر فيها لفظ الجلالة وفعل الرؤيا على الجذر ثلاث مرات، كما كرر قوله: "أَنظُرْ‌" و"قال" كلا منهما مرتين. الطلب هو رؤية الله (التكرار ثلاثا)، ولما كان ذلك ممتنع بالطبيعة فى الحياة الدنيا، دله سبحانه على السبيل، أن يرى نتاج الأثر والفعل والقدرة. مثلما هو معمل الكيمياء، لا يرون التفاعلات ولا الذرات والجزئيات، إنما ما نتج منها ظاهرا بشواهد معينة محسوسة، ألوان أو رواسب أو تغيرات ظاهرية ترى أو تسمع. الحس له الدور ثم العقل بالأسباب يسطر النتائج ويقرر الأحكام. جعل الله الجبل دكاء، محطم، إختفى من الوجود كجبل إلا بقايا الحطام، برهان على قدرته سبحانه. هذا هو الأصل فى المسألة، ليس من قياس إنما المشاهدة والإستنتاج كما فى التجارب المعملية، البرهان على الغائب بالشاهد.
نفس المنهاجية فى قول العزيز الحكيم:
* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّـهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * (البقرة: 258)
حجاج من واقع الحياة العملية اليومية برهانا على الخالق جلت قدرته، برهان بالمشهود ولا من قياس. مثل ذلك حجاج إبراهيم، عليه السلام، أيضا برؤيا العين والواقع الطبيعى، ليس فى حاجة إلى متكلمين أو فلاسفة، بل من قبل أن يكون هناك متكلمين أو فلاسفة أو مناطقة، فى قوله االخلاق العليم:
* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ ۚ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّـهِ وَقَدْ هَدَانِ ۚ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا ۗ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۗ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * (الأنعام: 77 - 80)
      ثابت فى الذكر الحكيم أن الكلام عن الذات الإلهية وإثبات الألوهية ليس طريقه الأقيسة إنما البراهين، قوله الحكيم العليم:
* أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْ‌هَانَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ‌ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ‌ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُ‌هُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِ‌ضُونَ * (الأنبياء: ٢٤)
وقوله:
* وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ‌ لَا بُرْ‌هَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَ‌بِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُ‌ونَ * (المؤمنون: ١١٧)
وقوله:
* أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْ‌زُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْ‌ضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ اللَّـهِ قُلْ هَاتُوا بُرْ‌هَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * (النمل: ٦٤)
كرر مطلوب البرهان ثلاث مرات، فالمنهاجية التى قررها سبحانه فى العقيديات. في الأدلة الثلاثة إشارة إلى أن الإعتقاد، وفيه أصول الدين، باب من أبواب المنهاج، نتناوله فيما بعد مع البحث فى أبواب المنهاج الإثنى عشر، بإذنه تعالى. جدير بالذكر أن إبن رشد من الرواد القلائل فى تزكية البرهان للتدليل على الخالق من طريق حسن الصنعة دلالة على الصانع، بلا سفسطة كلامية، وإن لم يعمد إلى الأدلة النقلية التى سقناها. ولله الحمد والمنة.

