تأويل:
تأويل:
المرجعية:
قوله تعالى: ** وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ ۗوَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ **
الموضوعات:
الدلالة أفقيا ورأسيا.
الدلالة أفقيا ورأسيا.
القول الثاني: أنه اسم للشهر كشهر رجب وشعبان، ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه:
الأول: ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم.
الثاني: أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس، والإسم الرمضاء، فسمي هذا الشهر بهذا الإسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته، كما سموه تابعاً لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم، وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، وقيل: سمي بهذا الإسم لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباد الله".
الرابع: لو صح قولهم: إن رمضان اسم الله تعالى، وهذا الشهر أيضاً سمي بهذا الإسم، فالمعنى أن الذنوب تتلاشى في جنب رحمة الله حتى كأنها احترقت، وهذا الشهر أيضاً رمضان بمعنى أن الذنوب تحترق في جنب بركته.> أ.ه.
ثلاثة وجوه:
الأول: كما قلنا من قبل أنه الشهر الذى يقضى على شرور كثيرة فى دواخل الإنسان، فى التفسير إجابة لم هذا الرمض وفيه تيسير على العباد؟ تطهير النفس من الذنوب كما قال شيخنا والإجماع، فبعض الدواء من المر. تطهير النفس من الذنوب يعنى الفوز بدار السلام، مفاد التيسير فى الشريعة الغراء. وكما قال الرؤوف الرحيم:
الثانى: أن الشرور فى دواخل الإنسان لا تقتصر على النفس إنما تشمل الأبدان، ما أثبته العلم الحديث أن رمضاء رمضان تشفى من الأمراض.التى منها أيضا شرور الأفئدة والعقول، الآيات القادمات فى الآفاق. فهل نكون قد جئنا بتفسير جديد لو قلنا أن الصيام يشفى من السمنة مثلا؟ كذب أعداء الإسلام والوضعيون، لسنا فى حاجة إلى تفسير جديد فى كل عصر. فإذا قال الرازى أن رمضان يحرق الذنوب، ثم جاء الطبيب فى العصر الحديث ليقول "مثل" ما قال الرازى ولكن فى البدن، فهو إضافة جديدة عصرية ومستحدثة تثبت بالدلائل المادية القاطعة أن الله تعالى رحيم بعباده فى التيسير عليهم إن حملوا التكليف. دلائل الرازى لغوية عقلية، ودلائل الطبيب روشتة المرض. كلاهما برهان للمعنى المضمر فى اللفظ والمقصود فى التشريع، لم يتبدل مع الزمن، أو كما يحلو للوضعيين أن النص تاريخى، لا فض فيهم.
الثالث: مطابقة اللفظ للمعنى الذى يحمله، الإسم والمسمى، ثنائية الشكل والمضمون فى المنهاج. هذه المطابقة فى معنى آخر هى الصدق فى التعبير، وهى فى الفلسفة من صفات الجمال, فرمضان من الرمضاء، كل الأنواع، يقضى على الشرور بما يعنى التيسير على البشر فى دنياهم ولينالوا الظفر بالآخرة أيضا. فى الدنيا ما أثبته العلم حديثا، وفى الآخرة ما قاله الأوائل رحمهم الله. فهل إمتلأ اللفظ "رمضان" بالرمضاء التى تزيل وتقضى على الشرور فى دواخل البشر؟ الغيب فى علم الله وفيه دلائل جديدة على المعنى الأصلى. فى المنهاج قوله تعالى:
الرازى عنده دليل والطبيب أضاف دليلا ثانيا، وغدا تثبت دلائل أخرى لنفس القول، أو الدليل اللغوى، مفاد قوله تعالى: "هَلْ مِن مَّزِيدٍ". لا تنفى إحداها الأخرى - كما يفترى على الله الوضعيون بتاريخيتهم - إلا بدليل، إنما زيادة فى الدلالة كلما زيد الناس من علم الله فى الكون والأنفس سواء. هى دلالة فى علم الله وحده إلى أن تثبت بالقرائن على مر العصور، مبنية على مفهوم خاتمية الرسالة.
القرآن حمال أوجه، قول على رضى الله عنه، وهذا وجه من أوجه تأويل "جَهَنَّمَ"، داخل فى مفهوم خاتمية الرسالة. وحمال أوجه بمعنى المزيد فى الدلالة أيضا، ففى كل وجه منها دليل، لا يجب إحداها الآخر إلا بدليل نفى، إنما الإضافة فى دلالة "القول". لنا أن نفرق بين الزيادة الأولى على مر العصور كالدلائل العلمية العصرية، حينئذ تسمى "دلالة عصرية" لا تاريخية، وبين الزيادة من حيث الوجه فى التأويل. الأولى ليس لها حد معلوم، مفتوح على مر الزمن بمقتضى تقدم العلوم، ربما أثبت العلم المزيد من الدلالة، وربما لا يثبت. أما الثانية فمقصورة، أن يكون مثلا أحد أوجه الدلالة شرعى، والثانى عقيدى، والثالث منهاجى، أو كما جاء فى الذكر الحكيم أن يكون أحد الأوجه محكما والثانى متشابها، قوله تعالى:
* وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * ﴿الأنعام: ١٤١﴾
ليس هنا تعارض، فدلالة المتشابه تحتمل أكثر من وجه كما فى قوله تعلى "نَقُولُ لِجَهَنَّمَ"، وجه عقيدى، ووجه منهاجى. فى مثالنا عن رمضان، دليل الرازى عقيدى، الوجه الأول، أن رمضان يغسل الأبدان ويطهر الأمة من الذنوب. أما دليل الطبيب فمنهاجى، فيه الشفاء من علل طبيعية، وهو الوجه الثانى، يندرج تحت دلالة الإعجاز العلمى.
