علاوة على ذلك وعلى أساس كلا من الأدلة التاريخية والفهم الإسلامى لمحمد كنبي، من الواجب تطريز إستجابة للكتابات المسيحية التى تثير الجدل لإعتبارها محمد ملحدا أو عدوا للمسيح. يعود ذلك إلى العصور الوسطى المبكرة ومازال يؤثر إلى حد ما فى التصور الغربي له. وعليه فإنه لأمر جوهرى أن ننظر فى المعطيات التاريخية – التى ليست بالضرورة مبنية على فروض علمانية – وأن نسبك توضيحا للفهم الإسلامى لمحمد.> ا.ه.
المقالة التى إقتبسنا منها فى عمومها تقرير طيب عن رسول الإسلام محمد صلى عليه وسلم من وجهة نظر غربية مسيحية علمية. تركيزنا على رؤيا الغرب وليست رؤية كاتب المقال. ليس بجديد أن يلعن الكفار والمشركون رسول الله، ففى حياته صلى الله عليه وسلم حملوا عليه بشتى الطرق، ثابت فى الذكر الحكيم، قول القاهر فوق عباده:
* أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ۚ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * ﴿المؤمنون:٧٠﴾
وحتى يزيح عنه غمة الطعن فيه، قال له ربه:
* فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * ﴿الطور: ٢٩﴾
ولم يكن ذلك لمحمد، صلى الله عليه وسلم، فقط إنما الرسل والأنبياء من قبله، فهذا نوح عليه السلام أتهم بالجنون، قوله تعالى:
* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * ﴿القمر: ٩﴾
وفى الإجمال عن كل الرسل ضمنهم موسى وعيسى عليهما السلام، قال جلت حكمته:
* كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * ﴿الذاريات: ٥٢﴾
وقال:
* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * ﴿الزخرف: ٧﴾
* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * ﴿الحجر: ١١﴾
وقال:
* وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * ﴿الأنعام: ١٠﴾
ثم عقب جل شأنه نذيرا:
* فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * ﴿الأنعام: ٥﴾
إذن فلم تأت دائرة المعارف البريطانية بالجديد فى هذه المسألة إن حمل الغرب، منذ القرن السابع الميلادى، على خاتم المرسلين، صلى الله عليه وسلم، ولعنوه وطعنوا فيه بالإلحاد والعداء للمسيح عليه السلام. فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال، قال رسول الله:
"ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمدا".
أما أن العداء بين الأديان لا يقره الإسلام ولا أى دين ربانى يؤكده قوله جلت حكمته:
* قُولُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * ﴿البقرة: ١٣٦﴾
وقعت تبعة العداء إذن على النصرانية المحرفة. الوجه الأول للآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى قرر بأن كل الذين آمنوا برسول أو نبى يعرفون بأنهم "مسلمون". اليهود من آمنوا بموسى عليه السلام مسلمون، والحواريون الذين آمنوا بعيسى عليه السلام مسلمون أيضا. أسلموا قيادهم للخالق جل شأنه، واحد أحد لا شريك له، وأسلموا وجههم للدين حنيفا، ما هم عليه. هو العداء الذى يردده ويزكيه الإرهابيون أيامنا هذه تحت راية الإسلام، ترديدا لكنيسة عصر الظلام وتحريفها للإنجيل. الثابت عن كل الرسالات والشرائع السماوية أنها تدين لله الواحد القهار، لا إله إلا هو، لا إختلاف بينها إلا تفاصيل تتواءم مع التغير والتطور الإجتماعى، مفاد قوله تعالى:
* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللَّـهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * ﴿البقرة: ٩١﴾
وقوله:
*نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * ﴿آل عمران: ٣﴾
كل رسالة تنزلت تصديقا للواقع الذى يعيشه الناس فى زمنهم. التصديق ينسحب على التوراة والإنجيل بالعطف، تصديقا بالوصف والتشخيص وبالعلاج، ما هو تواءم الشرائع مع مقتضيات الحال. ثم جاءت رسالة الإسلام خاتمة فيها ما يتواءم مع كل العصور سواء فى زمن التنزيل أو فى الأزمنة اللاحقة، من طريق الكليات والتدبر.