      ما ندعو إليه الفكر الإسلامى هو التفرقة فى الإستدلال والإستنباط والإستنتاج بين الأقسام الثلاثة الرئيسية فى الدين: العقيدة والشرعة والمنهاج، حتى لا نستمر فى الخلط ولا يكون إبهام وتشتت عن المطلوب. فما يصلح فى أحدها من مسالك التدبر لا يلزم صلاحه فى القسمين الآخرين. القياس متبع فى الشرعة، ولو أن عليه خلاف، لكنه لا يصلح مع العقيدة فى معظم مسائلها، ولا نرى له صلاحا فى المنهاج - حتى الآن - إلا المساحة المشتركة بينه وبين الشرعة (مقالتنا "الإضطرار والمشقة فى المنهاج").
      طريق الإستدلال فى العقيدة هو أساسا البرهان، أما الشرعة فمعروف الإستنباط والقياس وتنزيل الكلى على الجزئى وغيرها من طرق التقعيد، وفى المنهاج ثلاثية التكرار والتجريد والإستقراء. دليلنا فى ذلك أن المنهاج مازال مطمورا حتى الآن فى طيات المتشابه لأن طرق الإستدلال المتبعة فى الشرعة أو العقيدة لا تصلح للكشف عنه وتأصيله. فالشرعة مبناها دليل واحد محكم نقلى، بينما المنهاج يلزمه ثلاثة أدلة غالبها من المتشابهات. بالمثل من إتبعوا الأقيسة فى العقيدة شتوا عن المطلوب ووصلوا إلا حدود الشرك والتكفير. أبو الوليد إبن رشد، رحمه الله، من القلائل الذين إتبعوا البرهان وما فارقوا النص فى العقيدة كما أشرنا فى مقالة "سنة الله فى الكون المثانى" والتدليل على وحدانية الله جل شأنه. نحن لسنا ضد الفلسفة والكلام، لأن إعمال العقل مطلوب التنزيل. ولسنا ضد أى تدبر للقرآن الكريم بأى طريق، إنما مرامنا إتباع الطريق الصحيح للهدف الصحيح، ثنائية الغاية والوسيلة فى المنهاج. ننوه مرة أخرى أننا لسنا معتزلة ولا أشاعرة، ولا شافعية ولا حنفية. رسالتنا المنهاج ومتعلقاته من الأقسام الأخرى، نستدل بما يستقيم معه من الفكر الدينى والعلمى، تطاحنوا أو إختلفوا أو تباينوا أو إجتمعوا. وعلى الله قصد السبيل.

      لا نبالغ إن قلنا أن طرق الإستدلال هى من أهم عوامل تخلف المسلمين منذ الإنحسار فى الأندلس. قالوا بالنسخ فى آى الذكر الحكيم وما أنزل كى ينسخه بشر بتأويل، وقالوا بالقياس فى التدليل على الغائب بالشاهد فجاوزوا أصول الدين إلى تخوم الكفر والتكفير، وأشركوا بالله من حيث لا يعلمون فى إستدلالاتهم وخوضهم فى الذات الإلهية، فباتوا شيعا. لم يكن المنهاج فى دائرة منظوراتهم لقصر النظر على الشرعة والعقيدة، فخسروا الكثير من أمور دنياهم وأخراهم سواء، ضلوا عن الصراط وضاعت منهم أسباب الإستخلاف فى الأرض المستترة جلها فى المنهاج. ثم كان عقاب الله أن سلبهم الحضارة والعلم وأسبابهما ومنحهما لغيرهم من الأمم ليتسلطوا عليهم. تلك هى النتيجة من الغلط والخلط فى الإستدلال، خاصة المتشابهات، وتلك حكمته جلت قدرته وازعا لكل عقل مسلم لكى يقف على المسالك الحق فى الدين وأصوله. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
      لنا عودة فى مقامات أخرى بإذنه تعالى. والله المستعان.

-----------------------------
الإنشاء : [Minhageat.com]

تعليقات موضوعية:

إستشكال السماء وأين الله؟!

إستشكال السماء وأين الله؟!

By المنهاج | 4:05 PM EET, Wed March 20, 2024
      نجئ للرأى القائل بالجهة، أجمعت الأمة، أئمتها وعلمائها وجهالها بالدعاء والتضرع برفع اليد متجهة إلى السماء حيث الإله، جل وعلا. بالرغم من هذا الإجماع هناك من يخالف على المكان، فقد إختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، نفس الدليل الذى يجمع بينهم بعد طول شتات بإذنه تعالى، موضوعنا.
أولا: ماذا فى السماء؟ وكيف ترى كوكبنا الأرضى نسبة إلى الكون؟ التقديرات الفلكية تقريبية، تقول إحداها فى بساطة بلا إسهاب علمى: الشمس أكبر من الأرض مليون مرة:

(اللأرض نقطة صغيرة إلى اليسار من الكواكب الأخرى التى تدور حول الشمس)

 وتتألف مجرتنا (درب التبانة) التي تضم مجموعتنا الشمسية من 200 مليار على الأقل من النجوم مثل شمسنا (فى التقديرات الأخيرة العدد يقترب من 400 مليار). النظام الشمسي بأكمله هو 200/1 من المليار من مجرتنا. منه أنه من الصعب أن ترى شمسنا عند النظر في درب التبانة:

 
      (مجرة درب  التبانة، الشمس إحدى النقاط الصغيرة)
 