القاعدة المعروفة فى النحو أن "الزيادة فى المبنى زيادة فى المعنى"، تحنلف عن مقصدنا هنا، لأن الفرض الأصلى فى الدلالة أننا بإزاء لفظ أو منطوق أو دليل واحد، الإقتتاحية فى قوله تعالى: "مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ"، لا يعتبر فيه التغير النحوى لأنه نقل إلى دليل آخر. من ثم فقد ثبت بالدليل القرآنى، قوله تعالى: "يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ"، أنه من الممكن مع المجاز الزيادة فى المعنى دون الزيادة فى المبنى بإجراء الدلالة على بعديها الأفقى والرأسى بشروطها المذكورة، ويمكن إعتبار ذلك قانون من قوانين التأويل المنهاجية.
تعليقات موضوعية:
تلازم المثانى والنسخ.
تلازم المثانى والنسخ.
بسم الله الرحمن الرحيم:
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * (البقرة: 183 - 6)
بإذن الرحمن الرحيم ستكون هذه الآيات الكريمة موضوعا لعدة رمضانيات.
السادسة:
ختاما لرمضانيات هذا العام، أعاده الله عليكم وعلينا وأمة الإسلام رمضانا وعيدا باليمن والإسعاد، نتناول هنا التدليل الثالث الذى ذكرناه فى الرمضانية الأولى عن تثنية الترخيص عند المرض أو السفر فى الآيات الكريمة من أنها تدلل من ناحية ثالثة على بطلان مزاعم الذين يقولون بالنسخ.
بداية، إن قلنا أن هذه الرخصة جارية فى المنهاج مجرى الشرعة لزمنا الدليل الثالث، فما جاء فى آيات البقرة هذه دليلان فقط إستدلالا على المثانى. من حيث أنه ترخيص على شرط المرض أوالسفر مقترنان وبصرف النظر عن مناط الحكم، فقد كرر شرط الترخيص مرتين أخرتين فى قوله الرؤوف الرحيم:
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا * ﴿النساء: ٤٣﴾
وقوله الحق:
* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * ﴿المائدة: ٦﴾
تعجب أن التكرار جاء بخطاب المفرد مرتين مع الصيام فى البقرة، وجاء تثنية بخطاب الجمع مع الصلاة والوضوء فى النساء والمائدة، فثبتت بذلك التثنية الثالثة بثنائية الفرد والمجتمع. كما ثبت دليل التثنية المنهاجية مرة أخرى فى الشرط بإقتران المرض والسفر، لأنه قد سنت رخص أخرى على شرط المرض وحده دون السفر مقترنا، فدل الإقتران على تثنية منهاجية. بل إنه تدليل مركب على المثانى، لأن كل من خطاب المفرد جاء مثنى، وخطاب الجمع جاء مثنى أيضا، زد على ذلك تثنية على نوعية الخطاب فى ذاته فقد جاء مرة للغائب فى الأوليتين وقوله: "مَن كَانَ"، وجاء للمخاطب فى الأخريتين وقوله: "وَإِن كُنتُم"، ثم زد عليه تثنية على مناط الحكم فى الرخصة ولازمه شرط صحته، الصلاة والوضوء. كأن ثنائية الفرد والمجتمع هى الجامعة لكل الثنائيات تحت الرخصة على شرط المرض أو السفر، دليل شرط الرخصة مكررا أربع مرات. وهو فى آن واحد ومن جهة ثانية تدليل على المركب فى المثانى الذى تصطبغ به مع البنيانية فيها، المركب الذى أشرنا إليه فى معرض النسخ وقوله: "نَسْتَنسِخُ" فى مقالة "النسخ على المثانى". أضف إلى ذلك الثلاثية فى قوله: "امْسَحُوا"، و"بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم"، والتثنية فى قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا"، و "الصَّلَاة"، و"جُنُبًا"، والغسل، ثم "أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا". من هنا تدرك كم أن بحر المثانى شطآنه عزيزة المنال، ما قلناه مع "علم المثانى" فى الرمضانية الخامسة، لأن هنا غوص فى مياه المثانى بكر على المتسع، شرعة ومنهاجا.
النسخ لا قاعدة له:
ما سبق هو بنيان منهاجى لا يستقيم بغير الوقوف على كل لبنة فيه، بل كل حرف فيه، من ثم لا مكان لأية مقالة فى النسخ. معلوم فى الفكر الإسلامى عند الأصوليين والفقهاء والكلاميين والمفسرين سواء أن من قال فى القرآن بلا قاعدة فهو تقول على الله، نستغفره ونتوب إليه. ومن قال فى النسخ لا تجد له قاعدة ولا قانون، إلا تأويلاتهم المفتوحة، وإلا أن تكون القاعدة "النسخ يكون فى العام" أو "النسخ يكون فى المتشابه"، باطل منهاجياً. خذ مثالا من الآيات الكريمة بين أيدينا فى سورتى النساء والمائدة، قيل فى آية النساء على النسخ:
< قوله تعالى: {يَا أيُّهَا الذين آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} الآية.
حرّم الله في هذه الآية أن تُقْرَبَ الصَّلاةُ في حال سكر. فَفُهِمَ من الخطاب جوازُ السُّكْرِ في غير الصلاة. ومفهوم الخطاب كَنَصِّ القرآن يُعْمَلُ به ويقطع على مغيبه فَنَسَخَ ما أباح المفهومُ مِن الآية من جواز شُرْبِ المسكر في غير الصَّلاة بتحريم المسكر. فالبيِّنُ في هذا أن يكونَ أُريدَ به السُّكْرُ مِن المسكر قبل تحريمه، ثم نُسِخَ وحُرِّم.