تشويه صورة الإسلام لم تنقطع منذ نشأته الأولى. اليوم يتهمونه بتزكية العنف والقتل والسحل والإرهاب، والإسلام منهم براء. قال فى ذلك الكثير من مفكرى الإسلام، أئمته ودعاته ومشايخه، منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر فى نيويورك.
الوجه الثانى أن الإسلام كما هو واضح لا يتهم أو يعتبر من يؤمن بأى من الرسل أو الأنبياء بالكفر أو الشرك، إن آمنوا على إستقامة الرسالة والنبوة، يؤمنون بالله، واحد أحد لا شريك له ولا ولد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: < الإسلام دين والدين مصدر دان يدين دينا: إذا خضع وذل ودين الإسلام الذي ارتضاه وبعث به رسله هو الاستسلام لله وحده بعبادته وحده، فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما >.
قال الرؤوف الرحيم:
* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * ﴿البقرة: ٦٢﴾
وقال:
* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * ﴿المائدة: ٦٩﴾
كررت مرتين بالإيجاب على الإيمان، (الثالثة بالسلب، آية الحج: 17، فيما بعد)، تقريرا بأنهم مسلمون عندما يؤمنون بوحدانية الله، وبمنهاجه على المثانى. ومنه يكون التكرار مرتين إشارة إلى الأعمال الصالحات مبنية على منهاج الله والمثانى فيه.
باقى القصة فى الذين لم يطيعوا الله ورسوله ونبيه فيما جاء به من عند الله وحيا، الأمر الذى يعتبر أساسا جوهريا فى الإجابة على السؤال الذى يطرح نفسه إزاء ما سطرته دائرة المعارف البريطانية من ضرورة توضيح موقف الإسلام وفهمه لرسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم. السؤال هو: لم أرسل سبحانه وتعالى رسولا بعد عيسى عليه السلام ولم يتقبل الغرب ذلك؟ نفس الطوائف المذكورة آنفا إيجابيا على الإيمان يذكرها سبحانه وتعالى بأن فيهم من يشرك بالله، قوله:
* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّـهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * ﴿الحج: ١٧﴾
التكرار الثالث للطوائف إشارة لمنهاج الله فى رسالاته، أن المنهاج لا يقتصر تضمينه على القرآن الكريم وحده.
قال جل ذكره فى التفصيل:
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّـهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ * ﴿الصف: ١٤﴾
نستطرد فى التدليل على التحريف الذى أصاب الرسالتين السماويتين التوراة والإنجيل والذى كان السبب الأول فى بعث محمدا ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم برسالة القرآن الكريم. قال تعالى:
* فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * ﴿آل عمران: ٥٢﴾
مرة ثانية يشهد الله على أن من آمن به، واحد أحد لا شريك له ولا ولد، وآمن بعيسى عليه السلام كرسول لله وبرساته السماوية فهو مسلم، منه أن الحواريين مسلمون. علينا هنا أن نفرق بين الإيمان والتدين، من آمن مع أى من أنبياء الله ورسله فهو مسلم بنص الآيات الكريمة ومنذ أبانا إبراهيم عليه السلام حيث قال أحكم الحاكمين:
* قُولُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * ﴿البقرة: ١٣٦﴾
أما رسالة محمد عليه الصلاة والسلام فهى دين الإسلام، ومسلموه بصفة الإسلام. المعروف عن المسلمين بين الناس بأنهم من آمنوا بدين الإسلام فقط، ما ينقصه الدقة فى التعريف بناء على الدلائل البينة السالفة الذكر. المؤمنون بالله الواحد الخالق البارئ المصور مسلمون، كانوا مؤمنين على ملة إبراهيم أو موسى أو عيسى أو محمد عليهم الصلاة والسلام. لكن يقال تهود ويهودى مع موسى عليه السلام ودين اليهودية، ويقال تنصر ونصرانى على ملة عيسى عليه السلام ودين النصرانية، ويقال أسلم ومسلم على ملة محمد عليه الصلاة والسلام ودين الإسلام. فلا يجوز الخلط بين الإيمان والتدين بصفته. أما أن الصفة فى الإيمان والتدين واحدة مع الإسلام فلأن الإسلام هو الدين الجامع لكل الأديان. مصداق ذلك مع الحديث الشريف عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك فقال محمد صلى الله عليه وسلم فكنت أنا اللبنة"
صدق رسول الله عليه الصلاة والسلام.