الكون به 100 مليار مجرة. حتى مجرتنا هى 100/1 مليار من الكون. إذا كان لنا أن ننظر في الكون، فإن كل مجرة تبدو وكأنها نقطة مشرقة ضئيلة للغاية. العدد المقدر من النجوم في الكون حوالى 20 مليار تريليون (أو 20 sextillion) نجم:
 

(مجرة درب التبانة إحدى هذه النقاط)

ثانيا: من هذا المنظور الفلكى، شمسنا تمثل 20/1 من مليار تريليون من نجوم الكون، فيمكن تقدير كوكب الأرض على أنه 1/ مليون من الرقم السابق، ما من شأنه أن يجعل  نصيبنا الأرضى من الكون:
%.000000000000000000000000005
فمن منظور الكون، الأرض تبلغ تقريبا لا شيء.
المصدر:
http://onewithnow.com/a-view-of-our-place-in-the-universe/

 ثالثا: يقولون أيضا بأن سرعة دوران الأرض حول محورها، حول نفسها، يصل إلى حوالى 1,600 (ألف وستمائة) كيلو متر فى الساعة. بحسبة بسيطة فإن اليد المرفوعة إلى السماء تتحرك مع صاحبها بسرعة حوالى نصف كيلومتر فى الثانية الواحدة. أى أن الذى يدعو مع كل كلمة فى دعائه، لا تشير يده إلى نفس المكان فى السماء الذى كانت تشير إليه من ثانية مضت، بالرغم من سكون اليد عند الدعاء. فمن قال من المتكلمين بأن الله فى السماء ويقصد جهة محددة فهو قول باطل، ليس هناك دليل علمى عليه هذه الأيام، غير متحقق من حيث الواقع. بمعنى آخر إن كانت هناك تلك الجهة فلن يقصدها القاصد وهو على الأرض فى كل المرات، لأن السماء ليلا غير السماء نهارا، إلا أن تكون فى مركبة فضائية ثابتة المدار، نظرية المدار الذى يدور فيه القمر الصناعى لبث الإرسال التليفزيونى إلى الأرض، فهو يدور بنفس سرعة دوران الأرض حتى يشير إرساله لمكان ثابت على الأرض، زاوية إستقبال القناة. وحتى من القمر الصناعى فهو تابع للأرض مثل القمر الطبيعى، يدور معها حول الشمس:

 
(مدار الأرض حول الشمس، حيث تدور الأرض حول محورها المائل قليلاً عمودياً على مدارها الشمسى)
 