وقد روى أبو مَيْسَرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما نَزَلَتْ: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأنتُمْ سُكارَى} كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصَّلاةَ نادى: لا يقربَنَّ الصَّلاةَ سكران.
وقد قال عكرمة: إن قوله: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} نسخه قولُه: {يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية. يريد أنه كان أُبيحَ لَهُم أن يُؤَخِّروا الصلاةَ في حال السُّكْر حتى يزولَ السُّكر، إذ كانت الخمرُ غيرَ مُحَرَّمة، ثم نُسِخَ ذلك فأُمروا بالصلاة على كل حال، ونُسِخَ شُرْبُ المسكر بقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُونَ} [المائدة: 91]، وبقوله: {فاجْتَنِبُوه} [المائدة: 91]، فنسخَ ما فُهِمَ مِن الخطاب بتحريم الخمر في قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُون}. وهذا قولُ أَكثرِ العُلماء.
وقيل: الآيةُ مُحْكَمة، ومعنى السُّكْر فيها: السُّكْر من النوم لا من المسكر، وهو قول الضحاك وزيد بن أسلم. ويجب أن يكونَ المفهومَ من الخطاب على هذا القول (جوازُ قربانها) بسُكْر غير سُكْرِ النوم، ثم نُسِخَ هذا المفهوم بتحريم المسكر والسُّكْر بقوله: {فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُون}.
ومن مفهوم الآية أيضاً جوازُ قرب الصَّلاة في غير حال السُّكْرِ جوازاً عاماً بغير شرط وضوء ولا غُسْل، فنسخ ذلك آيةُ الوضوء والغُسْلِ في المائدة، وصار الفرضُ المحكم أَلاَّ تُقْرَبَ الصَّلاةُ إلا في غير حال سكر بوضوء وطُهر، ويجوز أن يكون ذلك بياناً (وتفسيراً لآية النساء)، وليس بنسخ المفهوم منها.>ا.ه
تضاربت الأقوال لأنه ليس بقاعدة تحت ما يقولون، وما قالوه من نسخ ليس إلا تأويلا وتفسيرا بالمفهوم، ليس نصا قرآنيا. التضارب ينسحب على هل يكون النسخ فى ذات القرآن أم أن النسخ بين الشرائع. قد كان شرب الخمر مباحا فى شرع من قبلنا ثم حرم تحريما صريحا بلا تأويل فى آية أخرى، قوله: "إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ..." الآية، وما حرم هنا هو الصلاة مع السكر، نسخ لشرع من قبلنا، ومن قال بذلك فقد أصاب. أما أن هذه الآية منسوخة بآية المائدة فلم يرد بهذا النسخ نص قرآنى، بل ما قالوه من قبل المفهوم، المفهوم فى العقل لا النقل، ولا ينسخ القرآن بتأويل، وما نرى فيها شبهة آيات متشابهات تفتقر إلى تأويل.
نسخ النساء بالمائدة:
حول آية المائدة قالوا:
< قوله تعالى: {يَا أَيُّها الذينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلوا وُجُوهَكُمْ}.
(هذه الآية) عند جماعة ناسخةٌ لقوله: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وأَنتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]؛ لأن مفهومَ الخطاب جوازُ قُرْبِ الصلاةِ لغير السَّكران جوازاً عاماً بلا شرط غَسلٍ ولا وضوء، ثم منع في هذه الآية أن تُقْرَبَ الصَّلاةُ إلاّ بالغسل المذكور للأعضاء المذكورة، والمسح للرأس.
وقيل: الآيةُ ناسخةٌ لفعل النبي - عليه السلام - كان إذا أَحدَثَ لم يُكلِّم أحداً حتى يتوضأ، فنسخَ اللهُ ذلك بالأمر بالوضوء عند القيام إلى الصَّلاة......
وقد قيل: إن ظاهرَ الآية إيجابُ الوضوء على كل مَن قام إلى صَلاةٍ، وإن كان على وضوء، لكنه نسخ بتواتر الأخبار أن النبي - عليه السلام - كان يُصَلِّي صلواتٍ بوضوء واحد، وبالإِجماع على جواز ذلك وفعله.
والأحسن أن يقال: خُصِّصَ وبُيِّنَ بالإِجماع على جواز صلواتٍ بوضوء واحد، وبالسُّنَّةِ المتواترة بفعل [النبي صلى الله عليه وسلم] ذلك، فيكون مخصَّصاً ومبيَّناً أولى من أن يكون منسوخاً، هذا على قول من لم يُجِزْ النسخ بالإِجماع ولا بالسنّة المتواترة؛ إذ لا اختلاف في جواز تخصيص القرآن وتبيينه (بالإِجماع وبالسُّنَّةِ المتواترة).......
وقد قال زيدُ بنُ أسلم: الآية مخصوصةٌ يراد بها مَن كان على غير طهارة، والمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وعليه جماعة الفقهاء، وهو الصواب، إن شاء الله. فيدخل تحت الحدث النوم وغيره؛ فالآية محكمة في هذه الأقوال.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: فَرْضُ غَسْلِ الرِّجْلَين ناسخٌ للمسح على الخفين. وعن عائشة وأبي هريرة أنهما منعا المسح على الخفين وهي رواية ضعيفة.
