شعبان فى بينية، مطابقة بين المنهاج والحديث.

      يعلم المسلمون أن السنة شارحة للشرع ومبينة له بالتطبيق، والمستقر عليه أن لا تعارض بين الأحاديث الشريفة وبين القرآن الكريم، إنما ذلك فى الشرعة والإعتقاد، ثابت بالدلالة القطعية وقول الرؤوف الرحيم جل ذكره:

*وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُفَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا * (الحشر: 7)

لأنه بعلمه الأجل يعلم ما يجئ به الرسول من حكمة فى جماع كلم رسول أمى عليه الصلاة والسلام، ولما كان إصطفاؤه. كما يعلم علماء الإسلام مدى الجهد والإجتهاد فى تحقيق الأحاديث الشريفة، علوم شتى ما هى إلا سبيل اليقين فى التشريع، فيتحدثون عن الإسناد والآحاد والمتفق عليه والحسن والغريب والموقوف والمرفوع...الخ، أهل الحديث أهل لها. ولما كان المنهاج بكرا فلا نرى بقدر بحثنا فى الموضوع من عمد إلى محاولات للبرهنة على أن المنهاج فى الأحاديث الشريفة  مطابق للمنهاج فى القرآن الكريم شارح له مثله مثل الشرعة سواء بسواء. وإن كان ليس هناك من شك فى ذلك مدلول الآية الكريمة، إنما الأهمية فى تبيان الحق الذى لم يستبين بعد فى تأسيس المنهاج والنظر فى قضاياه. بل قد قلنا بأن المنهاج يمكن أن يكون طريقا من طرق تحقيق الحديث، فإن كان تطابق إرتفع الشك فى الرواية والإسناد، وكان الحسن وصفا.

      لقد سبق أن ذكرنا مثال لذلك فى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ما كثيره مسكر فقليله حرام"، ما يطابق المنهاج على المثانى فى ثنائية الكيف والكم بتقديم الكيف، مثالها قول العليم الحكيم:

كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * ﴿البقرة : ٢٤٩

فالتحريم فى الحديث الشريف على الكيف أصلا ومن ثم الكم تبعا، تطابق واضح، إثباتا للنبوة والإصطفاء. فإن كان التحريم على الكم لم يلزم تحريمه على الكيف، ولم يكن من يقين فى الكم وكانت شبهات وخلاف وتشيع.

      فى شهر شعبان دليل آخر على هذا التطابق فى المنهاج بين الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، قول خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَان , وَهُوَ شَهْر تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلَى رَبّ الْعَالَمِينَ ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ". المنهاجية هنا معنى من معانى وسطية الإسلام التى هى فى الحقيقة وسطية كينونة وكيفية، نعنى بخلاف الكيف فى هذا المقام، بقدر ماهى فى المصير والمآل والتفعيل، نقصد بها التدرج فى الوسائل، ليس من حيث الوسيلة المادية ولكن من حيث كيفية إدارة الوسائل، منهجها وطرقها. المسألة هنا بسيطة أنه من المفضل على منهاج الإسلام ألا تنتظر رمضان وتصوم فجأة فى يوم وليلة مع ما فى ذلك من إجهاد فى نواحى كثيرة، جسمانية ونفسية، يترتب عليها ضرر ربما كان مرئيا محسوسا، وربما كان طويل الأجل فى النتائج الغير مرغوب فيها صحيا. إن قلنا كان صيام رمضان بعد عام من الإفطار كالصدمة للبدن والنفس، كان ذلك صائبا إلى حد بعيد. المهاجية إذن هى التدرج، تأويل قول الرسول عليه الصلاة والسلام "بين رجب ورمضان". "بين" هنا ليست وسطية كينونية أو زمانية أو كيفية، إنما التدرج فى الكيفية والطريقة. أن تدرب نفسك على الصيام فى شعبان، بعض منه، حتى لا يكون الصيام فى رمضان مثل الصدمة المفاجئة للبدن والمعدة بوجه خاص، من قبيل دفع الضرر.

      المنهاجية ثابته الدلالة فى الذكر الحكيم من عدة وجوه ومن عدة طرق وفى عدة مناطات، حتى إكتسبت صفة العموم فى منهاج الإسلام، وحتى أننا نعدها صفة من صفات وسطية الإسلام من طريق الكيفية. فوسطية الإسلام على منهاج المثانى بحر واسع لا نرى له برورا فى الوقت الراهن. أول الأدلة فى مسألتنا وحاكمها وعامها قول الرؤوف الرحيم:

* وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * (المدثر: 14)

      التمهيد والإعداد فى الوسائل والكيفية، الخطوات والطريقة. المعنى مبسوط لغويا لا يحتاج إلى تأويل، فبات قاطعا فى هذه المسألة. الذى يحتاج التأويل هو المفعول المطلق "تمهيدا"، ففيه تثنية المثانى. يدل من وجه آخر على أن التمهيد فى المفعول المطلق غير التمهيد فى الفعل، وإن كان من جنس الفعل، قلنا فيه من قبل مع قوله تعالى:

* وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * (المزمل: 4)

أن هناك فارق بين الترتيل فى الفعل والترتيل فى المفعول المطلق، أعلى مرتبة فى التفعيل، أو إن شئت قلت مضاعفة الفعل، فيكون الترتيل الثانى المعنى به هو التجويد، مع ما فى الفارق بين الترتيل والتجويد فى تفعيل القراءة، الذى يدل على الفارق فى المدلول بين الفعل والمفعول المطلق. دأب المفسرون والنحويون على إعتبار المفعول المطلق تأكيدا للفعل، لكنه فى المنهاج بمرتبة مختلفة. مثله قوله تبارك وتعالى:

 * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *  ﴿مريم: ٩٤﴾

ليدل المفعول المطلق "عَدًّا" على الإحصاء، أعلى مرتبة فى العد من مجرد العمليات الحسابية العادية. من عداد قانون التأويل المجازى النحوى فى المنهاج. هنا أيضا فى التمهيد والإعداد للساريات من الأمور والأعمال والمخططات. فإن قلنا أن التمهيد الأول هو فى الوسائل المادية، كان التمهيد الثانى فى الكيفية والخطوات والطرائق.

      إن أردت التمهيد ب "الفعل" لرمضان، فربما مهدت له بالولائم و"المكسرات" مما إعتاد عليه المسلمون وما شابه من أنواع المأكولات التى تساعد على صيام أقل فى المشقة، كأن تتناول فى السحور أنواع الغذاء التى تدوم لمدة أطول فى المعدة، ليست تحايلا وليس من تحريم فى ذلك، لأن التكليف فى عمومه ترتفع عنه المشقة، المنبع للرخص فى الشرع. أو أن تعد نفسك فى الأعمال بتحديد الأوقات وتغيير المواعيد لتتناسب مع حال الصيام، مع ما يترتب عليه من نتائج إختزال القدرات، أو الفتور البدنى فى بادئ الأمر، وإن كنا لا نقول به، فكم من إنتصارات للإسلام حدثت فى الشهر الكريم مثل بدر والعاشر من رمضان، إنما المقصود التغيير فى كيفية العمل مع التحول من حالة الإفطار إلى حالة الصيام.أما التمهيد بالمفعول المطلق"تميهدا" فهو المقصود فى الحديث الشريف، أن تصوم بعض من شهر شعبان. والله أعلم.

      تأكيد المنهاجية فى حديث عائشة رضى الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" (متفق عليه). أما حديثها رضى الله عنها: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله". وفي رواية: "ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً"، ففي الرواية شك أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كاملا، لأن فى ذلك تعارض مع البينية فى الحديث الأول. البينية تعنى بين الإفطار والصيام، وبينهما البعض وليس الكل. فلو كان صيام شعبان كله إنتفت الحكمة فى البينية وفى منهاجية التدرج من حيث الأصل.

      أحد الشيوخ الأفاضل أصاب القول فى التأويل والتفسير للحديث الشريف عن البينية فقال:

< وشهر شعبان كالمقدمة لشهر رمضان شرع فيه ما يشرع في شهر رمضان على جهة الاستحباب من الصيام، وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي شهر رمضان المبارك وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن فيكون ذلك كالتمرين على صيام رمضان، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يصوم من شهر أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله" (متفق عليه).>

المصدر: Sunnah.org

-------------------------

       لكن المتكلم لم يصب فى إختيار حديث عائشة رضى الله عنها كتفسرة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن فى حديثها هذا شك، يعارض ما قاله هو ويتعارض مع فحوى الحديث عن البينية فى شعبان. فإن وقف حديثها عند قولها رضى الله عنها "يصوم من شهر أكثر من شعبان"، لم يكن من شك لأنه بذلك يرتفق والمنهاجية فى البينية ويؤيد تأويل الحديث الشريف الذى قال به هو نفسه معقولا، تحول من معقول إلى متعارض.

      منهاجية التدرج فى الأمور والإعداد لها دلائلها كثر فى الذكر الحكيم، إستيفاؤها على أصولها يجئ مع حديث الوسطية، إلا أننا نذكر منها قول العادل الحكيم:

* نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ * ﴿البقرة: ٢٢٣﴾

قال فيها القرطبى رحمه الله:

< الرابعة ـ قوله تعالىٰ: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي قدّموا ما ينفعكم غداً؛ فحذف المفعول، وقد صُرِّح به في قوله تعالىٰ:
وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ }[البقرة: 110].

فالمعنى قدّموا لأنفسكم الطاعَةَ والعملَ الصالحَ. وقيل إبتغاء الولد والنسل؛ لأن الولد خير الدنيا والآخرة؛ فقد يكون شفيعاً وجُنَّة. وقيل: هو التزوّج بالعفائف؛ ليكون الولد صالحاً طاهراً. وقيل: هو تقدّم الأفراط؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " من قَدَّم ثلاثةً من الولد لم يبلغوا الحِنثَ لم تمسه النار إلاَّ تَحِلَّةَ القَسَم"الحديث. وسيأتي في «مريم» إن شاء الله تعالىٰ. وقال ٱبن عباس وعطاء: أي قدّموا ذكر الله عند الجماع؛ كما قال عليه السَّلام: "لو أنّ أحدكم إذا أتى ٱمرأته قال بسم الله اللَّهُمَّ جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطانَ ما رزقَتنا فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولدٌ لم يضرّه شيطانٌ أبداً" أخرجه مسلم.>

إبن كثير رحمه الله فى تفسيره:

< وفي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، أنه قال: يا رسول الله نساؤنا، ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "حرثك، ائت حرثك أنى شئت، غير أن لا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" الحديث، رواه أحمد وأهل السنن.>

داخل فى التقديم، فكان المفهوم المسكوت عنه، خلافا للضرب والتقبيح والهجران، هو الملاطفة والمداعبة فى التقديم تعبيرا عن المودة والحب بينهما. هنا لا تفى البسملة أو التمنى بالتقديم والإعداد المطلوب وإن كانت مستحبه كما قال المفسرون، تيمنا فى كل الأحوال بالذرية الصالحة. ربما كان فى ذلك إعجاز علمى من طريق الوراثة، والله أعلم. منه جاز المنع إن لم تكن لها رغبة فى الآونة، داخل فى التقديم أيضا. مثل أن من النساء أصحاب الرسول صلى عليه وسلم من منعت زوجها من إتيانها الدبر وصدقها صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس إن الله لا يستحي من الحقّ لا تأتوا النساء في أعجازهنّ"، الحديث، ذكره إبن كثير فى تفسيره. هنا بالقياس جائز الممانعة بعدم توافر الرغبة. دليله عدم الإكراه فى النكاح. لأهل الأصول الفصل،  إنما ثابت الدليل مفاد منهاجية التدرج والتمهيد، وتفسير التقدمة فى الآية الكريمة.

      دليل ثان على المنهاجية، قول القاهر فوق عباده:

* وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ * (الأنفال: 60)

لا يحتاج إلى بيان، محكم القول لغويا فى الإستدلال على منهاجية التدرج والإعداد، وإن تطلب التأويل فى ماهية القوة ورباط الخيل. 

      فإن قلنا أن شهر شعبان بين رجب ورمضان فى الزمان وفى المناط الذى هو الصوم، كان البين بينهما صيام بعض من شعبان لم ينص فيه على عدد الأيام، وإن كان حديث عائشة رضى الله عنها يدل على أنه أكثر الشهور صياما عند الرسول صلى الله عليه وسلم. كان يصوم فى الشهور الأخرى إلا أن  شعبان أكثر صياما، تأويل البين بين حالة الإفطار وحالة الصيام. فإن تأولنا البين على الأرجح على أنه وسطية، كان المطلوب هو صوم خمسة عشر يوما من شعبان، ليس فرضا ولا واجبا من حيث الشرع، إنما مستحب من حيث الإقتداء إبتداءا، أهل الشرعة أهل لها، بينما هو تكليف من حيث المنهاج والإقتداء سواء، تحقيقا للوسطية فيه بين الصفر والثلاثين يوما. وإذا أجرينا الوسطية على الإعداد والتدرج، كان الأفضل أن نتدرج أيضا فى عدد الأيام خلال الأسابيع الأربعة، تماشيا على وجه آخر مع مضمون قوله تعالى: "وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا". التمهيد الأول فى العدد هو خمسة عشر يوما تقريبا، والتمهيد فى المفعول المطلق أن يكون هناك تدرج مثل أن تصوم يومان فى الأسبوع الأول، وثلاثة فى الثانى، وأربعة فى الثالث، ثم خمسة فى الرابع، فيكون هناك أربعة عشر يوما. أما أن الأيام مفردة أو متجمعة فيمكن إدخالها الإعداد والتدرج بإعتبار الأسبوع الواحد، كأن لا تجمع فى الأسبوع الأول، مستحب فى الأخير، متروك للمكلف بإدراك أن ذلك يعنى فى المقام الأول الصحة الجسمانية والنفسية سواء، بل ألأعمال الصالحات وعبادة فى إستقامة على معطيات الدين القيم ومنهاج الله. والله أعلم.

      مسك الختام:

 * قُلِ ادْعُوا اللَّـهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * ﴿الإسراء: ١١٠﴾

صدق الله العظيم

-----------------------------

الإنشاء : [Minhageat.com]