ليس هذا فحسب، فإن الأرض تدور فى مدارها حول الشمس بسرعة تصل لحوالى 107,000 كيلومتر فى الساعة، أى حوالى 3 كيلومتر فى الثانية، سرعة تحرك الأرض ومن عليها حول الشمس (سرعات فائقة فى الفضاء لا يحسها البشر). فاليد الممدودة إلى السماء فى الدعاء تتحرك فى إتجاهين، بسرعة نصف كيلومتر فى إتجاه، وثلاث كيلومترات كل ثانية فى الإتجاة الثانى. فهل تشير اليد إلى نفس السماء مع كل حرف يقال فى الدعاء؟ هندسيا، إذا إفترضنا أن اليد لها شعاع يشير إلى السماء، مثل الكشافات الليلية الكبيرة أو ما تراه فى الإحتفالات، وكانت المسافة التى يقطعها نصف كيلومتر مثلا، شكلت هذه الحركة قطاع من كرة. وبتصور بسيط عن المسافة التى يتحركها الشعاع على إمتداد الكون، على بعد مليون كيلومتر مثلا، تكون المسافة التى يتحركها الشعاع تخيلية بإمتداد الكون الرهيب. لو أن اليد ظلت مرفوعة إلى السماء لمدة 24 ساعة لأشارت فى مسح فضائى إلى الكون بأكمله بدلا من القطاع السابق المحدود. هى نفس النتبجة بإعتبار جميع المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها. فإن قصدت الإله الذى فى السماء فقد قصدته فى الكون بأكمله، أى التسليم بأن الله موجود فى كل الوجود. منه أنهم ينفون الجهة من حيث يريدون إثباتها، بل من المستحيل إثباتها على أساس من منجزات العلم الحديث.
فائدة: مفاد ذلك العلم أنك فى الدعاء لا تشير يدك إلى مكان واحد الذى يفترضه أهل القول بالجهة أوالمكان أو الجسم. ومن قالوا بأن الله فى كل مكان قد أصابوا من هذه الزاوية العلمية الحديثة مع فرض جهة ثابتة، فليست كذلك. أصحاب هذا القول ردوا مغالطة رفع اليد إلى السماء بالدعاء، وإن كانت فى الحقيقة لا تشير إلى ثابت، بأن مقصودها ليس جهة مكانية معينة، إنما جهة العلو والسمو المعنوية التى تليق بالإله، ولله المثل الأعلى. نحن هنا نثبت بأن رفع اليد إلى السماء تشير إلى أن الله موجود فى كل الوجود. ليس المقصود الدلالة المعنوية فقط إنما المادية أيضا، فلله المثل الأعلى وموجود فى كل مكان، كليهما.  مع التسليم بهذا القول، ما ذا عن دعاء المصلى فى السجود وليس مستقبلا قبلة السماء التى فيها الإله، بل قالوا بأنه أكثر الدعاء قربا من لله، يقصدون حالة الخشوع، فهل يصل دعاؤه إلى ربه فى السماء؟
      بقى تعريف السماء: فى اللغة كل ما سما وعلا، وفى العلم يقصد بها الغلاف الجوى ذى اللون الأزرق نهارا، ويقصد بها الأوسع وهو الكون بما فيه من كواكب ونجوم ومجرات. أيا كان التوجه فهو إلى السماء الأعلى، كانت الغلاف الجوى أو الكون بأكمله، إعتمادا على ما توصل إليه العلم، وكليهما مشار إليه فى الذكر الحكيم، لا يغير شيئا مما توصلنا إليه فى المسألة. مذكور أيضا أن هناك سبع سماوات طباقا، بمعنى أن السماء الدنيا محتواه فى السماء الأعلى منها، الثانية التالية، وهذه محتواه فى الثالثة وهكذا، فى كرات متداخلة لا مركزية. إذا إفترضنا أن للأرض سماء وللشمس سماء، كانت سماء الأرض محتواه فى سماء الشمس، الدائرة الأكبر، وسماء الشمس محتواه فى سماء مجرة درب التبانة، وهكذا. فأى سماء تشير إليها اليد فى الدعاء؟ فإن قلنا أن الله فى السماء الأعلى السابعة التى تشير إليها اليد أثبتنا الجسمية والتشبيه.
      منه لو تعمد الداعى أو المصلى التوجه لمكان ما أو وجهة ما فيها الإله فليس بقاصدها البتة، وقد فاته الإله. فى الحقيقة وكما ذكر فإن إتجاه الشعاع الصادر عن اليد إلى السماء يرسم كرة مركزية  وليس خطا مستقيما فى الفضاء كما هو التصور لو أن اليد ثابتة لا تتحرك مع فرض سكون الأرض، التصور الفلكى القديم. الأصح علميا وكما جاء فى الذكر الحكيم، أن الله فى كل مكان حتى لو تعمدت التوجه لجهة معينة التى هى السماء، كنت رافعا اليد إلى السماء أو ساجدا. فيه تفصيل بإذنه تعالى، إنما مقصدنا هنا نفى الجهة من الثبات التى قصدوها. وعليه فقد تحقق علميا مفاد قوله الحكيم العليم:
* فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِ‌ۚ * (البقرة: 115)