وأكثر الفقهاء وأهل السنّة وأهل الحديث، وأكثر الرواة عن الصحابة والتابعين على جواز المسح على الخفين في (السفر والحضر). فهو غير منسوخ بل هو توسعة وتخفيف على المسلمين. وهو بدل من الغسل.
فأمّا من قرأ: "وأرجُلِكُم" - بالخفض - فهي قراءة مُجْمَعٌ عليه لا اختلاف في جوازها والقراءة بها. وهي توجب جواز المسح على (الأرجل) وليس على ذلك عمل. وقد قيل فيه أقوال:
وقيل: هو (محكم) منسوخ بفعل النبي - عليه السلام - وغسله لرجليه دون أن يمسح، نقل ذلك نقلاً متواتراً......
فأما المسح على الخفين:
فإن ابن عباس يقول: "مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين قبل نزول المائدة"، فلما نزلت المائدة بالغَسْل نسخَ ذلك المسحَ، وقال: "والله ما مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد المائدة".
وقال جريرُ بن عبد الله: مسح النبي - عليه السلام - على الخفين بعد نزول المائدة - وكان إسلامُ جرير بعد نزول المائدة في (شهر) رمضان سنة عشر - وعلى هذا أكثر الناس لأن من أثبت أولى بالقبول ممّن نفى. هذا أصل مجمع عليه.
وقد اختلف قولُ مالك في جواز المسح (على الخفين) للمقيم. وعلى جوازه أكثر أهل السنّة.> ا.ه.
قال جماعة أن آية المائدة ناسخة لآية النساء وفى الأخيرة تحريم الصلاة عند السكر، مستندين إلى مفهوم الخطاب فى العقل لا النقل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.هناك من قال أن الآيات محكمة، كليهما النساء والمائدة، فما مكان التأويل بالمفهوم، وكيف ينسخ محكما؟ ومنهم من يقول أن هذه مخصصة أو مبينة لتلك، ولا ضير. ومنهم من يجيز النسخ فى القرآن بالإجماع أو بالسنة المتواترة، نستغفر الله ونتوب إليه. من ثم لا قاعدة مشهودة يقينية تسرى مسرى اليقين فى الذكر الحكيم إذا كان الأمر متعلقا بآياته. لقد ذكروا الشاهد الذى نسعى إليه: "من أثبت أولى بالقبول ممن نفى. هذا أصل مجمع عليه". فكل تدبر للقرآن يلزمه قاعدة أو قانون مثل هذا الأصل، إما مجمع عليه أو أن فى ذاته اليقين من الذكر الحكيم. لا نقصد القول بالنسخ إنما قاعدة تأويلية ينبنى عليها النسخ أيا كان مثل ما ذكروه من أصل مجمع عليه. وفى الخلاصة كما قلنا لم ينزل القرآن كى ينسخه بشر بتأويل، كان إجماعا أو سنة متواترة، فالسنة لا تنسخ القرآن، إنما مبينة له معلوم لدى الكافة، ذكر فيما قالوه عاليه، قوله الكبير المتعال:
* وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * (النحل: 44)
يتفكرون فى البيان لا فى نسخ ما هو فى حاجة إلى بيان، ولم ينم إلى علمنا أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال بنسخ أحاديثه للقرآن لأنه يعلم أن ذلك من الكفر. نحن لا نطعن على المفهموم ولا المفهوم المخالف، لا الإجماع ولا السنة المتواترة أو أى من طرق التدبر والتقعيد، إنما طعننا على تلبيسها فى نسخ آيات الله البينات وكلامه المقدس.
قد كان ذلك المرصد الأول لإبطال مقولات النسخ فى الذكر الحكيم، أن ليس هناك قاعدة أو قانون، إنما تأويلات على هوى العقول. الثانى أن القرآن الكريم لم يتنزل كى ينسخه بشر بتأويل، معلوم إبتداءا. الثالث أن ليس هناك نص قرآنى صريح بنسخ فى ذات القرآن، كما يقولون نسخ للقرآن بالقرآن. الرابع أن ما إشتبهوا فى نسخه من المتشابه غالبه وفيه المنهاج والمثانى على ما رأينا، وعلى ما سطر الإمام الشطبى رحمه الله ومن ماثله من الأصوليين، من أن نسخهم غالبه فى العام والمتشابه. الخامس أن المعنى الحقيقى للنسخ فى قوله: "مَا نَنسَخْ..." الآية، هو نسخ لآيات الإعجاز لا التلاوة، وما ورد منه فى الذكر الحكيم هو نسخ بين الشرائع، شرع من قبلنا وقبلهم، لا فى ذات القرآن، سبق تبيينه مع مقالات "الطير فى الفاتيكان". السادس أن هنا ثنائية من السبع المثانى وفيها التلازم، ثنائية "الفرد والمجتمع" وكليتها "الجزء والكل"، لا ينسخ المجتمع بالفرد ولا العكس، مثله لا ينسخ الخاص العام ولا العكس لتلازمهما تلازم "كينونة". فرخصة الإفطار على شرط المرض أو السفر سارية فرضت برحمته أرحم الرحمين فى كل صيام، فى كل الشرائع السماوية، العموم الثابت مع تقلب الأزمنة. فإن نسخت كأنها نسخ لرحمته تعالى بعباده فى الرخص تحت أية رسالة أو نبوة، نستغفره ونتوب إليه. ما نقصده هو التلاوة وليس الحكم الذى لازمه التخصيص. يقولون بنسخ آية المائدة لآية النساء وفيهما سويا بنيان منهاجى يستأهل كتابا بكامله أو يزيد تبيانا لمنهاج الله.
المثال البين فى تلازم العام والخاص بحيث لا يستتبع نسخا هو فى قبلة الصلاة. قال العزيز الحكيم:
* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّـهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * (البقرة: 114 - 5).
فى التثنية قال:
* سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * (البقرة: 142)
السؤال عن التغير فى القبلة والجواب بالعام لا الخاص، وأن ذلك من السفهاء باطل أصله، راجع إلى أحكم الحاكمين جل شأنه. جاءت الآيات الكريمة فى سياق الحديث عن القبلة فى سورة البقرة، بدأها سبحانه بالعام عن المساجد ثم فى أن القبلة أينما كانت فهى صحيحة، ليس من ذنب يرتكب فى التوجه إلى الله حيث وجهه تعالى ليس محددا بمكان، من صفات الذات الإلهية فى قوله: "أَيْنَمَا تُوَلُّوا"، ما يدخل مع المتكلمين فى مشكل "الجهة" أو المكان، حيث تغاضى بعضهم عن أن الله مطلق الأزمنة والأمكنة فى وجوده، فيه تفصيل بإذنه تعالى.
ثني قوله: "لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ" تدليلا على المثانى فى القبلة، ثنائية العام والخاص. جاء الخاص تاليا للعام فى نفس سياق الحديث عن القبلة دليلا على أسبقية العام فقال أحكم الحاكمين:
* وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ* (البقرة: 143 - 4)
وردت فيها ثنائية المجتمع والفرد، سبق تبيانها، وفيها القبلة الإسلامية التى هى الخاص من التوجه إلى الله حيث هو فى كل مكان. وقد كان قبلها فى النصرانية واليهودية قبلة خاصة بهم كما هو معلوم، حتى أن اليهود كانوا يتخذون من بيوتهم قبلة للصلاة، قوله: "وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً"، قبلة غير موحدة بخلاف قبلة الإسلام، بيت الله الحرام، فيها التوحد بين المسلمين فى الإيمان. كلها من حيث هى قبلة تخضع لهذا العام من أنه أينما تولوا للصلاة فثمة وجه الله الكريم. فى الإسلام إن كان مسافرا فى قطار أو طائرة أو سفينة أو سفينة فضاء، مكان متحرك لا يعدم فيه عدم التيقن من القبلة، فأينما ولى وجهه للصلاة فصلاته صحيحة، وأينما ولى وجهه للصلاة متوخيا التوجه لبيت الله الحرام ثم تغيرت بحركة المقلة فليس عليه من ذنب، وصلاته صحيحة بهذا العام فى الإيمان، قصد الخاص المعمول به وسانده العام فيما فيه تغير.
فى حقيقة الأمر أن التوجه يكون إلى العام لا إلى الخاص بذاته وصفاته. فتولى المسجد الحرام هو تولى لوجه الله حيث هو فى كل مكان من زاوية معينة محددة مخصصة للإسلام، أن الصلاة ليست للمسجد الحرام، مفروغ منه. فإن كان من نسخ للعام هنا، كما يقول أهل النسخ، إنفصمت عقلاً عرى "العروة الوثقى" فى المثانى حيث لا تنفصم كينونةً، ونتج عن ذلك التجسيم، ووقعت العبادة للمسجد الحرام لا لوجه الله، ووجب الإستغفار ومن سبقونا بالإيمان. قارب المعنى في ذلك قول الإمام الشاطبى رحمه الله أن الخاص المعمول به هو جزء من الكلى أو العام لا ينسخ سائره: "إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص وبقي السائر على الحكم الأول". حتى هذا النظر لا نتفق معه لأن التلازم لا يعنى إهمال أية جزء من عنصرى الثنائية من وجهة نظر منهاجية، فضلاً عن أن الكلى من وجهة نظرأصولية يبقى كلياً لا يتجزأ بالتفعيل، وإلا تآكل بالتفعيل ولم يعد كلياً.
من ثم يكمننا القول بأن العام هو المطلوب أصلا بإعمال الخصوص، من حيث أن العام ضالع فى ثوابت الدين ومن حيث هى شرعة، أما الخاص فمتغيره.
ما أفاده الشاطبى من طريق النسخ: "لما تقرر أن المنزل بمكة من أحكام الشريعة هو ما كان من الأحكام الكلية والقواعد الأصولية في الدين على غالب الأمر اقتضى ذلك أن النسخ فيها قليل لا كثير لأن النسخ لا يكون في الكليات وقوعا وإن أمكن عقلا. ويدل على ذلك الاستقراء التام وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات وجميع ذلك لم ينسخ منه شئ بل إنما أتى بالمدينة ما يقويها ويحكمها ويحصنها وإذا كان كذلك لم يثبت نسخ لكلي ألبتة. ومن استقرى كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها والجزئيات المكية قليلة."
أما قول الواسع العليم:
* وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ * ﴿البقرة: 145﴾
فيه إشارة المنهاج بتكرار القبلة ثلاث مرات، وفيه الخصوص بأن لكل شريعة قبلتها. وهنا يصدق قول الأصوليون أن الخاص هو ما يعمل به لا ينفى العام ولا ينسخه، مقالة الإمام الشاطبى رحمه الله على سبيل المثال، سبق. مغزى العموم ينسحب من وجهين، أولهما فيما بين الشرائع من عموم كالإيمان بالخالق لا إله إلا هو واحد أحد لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد، وأنى تولوا تحت أية نبوة أو رسالة، كأنه توحيد للشرائع على منهاج الحق تعالت حكمته وصراطه المستقيم. ثانيهما فى الشريعة نفسها لضبط الخاص بالعام أو تكييفه بلغة الأصوليين. تجد هذه المرجعية فى قوله الحكيم العليم:
* يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا * (النساء: 59)
وقوله:
*واذا جاءهم امر من الامن او الخوف اذاعوا به ولو ردوه الى الرسول والى اولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان الا قليلا * (النساء: 83)
الآيتان فى سورة واحدة معتنيتان بالرد والمرجعية. الأولى فيها ثلاث ثنائيات فالإشارة للمنهاج ومثانيه، يرد إليهما ما أختلف عليه فى الشرعة. فى التعقيب أن هذا المنهج هو أخير من رد التنازع إلى قواعد أو أهواء أخرى كما هو معلوم، وهو فى آن أحسن تأويلا. فى الثانية تثليث لفظ الجلالة وتثنية الرد وأولى الأمر، الرباط أو القرينة (لم تحرر بعد قواعدها فى المنهاج) بين الآيتين، تأكيدا للمطلوب تكييف الشرعة بالمنهاج. فيه تفصيل أصحاب الأصول لهم اليد، والله أعلم.
منه فقد لزم الخاص العام، لا ينفك عنه لأنه أصل له لا يستقيم إلا به، وقد يكون من تغير مع الأزمنة والأمكنة والشرائط والشرائع. وعليه فمن نافلة القول أن من يتوجه إلى الله وهو على دين الإسلام ولم يحز توجهه تمام قبلة المسجد الحرام فلم يحنث، ولم يفترق عن دين الإسلام بهذا العموم فى القبلة والإيمان بالخالق حيث هو أينما تولوا، بالطبع بشرط النية، التوجه الخالص لوجه الله. مثل هذا التلازم فى كل السبع المثانى إن كان من نص فيها وقع له نسخ بتأويل وما أكثره على ما رأينا، وقد دللنا على أنه باطل برمته. هنا مثال على ضبط الأحكام الشرعية وتكييفها بمنهاج المثانى، أهل الأصول أهل لها بهذا الإعتبار.والله أعلم، منه الهدى وله الفضل.
-------------------------------
أعسطس 2014
تعليقات موضوعية:
د. أبوزيد يشرح كيف تجر العربة الحصان!
د. أبوزيد يشرح كيف تجر العربة الحصان!
الفصــل الرابع
الجــدل والبندوليــة
أ ) القراءة المنتجة، معلوم على مجهول !
يقول أبوزيد مؤلف "نقد الخطاب الدينى" تحت عنوان "القراءة المنتجة": "وإذا كان إكتشاف الدلالة لا يتم إلاَّ من خلال التفسرة بالمعنى الذى شرحناه من قبل، فإن بعدى عملية التأويل، وهما الدلالة والمغزى، يتوازيان مع الدلالتين اللغويتين لمصطلح التأويل كما سلفت الإشارة. يمثل إكتشاف الدلالة العودة والرجوع إلى الأصل، في حين يمثل الوصول إلى المغزى الهدف والغاية من القراءة" ]4أ4[. يؤسس كلامه على تعريفين ساقهما للدلالة اللغوية والدلالة الإصطلاحية، ورغم هذا فإن كلامه غير مترابط، ولا مرتب بعضه على بعض ترتيباً منطقياً فشابه الغموض. نعرف في اللغة أن "إذا" من أدوات الشرط، ولها جواب أو جزاء وهو "فإن" في كلامه، لكنهما هنا لا يترتبان على بعضهما وليست بينهما علاقة السبب بالمسبب أو الشرط وجوابه. فَبُعْدَا التأويل (الدلالة والمغزى) لا يتفرعان ولا يترتبان على إكتشاف الدلالة من جهـة السبب، وإن ترتباً عليها تعاقباً في سياق البحث المنهجى، أى أن تكتشف الدلالة أولاً ثم النظر في التأويل وبُعديْه ثانياً. كذلك ليس مفهوماً معنى التوازى ومفاده. فهل من التوازى في الفعل أم في الكيف بمعنى المرادف؟ سواء هذا أوذاك فالتوازى يعنى الإنفصال للمتوازيين في التصور، فعلاً أوكيفاً، كالخطين المتوازيين. أم هما الدلالتان اللغويتان للتأويل كما يقول بعد، لا من التعريف، ومن ثم لا توازى؟ أم هما مرادفان لهما ، وليس من توازى أيضاً؟ ثم ماذا عن قوله أنهما وجهان لعملة واحدة وليس من توازى فى هذا القول؟
على العموم يفهم من كتاباته في هذا الصدد أن طرفى التأويل هما الدلالة والمغزى، وبالتأويل تنتقل بينهما بداية ونهاية. فكيف يكون إكتشاف الدلالة عودة ورجوع إلى الأصل إذا كانت هى نفسها، أى الدلالة، دلالة على شىء آخر هو المغزى؟. المغزى هو المعنى الأصلى المقصود والحقيقى المراد كشفه. فإذا لم يكن المغزى هو الأصل فما الأصل الذى يقصده ويرجع إليه إكتشاف الدلالة؟ نستبعد تماما التفكير فى أن معنى كلامه هو بسط الظاهر الذى هو الدلالة على حقيقته بمقتضى لسان العرب، قول الامام الشاطبى، والخطوة الثانية فى التأويل كما سبق، لأن هذا المنحى غائب فى فكره عن الدلالة. لو كان هو المقصود بالرجوع إلى الأصل لم يكن خلاف. يجدر بالذكر أنه قال قبل ذلك: "أن التأويل هو إرجاع الشىء أو الظاهرة موضوع الدرس إلى عللها الأولى وأسبابها الأصلية" ]4أ1[. ماذا تكون العلل الأولى والأسباب الأصلية عنده سوى المغزى؟ إن لم يكن المطلوب كذلك فما هو المغزى الذى تكشف عنه عمليـة التأويل؟. هنا تخبط في الفكر والمفاهيم لا يجلى وضوحاً، ولا يساعد على فهم، ولا ينتج علماً، ولا يمثل شيئاً سوى تلويث العقول بطلاسم لا جدوى من ورائها سوى ذاك.
يستكمل كلامه عن القراءة المنتجة فيقول: "وتلتقى الدلالتين على المستويين اللغوى والإصطلاحى من خلال دلالة الصيغة الصرفية - تفعيل - للمصطلح، والتى تشير إلى حدث متكرر.. ومعنى ذلك أن التأويل حركة متكررة بين بعدى الأصل والغاية أو بين الدلالة والمغزى، حركة بندولية وليست حركة في إتجاه واحد. إنها حركة تبدأ من الواقع/المغزى لإكتشاف دلالة النص/الماضى، ثم تعود الدلالة لتأسيس المغزى وتعديل نقطة البداية. وبدون هذه الحركة البندولية بين المغزى والدلالة، يتبدد كلاهما وتتباعد القراءة عن أفق التأويل لتقع في وهـدة التلوين، وبعبارة أخرى تتحول من قراءة مشروعه - وإن كانت غير بريئة - إلى قراءة مغرضة" ]4أ4[. فلنقرأ معه من جديد:
أولاً : قولـه "إنها حركة تبدأ من الواقع/المغزى لإكتشاف دلالة النص/الماضى". لا أدرى لماذا ولا كيف ربط بين الواقع والمغزى بهذه الشرطة المائلة، علامة القسمة الرياضيـة، ولا ما هو مدلول هذه العلامة السيموطيقية في هذا الموضع؟ سنفترض أن هذه العلامة تعنى التكافؤ أوالبديل أوالمحل، بالرغم من أنه يجريها في كتابه على الجدل، أى أن هناك علاقة جدلية بين ما على جانبى العلامة، لكنها ليست مفهومة هنا. لا نتصور جدلية بين المغزى والواقع يترتب عليها إكتشاف دلالة النص/الماضى، ولا نتصور في هذه الأخيرة جدلية، أى كيف تتجادل الدلالة مع الماضى، بالضبط مثل أن يتجادل الكم مع الشكل وكل منهما في ثنائية مختلفة، الكم والكيف ثم الشكل والمضمون. على أية حال، بمقتضى التركيب اللغوى وهذا الفرض، يفهم أن الواقع وهو المغزى الذى ينتج من التأويل هو نقطة البداية وإكتشاف الدلالة موقوف عليه (الواقع أوالمغزى). يتضح ذلك أكثر من عبارته المستأنفة: "ومن الضرورى هنا التأكيد أن المغزى الذى يمثل نقطة البدء في القراءة مغزى إفتراضى جنينى قابل للتعديل أو النفى أو الإثبات طبقاً لما تنتجه اليه القراءة من دلالة". السؤال: كيف تكون نتيجة التأويل وهى المضمون أو الباطن أو الحقيقة، المعنى المضمر فى المجاز، التى هى مجهولة قبل التأويل، تكون هى نقطة البداية لمعرفة الدلالة وإكتشافها، ثم بعد ذلك إتيان التأويل لمعرفة الحقيقة التى نبدأ بها وكانت مجهولة؟. أى أن البداية والنهاية مجهولان، فلا ينتج المجهول إلاَّ مجهول مثله، لأن النتائج المنطقية تترتب على مقدمات منطقية، وقيل ما بنى على باطل فهو باطل. هذه حلقة مفرغة لا إنتاج منها مشروع أو غير مشروع، ملون أو بلا لون، وإن كان الأخير أقرب هنا. هذا إحتمال لمقصده. الإحتمال الثانى أنه يبدأ بالمغزى المراد الوصول إليه بعملية التأويل، يبدأ به معلوماً وإن كان من جهة الفرض. فإذا علم إبتداءاً فلم القراءة أصلاً ثم التأويل تبعاً؟. نعم فان فرض الفروض جائز ومطلوب فى البحث، لكن القراءة لا تتطلب الفرض فيما هو مخبر عنه. فالاخبار عن الشىء يختلف عما يترتب عليه الاخبار من معرفة ظنية أو يقينية تحتمل الفرض والخطأ والصواب.
المعروف والمعلوم في التراث الإسلامى أنك تصل إلى المضمون (المغزى) المجهول بإثباتك للشاهد عن طريق الدلالة المعلومة النصية، ثم التأويل صوب الحقيقة، بإختصار نقل المجاز إلى الحقيقة. فهنا بناء لمجهول هو الحقيقة المستفادة من التأويل على معلوم، هو الدلالة النصية والشاهد، لغوياً كان أو عقلياً أو علمياً، أى بناء لمجهول على معلوم. فكيف به يعكس ويبنى معلوماً على مجهول؟ الفروض تفرض بالإحتمال مؤسسة على أدلة للتوصل إلى الحقيقة. ذلك معلوم في البرهان وفي مناهج البحث العلمى ]19أ[، وهو الطريق الصحيح مع التأويل، لا العكس بناء الفروض بالإحتمال مؤسسة على الحقيقة (المجهولة أصلاً) للتوصل إلى الأدلة. هذا خلف لا شك فيه، نعتقد فى تسويغه على أسس من "ما بعد الحداثة" التى عكست معطيات الكون والحس والعقل سواء. فحواها: لم لا تسكن السماء بدلا من الأرض، أو أن تعبد الشيطان بدلا من عبادة الله (الفكرة التى انبثقت منها جماعات "عبدة الشيطان")، أو أن تنتهج الباطل بديلا عن الحق، أو أن يسبق الشارع الفن بدلا من أن يرتقى الأخير بالأول؟ قس على ذلك كثير من ثورية "ما بعد الحداثة" وتحررها من ملل الموضوع وسأمه الى رحابة الضد وحريته وجديته، ما هو انتقال ظلامى من خصوص الى خصوص. نفس النهج عند صاحبنا!
ليس هذا طريق للعلم إنما للجهل، فإن بقيت في المجهول، رتعت في الجهل. ندعو هنا إبن حزم الظاهرى ليجيب له في ترفق غير معهود منه: "وفي هذا عجب. أن الدليل على القول مطلوباً بعد إعتقاد القول، وإنما فائدة الدليل، وثمرة إنتاج ما يجب اعتقاده من أقوال. فمتى يهتدى من اعتقد قولاً بلا دليل ثم جعل يطلب الأدلـة بشرط موافقـة قولـه، وإلاَّ فهى مطرحة عنده؟" ]1[. أعجب من عجب إبن حزم أن تتحول القراءة المنتجة على يد صاحبها إلى قطعة من التراث، تجد فيه رداً جاهزاً عليها بهذه الكيفية. ولله في خلقه شئون. هذا الأمر من صميم الموقعة التى نطرحها في هذا الكتاب مع تعدد جوانبها.
الطريف أنه ذكر قبل ذلك في نفس الفقرة ما نصه : "فإن هذه الغاية [يقصد المغزى] لا يمكن الوصول إليها إلاَّ عبر إكتشاف الدلالة". هذا تعبير سليم مفهوم ومعلوم ومعقول ومعروفة أصوله. أما بناء الماضى على الواقع فلا نعرفه ولا يتصوره عاقل. فكانت البلبلة والخلط ديدنة. أما بناء دلالة النص على المغزى فهو هذا الذى تعجب منه إبن حزم، وقلنا فيه بأنه طريق الجهل باعتبار القراءة لا التأليف. لا غموض فيه إلاَّ غموض ربط دلالة النص بالماضى والمغزى بالواقع بهذه "الشرطة" المائلة. هنا فكر صمغى لزج، يتعارك مع آخر فوضوى فصلت فيه الدلالة عن المغزى في بداية الصفحة، فإختلط الحابل بالنابل عنده في صفحة واحدة، فما بالنا بالكتاب كله؟
ثانيـاً: كنا قد سألنا عن "الأصل" الذى يقصده، وقد علمنا الآن أن "الدلالة" هى "الأصل" التى تعود إليه، أى إلى نفسها بمجرد إكتشافها! ولا تعليق.
ثالثـاً: دعنا الآن من تحول غير البرىء المشروع إلى المغرض، فسنتناوله في موضع آخر، ولنستجلى الأمر الهام: لماذا كانت وكيف تكون البندولية في الجدل؟
فصل من كتاب "إشراق المنهاج" لإبن النيل.
****************************
تحديث:
تم تأليف الكتاب وأرسل للنشر فى عام 1995م. ما ذكر منه هنا هو كما هو دون تغيير. بعد 18 عاما هناك الجديد فى المادة العلمية الذى يمكن إضافته، تجد بعض منه على هذه المدونة، لكن التعقيب يتبع الحقائق التى تكشفت بالنسبة للحرب التحتية المعلنة على الإسلام. د. نصر حامد أبوزيد كان وقتها أستاذا مساعدا فى قسم اللغة العربية بكلية الآداب / جامعة القاهرة، وكان كتاب "نقد الخطاب الدينى" ضمن بحوثه التى قدمها للترقية ولم ترض بها اللجنة الدائمة من ناحية دينية لا بحثية، ما هو نظرنا فيه، ورفضوا ترقيته إلى درجة أستاذ، ثم كانت قضية الحكم عليه بالردة والتطليق، فتأبط زوجته وهرب إلى هولاندا حيث أصحابه.
لا يعقل لمتخصص وباحث مثله أن يقول بالتوازى لعاملين هما وجهان لعملة واحدة، ولا يأتى بتلك البلبلة فى بحث أكاديمى سيوضع تحت مجهر لجان الترقية. إكتشفنا فيما بعد أن هؤلاء المنافقون والفاسقون العملاء يستخدمون النصوص والدراسات الدينية لتحميل شفرة تراسل سرية فيما بينهم. وحيث أن الدكتور الباحث لا يعقل أن يقع فى مثل هذا الخظأ العلمى المنهجى والبديهى، فنحن نستنتج أن الكتاب يحمل شفرة ما، ومع الشفرة لا يستقيم المنطق. أحد المطلعين بالأمر قال أن الشفرة يمكن أن تكون الكلمة الأولى من كل سطر، فإليها إهتمام التأليف، لا الموضوع أو المنطق. مثله الدكتور زغلول النجار الذى ينتمى لجماعة الإخوان المسلمين، والذى تتبع منهجه فى الإستدلال فأصبح عمله تنجيما لا إستكشافا للإعجاز العلمى فى القرآن الكريم، ما هو دلالة على أن هؤلاء يزيفون فى الإسلام ويستخدمون النصوص تشفيرا، وليس من علم يرجى من وراء ما يبيتون. وعلى الله قصد السبيل.
--------------------------
ابريل 2013