الحديث الشريف مصداقا لقول العليم الحكيم:
* شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّـهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * ﴿الشورى: ١٣﴾
شرع الله نزل مع كل الأنبياء والرسل، الإختلاف فى التفاصيل. والله أعلم.
إبتعث الله موسى عليه السلام إلى فرعون وقومه، ثم إبتعث عيسى عليه السلام إلى بنى إسرائيل، ربما لصعوبة التواصل بين البشر آنذاك، ثم إبتعث محمد صلى الله عليه وسلم للبشر أجمعين فى رسالة جامعة وقال له:
* وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ * ﴿الأنبياء: ١٠٧﴾
التحريف فى الإنجيل هو نفسه التحريف الذى أصاب التوراة والذى ألف عليه الفيلسوف النابغ باروخ سبينوزا "Spinoza" كتابه "رسالة فى اللاهوت والسياسة"، الكتاب الذى كان سببا فى طرده من المعبد اليهودى، والذى ذكر فيه أيضا تحريف النصراينة التى حرفت وتحولت إلى المسيحية وعبادة الصور والتماثيل فى الكنائس. لذلك فقد بعث الله عيسى بن مريم عليه السلام لبنى إسرائيل برسالة الإنجيل حتى يرشدوا إلى الحق ويعبدوا الله الواحد القهار حق عبادته، ما جاء فى التوراة قبل التحريف. قال العلى القدير:
* وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ وَقَالَ اللَّـهُ إِنِّي مَعَكُمْ ۖلَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙوَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * ﴿المائدة: 12-13﴾
وقال:
* وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّـهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ﴿البقرة: ١١٣﴾
وقال:
* وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * ﴿المائدة: ١٨﴾
دلائل بعث الرسل والأنبياء ناصعة، تجدها فى الفكر الدينى لأية رسالة سماوية. نخص بالذكر منها أحد العلماء البارزين النابغين الذى يتردد إسمه كل يوم فى شتى بقاع العالم، المؤسس لعلم الميكانيكا، صاحب التفاحة التى هداه الله إليها لترتوى بها العلوم تقدما تقنيا إلى يومنا هذا. السير إسحق نيوتن "Newton" فى إرهاصاته عن "النبوة" يقرر فى إستقراء حصيف أنه عندما لا يطيع الناس ما جاء به النبى يبعث الله لهم نبيا من بعده ليكمل مشوار التوحيد. بمعنى شهد شاهد من أهلها، هو شاهد على علم يجوب علمه الآفاق، يبجله الغرب وكأنه نبى التقدم العلمى والنهضة العلمية فى أوروبا. لكن الغرب لا يستمع إلا إلى ما تردده كنيسة الظلام وحتى اليوم. ثم ظل الغرب يلعن فى نبى الله الخاتم ويحرق كتاب الله الكريم القرآن. عقول مظلمة لم تع أسباب بعث عيسى، عليه السلام، التى هى نفس الأسباب مع محمد، صلى الله عليه وسلم، إستقراء نيوتن مطردا على الأزمنة. لقد بعث الله عيسى عليه السلام لبنى إسرائيل بعد أن حرفوا التوراة وعبدوا العجل، أفلا تعقلون؟
دلائل البعث، خاصة محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، متكاثرة فى الذكر الحكيم، قوله جل وعلا:
* وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّـهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّـهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّـهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * ﴿التوبة: ٣٠﴾
وقال فى تثليث المسيحية، النصراينة المحرفة:
* لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ﴿المائدة: ٧٣﴾
قوله: "لَيَمَسَّنَّ" تعبير مجازى فيه الدلالة كمية، أى قليل من العذاب فى الدنيا، الأشد منه فى الآخرة. عدت الآية بذلك من المتشابه ولزم التأويل. أن الآية الكريمة من إعجاز أنباء الغيب التاريخى، من ثم صح أن يكون العذاب هو التاريخ الدموى لكنيسة الظلام بعد أن حرفت الكتاب المقدس بالتثليث وألوهية اليسوع. لو أن مؤرخا منصفا تتبع بدقة تاريخ التحريف وتاريخ عصر الظلام الكنسى الدموى لوجد رباطا وثيقا وتفسيرا وبرهانا ناصعا على المقاصد فيها، أن مسهم العذاب بالفعل، وأن وعد الله حق كما هو مع آل فرعون وموسى، عليه السلام. هو تفسير لحال الحواريين أهل الكهف فى قوله جلت قدرته:
* لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * (الكهف: 18).
العذاب فى العصر الدموى لأوروبا المسيحية. فيه تفصيل، منه أن الله بعث الحواريين مع النهضة الأوروبية، ليس بأشخاصهم ولكن بصفتهم يؤمنون بالله الواحد، لا إله إلا هو، مثل سبينوزا، تأويلا لآية من متشابه غيب الدنيا، إعجاز الله فى الأرض على مر الزمن. والله أعلم.
عن الإبتعاث فى عامته مجملا، ما قرأه نيوتن بلا قرآن أو به خفية، برهانا كافيا وإجابة ناصعة، قال الرؤوف الرحيم جل شأنه:
* ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَىٰ كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ * ﴿المؤمنون: ٤٤﴾
هل إفتقد الغرب المنطق والإستقراء والقياس بعد عصر النهضة؟! أليس حكم هذا هو نفسه حكم ذاك؟!
دائرة المعارف البريطانية تسجل الغرب لاعنا لرسول من رسل الله، بل خاتمهم، لكنها لم تسجل ولم تستدل على أو تعامت عن الأسباب الخفية. منها أن الإسلام جاء فى القرن السابع عشر ليسحب البساط السلطوى من تحت أرجل كنيسة الظلام، كنيسة العصور الوسطى كما يسجلها تاريخ الغرب الدموى إبان ذلك العصر، لأنه ببساطة "لا رهبانية فى الإسلام"، ليس من وسيط بين العبد وربه فى العبادة والتقوى والحساب. ومنها أن العلمانية التى تنحيها جانبا دائرة المعارف البريطانية فى قولها: "وعليه فإنه لأمر جوهرى أن ننظر فى المعطيات التاريخية – التى ليست بالضرورة مبنية على فروض علمانية". تلك العلمانية قد بنيت على أسس إسلامية، رائدها القاضى والحكيم المسلم أبو الوليد إبن رشد، رحمه الله.، ثم تبعه تأسيسا الفيلسوف النابغ باروخ إسبينوزا. وهى العلمانية التى تشتكى منها الكنيسة إلى اليوم لأنها السبب فى تناقص رواد الكنائس فى مختلف أرجاء الأرض. مع هذه الشكوى تجد اللعن لرسول من رسل الله، وإذن ليس من عجب.
الغرب حتى الأن، لا يستمع لرواد نهضته الذين ينمو ويتحضر ويتقدم بعلمهم ومنجزاتهم وعبقرياتهم العلمية والفلسفية إلى اليوم، مثل نيوتن "Newton" وديكارت "Descartes" وإسبينوزا "ٍٍSpinoza" وروسو "Rousseau" وفولتير "Voltaire" وهيجل "Hegel" وكانط "Kant" وغيرهم كثيرون، رحمهم الله جميعا، مؤمنين بالتوحيد إله واحد لا شريك له، الذين تتمثل فيهم عقلانية النهضة الأوروبية المفقودة، بل مؤسسيها، والتى تستدعيها دائرة المعارف البريطانية فى مقالها، إنما يردد مقولات كنيسة التثليث الظلامية. إبان النهضة كانت أوروبا تتجه فى تحضرها من الجسد و"الفتونة" مع كوليسيوم "Colosseum" روما والخرافات والبطش بالعلم والعلماء وطغيان الكنيسة، نبراسهم "الشكل"، إلى التنوير والحرية والإخاء والمساواة والفسلفة العقلانية ونظريات العلوم الطبيعية، إقتفاءا للأثر الحضارى الإسلامى الماثل بين أيديهم فى قرطبة الأندلس، من طريق التلاقح الحضارى، نبراسهم "المضمون". أما هذه الأيام فقد يشير المنحنى إلى الإنحدار ليقع فى وهدة الجسد الكولوسيمية والعضلات مرة ثانية، مقترنة بتحويل الملائكة إلى أحجام ومنحنيات من اللحم والعرى، وحتى فى السياسة "فتونة"، الشكليات فى سبق على المضامين فى ثنائية المضمون والشكل.
لا عجب إذن فى اللعن لرسول من رسل الله، بل خاتمهم. فى الإسلام هناك دستور واحد القرآن الكريم حفظه الله من التحريف، مهما تشيع المسلمون فهم عليه إماما، يعبدون به الله فى كل مساجدهم لا يحيدون عنه. بينما الكنيسة تمتلك العهد القديم والعهد الجديد وأربعة أناجيل، متشيعة بين كاثوليك وأرثوذوكس وبروتستانت ومارون، لا يستدلون على حقيقة مصدر الكتاب المقدس، إن كان من رواية أحد الحواريين أو من وحى أو من سماع لوحى الله للمسيح عليه السلام. أكثر من ذلك تدعى الكنيسة أن منهم من كلم الله وأوحى إليه الله بما جاء فى إنجيله، من ثم إعتبروهم أنبياءا! بينما القرآن الكريم يثبت أن موسى عليه السلام فقط من بين جميع الأنبياء والرسل هو كليم الله، وأن المسيح بن مريم، عليه السلام، هو فقط نبى الله ورسوله إلى بنى إسرائيل. بل إن هناك نزاع قائم بين الطوائف المسيحية حول التثليث وحول ألوهية اليسوع، حتى يوم مولده، عليه السلام، إختلفوا فيه. مع هذا التشتت فى الفكر والإعتقاد لا تعجب إن لعنوا محمدا، صلى الله عليه وسلم، الذى جاء برسالة أزاحت عنهم غمة كنيسة الظلام. المسيحية المحرفة لم تلد نهضة طوال ما يقرب من إثنتى عشر قرنا من الزمان، لم يأتهم يسوع للنهضة إنما الإسلام هو الذى حررهم من الطغيان الكنسى.
لقد قلناها من قبل أن الغرب يعيش بالإسلام سرا ويلعنه جهرا، مفاد مقولة الإمام النابه محمد عبده مع مطلع القرن العشرين: "هناك إسلام بلا مسلمين، وهنا مسلمون بلا إسلام". علماء الغرب وفلافسته الذين أسسوا للنهضة الأوروبية، لا نبالغ إن قلنا بلا إستثناء، لم يقروا بالتثليث إنما بوحدانية الله كما هى مع الحواريين أنصار الله وعيسى إبن مريم، عليه السلام. هم الحواريون الجدد فى بعث جديد وإعجاز أنباء الغيب فى أهل االكهف، قوله أحكم الحاكمين:
* إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * (الكهف: 10 - 13)
البعث هنا من أنباء الغيب وإعجاز الله فى الكون، دليل صدق على النبوة وعلى الرسالة المحمدية خاتمة، وإثبات أنها كلام الله، ودليل توحيد أنه لا إله إلا هو واحد أحد لا شريك له فى الخلق ولا صاحبة ولا ولد. فيها تفصيل بإعتبارها من متشابه أنباء الغيب، أحد أدلته قوله تعالى: "فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ".
بفضل الله فقد أثبتنا الزيادة فى الهدى مع "نيوتن"، وليس من الصعب إثباته مع من مثله الذين صنعوا النهضة الأوروبية وهم على التوحيد. "السير اسحق نيوتن Isaac Newton" صاحب التفاحة آمن بإستقراء بعث الأنبياء وبأن الله واحد أحد لا شريك له ولا ولد، وبتحريف الرسالات السماوية قبل الإسلام، فلم يسلم من حمل الكنيسة عليه وإتهامه بالهرطقة، بل قيل أنه لم ينشر آراؤه ضد التثليث وتحريف الإنجيل "An Historical Account of Two Notable Corruptions of Scripture" فى حياته خوفا من بطش الكنيسة وتعرضه للسجن أو الشنق. وهو نيوتن شاهدا على هداه جل فى علاه لعباده المؤمنين الراسخين فى العلم، تحت أية ديانة توحيدية. "جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau" فيلسوف الثورات وصاحب "العقد الإجتماعى"، وصاحب الإيمان بالفطرة التى فطر الله الناس عليها أحرارا، كان يؤمن بأن لا فرق بين الأديان السماوية INDIFFERENTISM، مقصده فى الأغلب التوحيد، لذلك طاردته الكنيسة إلى خارج البلاد وتلقفه "فولتير". لكن الله أراد أن يظهره على ناصية ثورات النهضة الأوروبية والتحرر الأوروبى من وطأة كنيسة الظلام، شاهدا على قدرته ووحدانيته وحكمته جل شأنه. "باروخ اسبينوزا Baruch Spinoza" صاحب العلمانية الرسمى عند الغرب، والذى فتش بإسهاب، خشى أن يكون مملا كما يعترف بنفسه، فى تحريف الرسالتين السماويتين التوراة والإنجيل، كان يؤمن بالله، واحد أحد لاشريك له ولا ولد، لذلك طرده المعبد اليهودى، وطرده لأنه لا يعترف بمقولة شعب الله المختار، ثم قيل أنه مات مسموما من جراء آفكاره ومعتقده، رحمهم الله جميعا.
أثبت الإمام الرازى، رحمه الله، فى تفسيره أن عدد أهل الكهف سبعة، وأصحاب تاريخ النهضة سيجدون الحواريين الجدد بعون الله سبعة على ناصية النهضة، من هم على شاكلة نيوتن وروسو وسبينوزا فى التوحيد، ربما كان من بينهم "هيجل Georg Wilhelm Friedrich Hegel" و"فولتير Voltaire"، من كانوا على علم طبيعى أو إلهى أو فلسفى أو إجتماعى، العلوم التى بنت النهضة، المجددون لا التابعون. والله أعلم.
مع هذا التشتت وتلك الشكوى والإجرام الكنسى التاريخى، ومع الفراغ الروحى فى المجتمعات الغربية الذى قرأه فوكوياما فى كتاباته عن نهاية التاريخ، لا عجب إذن أن يحرق الغرب كتاب الله الكريم القرآن، ولا عجب أن يلعن الغرب برواسب الظلام فيه رسول الإنسانية ومحررها من العبودية لغير الله ومن طغيان كنيسة الظلام.
صلوات الله عليه وسلامه فى يوم مولده محمد بن عبد الله، وسلام على الأنبياء والمرسلين ليوم يبعثون.
مسك الختام، قال العليم الحكيم:
* وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * ﴿البقرة: ١٢٠﴾
وقال:
* لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * ﴿التوبة: ١٢٨﴾
صدق الله العظيم
نعتذر عن بعض الأخطاء فى النشرات السابقة.