مفاد ذلك فى الدلالة أنه لم بتكشف من قبل الدليل الطبيعى المطلوب لتأويل الدليل القرآنى الذى وضع متشابها لتأخر الدليل الطبيعى زمنيا، المفهوم الفصيح لخاتمية الرسالة وتضمينها المتشابه، مطلوبه التأويل البعيد زمنيا وعقليا، المفهوم الذى لم يبسط على أصوله من قبل. دل الطبيعى بالتأويل على مقصود النقلى، وبه دل النقلى على إعجاز الله فى الكون، أن الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس، الذى يثبت أن وجه الله أينما تولى المصلى من حيث العبادة، وأن الله موجود فى كل الوجود من حيث الإعتقاد، ودل فى المآل على أنه تعالى واحد أحد لا شريك له ولا ولد، هو الخالق يعلم من وما خلق وهو اللطيف الخبير. التشابه هنا منشؤه قوله: "وجه الله". يستقى مجمل مفاد الدلالة من قول النبى، صلى الله عليه وسلم: "لا يخلق عن كثرة الرد"، ثراء الدلالة متشابها ومطلوب التأويل البعيد زمنيا وعقليا، زمنيا تعنى أنباء غيب ما بعد الوحى، وعقليا تعنى التأويل البعيد فى العقل، ما قال به إبن رشد، رحمه الله. وقوله" "لا تنتهى عجائبه"، الإعجاز يترى بلا سقف زمنى (سبق الحديث فى الجزء الأول من الإستشكال)، شاهده الإستشكال موضوع البحث كإعجاز طبيعى، وشاهده كإعجاز تاريخى من أنباء الغيب الحواريون الجدد، وشاهده بين أيدينا كإعجاز حى إعصار كاترينا وآية الطير فى الفاتيكان (مبسوط على المدونة فى باب "إعجاز")، وكل ما أثبته العلماء من إعجازات العصر. والله أعلم.
      هو نفس المفاد فى قوله العزيز الحكيم:
* قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا * (البقرة: 144)
عند أصحاب اللغة: "قَلَبَ القَضِيَّةَ عَلَى وُجُوهِهَا : نَظَرَ إِلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الأَوْجُهِ". كأنه صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء فى غير جهة ثابتة، أن الله موجود فى كل الوجود، إنما خصص سبحانه قبلة الصلاة تثبيتا لفؤاده وتوحيدا المسلمين، خاص يشير إلى العام، ذكرناه فى مقام آخر.المرجوح فى التأويل، أنه صلى الله عليه وسلم عندما يتوجه إلى السماء يكون توجهه مثل اليد المرفوعة إلى السماء بالدعاء، وقد رأينا أنها لا تشير إلى ثابت فى السماء. فكان التقلب ناتجا عن حركة الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس، مع كون النظر متوجها إلى السماء. قوله تعالى: "نَرَىٰ" فيه متشابه تأويله أن النبى كان ينظر إلى السماء "ليرى" الله فيتوجه إليه حيث يكون، ولو أن رؤيا الله ممتنعة، إنما كان البحث أصلا عن قبلة لصلاة المسلمين، مفهوم الآية. ظاهر الفعل يدلل على علم الله، أنه تعالى مطلع على الأفئدة مفروغ منه، ولا تتفق الدلالة بالنظر إلا أن يكون الفعل متشابها، ولأن التقلب فى حقيقة أمره ليس بالوجه إنما بالنظر، وكان النظر جزء يشير إلى الكل، مثل الخاص الذى يشير إلى العام. منه أن العلم الحديث يثبت الإعجاز فى هذه الآية أيضا، أن التقلب المسند للوجه ناتج عن حركة الأرض لا من حركة النظر، ولأنه غير متصور أن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يقلب وجهه فى السماء بحثا عن الله، وإلا لتناقلته الروايات والتأويلات الكلامية وإتبعته الأمة لأهميته فى العقيدة مقام البحث. والله أعلم.
فائدة ثانية، أن ما تقدمه التقارير العلمية تثبت الإعجاز العلمى فى قول الخلاق العليم:
* لَخَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَڪۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَڪۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ * (غافر: 57).
عندما يذكر تعالى "يَعۡلَمُونَ" فإنها تعنى فى الغالب الأعم العلم الطبيعى، خاصة فى مواضع تحدى علم البشر مثل ما فى هذه الآية الكريمة. وقوله: "أَڪۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ "، تعنى أن العلماء الذين يعلمون هم قلة قليلة، وفى علم الغيب.  بالمقارنة، فعدد النجوم فى الكون هو 20 مليار تريليون، ويقدر العلماء عدد خلايا جسم الإنسان ب 50 تريليون. ومهما كانت نسبة التقريب والخطأ فى هذه التقارير، فإن عدد النجوم يفوق عدد خلايا جسم الإنسان 400 مليون مرة تقريبا. لو أخذنا الجزيئات أو الذرات فى الحسبان وهو أمر عسير عده كونيا، ستجد نفس النسبة من حيث أنها أكبر أو أصغر. وسبحانه تعالى الخلاق العليم معجزا، تعالى عما يشركون بالجهة. والله أعلم.
       مسك الختام كلام الخالق القدوس السلام:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّـهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
صدق الله العظيم
_____________________
[Minhageat.com] على الإستشكال

تعليقات موضوعية: