بسم الله الرحمن الرحيم، فضله الهدى والتوفيق وبه نستعين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، محمد إبن عبد الله، صلوات الله عليه وسلامه. كل عام وأنتم وأمة الإسلام فى خير وسلام، وقاها الله شرور الحاقدين والطامعين، هو نعم المولى ونعم النصير ونعم السميع المجيب.
      فى مناسبة ذكرى المصطفى، صلى الله عليه وسلم، يحسن أن نتدارس العبر والدروس فى بعثة النبى الأمى وخاتم النبيين، التدارس الذى إستهللنا به باب "مناسبات" على هذه المدونة بمقالة "
وطلع البدر علينا بنور الحق"، ثم "فى يوم مولده: محمد عليه الصلاة والسلام فى عيون الغرب"، وفى العام الماضى نظرنا فى مسألة تلقى الوحى مع شدة وطأته فى مقالة "وطلع البدر علينا وتصدع الجبل"، أمَّلنا فيها بإذنه تعالى أن نستكمل التدارس في المناسبة التالية وندلف إلى مسألة إصطفاء النبوة، وفقنا الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه.
    الإصطفاء الربانى مسألة مترامية الأطراف متشابكة العوامل، لا يستجليها مقال واحد بإعتبار أدلتها النقلية، قرآنا وحديثا. لكن يمكن إبتداءا إجمال عناصرها من قوله الخلاق العليم:

* إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ, ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * (آل عمران: 33)
فى مقام سابق بينا ثنائية الفرد والمجتمع فيها، تثنية الإصطفاء إفرادا مع آدم ونوح، عليهما السلام، وجمعا مع آل إبراهيم وآل عمران، ثم التثنية فى الإفراد والجمع كليهما، ثلاث ثنائيات فالمنهاج ومثانيه. كما بينا أن فيها متشابه بدليل عقلى أن الإصطفاء لا ينطبق على آدم عليه السلام، حيث الإصطفاء إختيار، ولم يكن من إختيار معه أبا للبشرية، عليه السلام، فالإختيار بالمعنى يكون من بين متعدد. الآية من المتشابهات من وجه آخر وهو التكرار فى التبعيض، وهى متشابهة من جهة ثالثة بتداخل الذريات وتسلسلها، فالمعلوم أنها كلها من ذرية آدم، عليه السلام، قوله: "
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"، إنما خصص سبحانه لتبيان الثنائية، ولا نرى فى علمنا سببا آخر إلا أن يكون تسلسل الذرية من أنباء الغيب، جائز على الظاهر. هناك وجهان فى التأويل، الأول أن الإصطفاء مع كل الأنبياء والرسل فى إجماله ينبنى على هذه الثنائية. الثانى أنها مشتملة فى رسالة النبوة مع كل منهم، ضمن منهاج الله الذى كلفهم، عليهم الصلاة والسلام، التبليغ به مع شريعته سواء بسواء، قوله تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا".
      أما التعقيب فى قوله: "
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" فيه بابان للتأويل، فالسمع مقصود به النقل فالإعتقاد، أن الإصطفاء فى الدين، ما قال به بعض المفسرين من أن الله إصطفى لهم دين الإسلام، من باب الإعتقاد. الباب الثانى العلم، النظرة العلمية والبحث فى الإصطفاء والذرية، مفتوح الإجتهاد فيه بأى صنف من العلوم يتسق مع مطلب التفصيل فى العلم فى القرآن، منه هذا المبحث بعون الله. ولو أنك ثنيت السمع على العلم، بعلم أن أسماء الله الحسنى فى الذكر الحكيم جاءت على التثنية من أول الرحمن الرحيم، وصلت إلى مطلب خاتمية الرسالة المحمدية من أنها تبث الدلائل العلمية على الوحدانية والنبوة بلا إنقطاع، منذ زمن الوحى وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ما نحن بصدده بتوفيق الله وهداه.
      الوجه الثانى على متشابه المثانى ليس مقامه، أما الأول يفهم منه أن الإصطفاء ينبنى على عاملين، أولهما عامل الفرد كمنبت وكفاءته فى حمل الرسالة والتبليغ، ضمنه رعاية الله للمصطفى – أى منهم عليهم الصلاة والسلام - وإلى أن يبعثه الله نبيا أو رسولا. ثانيهما عامل المجتمع وخصائصه التى تكتنف أسباب الإصطفاء مثل فسق القوم أو كفرهم أو ظلمهم، ثم خصائصه من حيث تعامل وتفاعل المصطفى معه، قبل وبعد البعثة، تأثرا وتأثيرا. بل يمكن النظر أيضا فى تأثير المجتمع على نشأة المصطفى بما هيأه للإصطفاء ضمن عامل الفرد، المسألة التى تطاحن عليها الفكر البشرى منذ النشأة، ومازال. ستجد بعون الله فى النقل دلائل على كل هذه المكونات للإصطفاء.
      دليل ثان على أن الإصطفاء ينبى على هذه الثنائية، قوله العزيز العليم:

* وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * (آل عمران: 42)
الإصفاء الأول على الإفراد بالمنادى، منه رعاية الله لها متضمنة أن طهرها قبل أن تحمل الرسالة الربانية. أما الثانى على الجمع بنسبة نساء العالمين، المكونات المجتمعية من حيث تفاعلها مع البيئة حولها، قبل وبعد التكليف، مثل أن أحصنت فرجها قِبَل المجتمع وقَبْل التكليف، ثم إنتباذها من أهلها مكانا قصيا ونزوعها إلى جذع النخلة، فى تنافر مع المجتمع، مما ورد فى القصة فى سورة مريم.
      منه أن عاملى الفرد والمجتمع تتفرع عليهما مكونات عدة. كل مكون من هذه المكونات يستأهل بحثا بمفرده. عامة الكتاب يخلطون بينها دون منهجية واضحة. من المهم أيضا أن نرتب أسبقية كل مكون فرعى، مثل أن يكون النسب للأب له فى الأهمية الأسبقية على النسب للأم فى البحث والتأسيس. ويسبق مكون الذرية مكون الأخلاق أوالعصمة، وهكذا. المدخل الطبيعى لها مجتمعة هو عامل الفرد من حيث مكون الذرية الصالحة، المكون الذى أشير إليه فى الآية الكريمة، قوله تعالى: "
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"، باب الإصطفاء الأول، ما جرت عليه "سيرة إبن هشام".
      عن نسبه صلى الله عليه وسلم: < حدثنا 
محمد بن مهران الرازي ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم جميعا، عن الوليد قال ابن مهران، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعيعن أبي عمار شداد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول:  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ". (البخارى 2276)>
      فى "سيرة إبن هشام" ورد ذكر سرد النسب الزكى: < من 
محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إلى آدم عليه السلام قال أبو محمد عبد الملك بن هشام ( النحوي ) : هذا كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، واسم عبد المطلب : شيبة بن هاشم واسم هاشم : عمرو بن عبد مناف واسم عبد مناف : المغيرة بن قصي ، ( واسم قصي : زيد ) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر - ص 2 - بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ، واسم مدركة : عامر بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن ( أد ، ويقال ) : أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم - خليل الرحمن - بن تارح ، وهو آزر بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالخ - ص 3 - بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس النبي فيما يزعمون والله أعلم ، وكان أول بني آدم أعطى النبوة ، وخط بالقلم - ابن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم .>
      فثبت لنبى الإسلام، صلى الله عليه وسلم، المكون الأول للإصطفاء، النسب الطاهر إلى ذرية الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى إسماعيل عليهم السلام، فكنانة وقريش وبنى هاشم. كأن فى الذرية الجينات الوراثية تخط النبوة بإذنه تعالى جلت قدرته حيث يقول:

* هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* (آل عمران: 6)
ويقول:

* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ * (الحج: 5)
      المكون الفردى الثانى، الإنبات والتنشئة، ومن حيث أن هنا إصطفاء على أساس الذرية، فقد بدأ الإصطفاء مع الميلاد يختص بعلمه تعالى. ومتى كان الإصطفاء تبدأ معه رعاية الله للمصطفى حيث العلامة الظاهرة على مبتدى الإصطفاء، إلى أن يبلغ أشده نسبة للتكليف بالرسالة، ثم تكون  البعثة وحمل التكليف والتبليغ. الدلائل هنا متكاثرة مع كثير من الأنبياء، فمع البتول مريم إبنة عمران قال الحكيم القادر:

* فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۖإِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * (آل عمران: 36 – 7)
فثبت أيضا المكون الفردى الثالث، أن مبتدى الإصطفاء هو مبتدى الرعاية الإلهية، قوله: "
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ"، فرعاية الله فى قوله: "وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا"، ثم "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا". مثل ذلك مع يوسف، عليه السلام، وقوله علام الغيوب:
* وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * (يوسف: 23)
إرتبط العامل الفردى هنا بعامل مجتمعى وهو العصمة الأخلاقية، فترتب الأخير على الأول، وكانت أهمية الأول كمدخل للإصطفاء. فى طالوت ومتطلبات الإصطفاء قال الواسع العليم:

* وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّـهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّـهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * (البقرة: 247)

ضمن الرعاية الإلهية مع الإصطفاء زاده الله فى العلم والجسم حتى يتبوأ المكانة المجتمعية المتوائمة مع التكليف. مع موسى عليه السلام، بدأت الرعاية الإلهية من الطفولة، قوله الرؤوف الرحيم:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * (القصص: 7)

ثم قوله:
* وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *
 (القصص: 10 - 14).
      مع عيسى بن مريم، عليه السلام، فالأمر جد مختلف، حيث بدأ إصطفاؤه فى مشيئته جل وعلا، وكان إصطفاؤه يتطلب إصطفاءا آخر، الأم مريم ابنت عمران، الوجه الآخر فى تأويل قوله الخلاق العليم:

* وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * (آل عمران: 42)
إصطفاءان فى آن واحد، إصطفاء النبى، عليه السلام، تطلب إصطفاء الأم كى تحمله فى تكليف ربانى. إصطفاء داخل فى إصطفاء. لذلك قال العلى القدير:

*  وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ * (المؤمنون: 50)
جعلهما سويا آية فالإصطفاءان فى آن واحد. متى إصطفاه ليكون آية للناس على قدرته تعالى فى الخلق، إصطفى معه الرحم التى تتجاوب مع الروح القدس لإنجاب المصطفى عليه السلام. إصطفاءان فى آية واحدة متلازمان لا ينفصلان، لزوم أحدهما من لزوم الآخر. مترتبا على هذا الإصطفاء بدأت الرعاية الإلهية لإصطفاء النبوة مع رعاية الله لها، فكان المبتدى الحقيقى لرعاية نبى النصرانية عندما قال تعالى: "
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا"
      يستطرد جل شأنه فى الرعاية والشمائل بالخلق:

* إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ * (آل عمران: 45 – 9)
وضع فى عيسى إبن مريم، عليه السلام، شمائله مع الإصطفاء، غرسها فى الجينات الوراثية، حتى يمكن القول أن لم يكن للعامل المجتمعى كبير تأثيرعلى إكتسابه لشمائل المصطفى، فهى مقررة سلفا بالميلاد. مسألة محل جدال واسع ليس مقامه. فكانت الكلمة المبشرة بها البتول مريم هى هذا الجين الوراثى الذى يحمل الشمائل وخصائص النبوة سلفا بلا إكتساب، بقدرته الخلاق العليم. من هذه الزاوية فهو إعجاز إلهى آخر منفصل عن كونه عليه السلام وأمه آية واحدة. ما يجعل إصطفاء عيسى بن مريم إصطفاء يتميز عن الخصائص المعتادة للإصطفاء، مفاد قوله العليم الحكيم.

* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّـهُ ۖوَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ * (البقرة: 253)
المعنى كما بيناه فى المقالة السابقة "
طلع البدر وتصدع الجبل" أن الفروق بين الأنبياء والرسل ليست فى فحوى الرسالة، التى هى على التوحيد معهم جميعا، إنما الفروق تكون فى شمائل إصطفاء النبوة. رفع تعالى بعضهم على بعض درجات فى تلك الشمائل لتتواءم مع أحوال الناس ومسببات الإصطفاء المجتمعية، مثلما زاد طالوتا بسطة فى العلم والجسم. خص عيسى إبن مريم بالذكر لأنه لا يخضع لهذا المنحى المجتمعى فى الشمائل والفروق فيها بين المصطفين الأخيار، الذين قال فيهم رب العزة كأمثلة:
* وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ* وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ* هَـٰذَا ذِكْرٌ ۚ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * (ص: 45 – 9)
مع هؤلاء المصطفين الأخيار، عليهم الصلاة والسلام، شمائل إصطفاء النبوة تختلف من أحدهم إلى الآخر. الأمر المهم هنا ذكره تعالى للإختيار صفة للإصطفاء. فقاعدة الإصطفاء الإختيار من متعدد، ما لا ينطبق على آدم وعيسى، عليهما السلام، ذكرناه فى صدر المقالة. فكانت شمائل عيسى بن مريم محددة مقررة مسبقا لا تنبنى على الإختيار المجتمعى، قوله القاهر فوق عباده:

* إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَ‌ابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * (آل عمران: 59)

وجه آخر للتأويل غير الذى تناولناه من قبل، أن ليس هناك مكونات إصطفاء مجتمعية معهما آدم وعيسى، عليهما السلام، إلا مسببات الشمائل لا الشمائل نفسها.    
       مع التكليف والبعثة تكون قد بلغت الرعاية الإلهية أجلها وإكتملت شمائل الإصطفاء. أما الرعاية بعد البعثة فلها مقام آخر بإذنه تعالى. والله أعلم. 
       مع خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم، قال الرؤوف الرحيم:

* وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ * (المائدة: 67)
جاءت الرعاية الإلهية بالعصمة إزاء الناس بعد أن تقرر الإصطفاء.  مع الإنبات والتنشئة والرعاية الإلهية إكتسب الكثير من صفات وشمائل المصطفى الشخصية حيث قال فيه المولى جل وعلا:

* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * (القلم: 4)
ستجد الكثير مثل ذلك، يبارك الله فى شمائل المصطفى الشخصية ويمدح بمعزل عن الرعاية الإلهية، تلك التى إكتسبها مع التنشئة والتربية، كقوله جل شأنه فى إبراهيم عليه السلام:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّـهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * (النحل: 120)
وقوله فى إسماعيل عليه السلام:

* وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚإِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * (مريم: 54)
      مع محمد، عليه الصلاة والسلام، رتب سبحانه الأسباب بدأا من العامل الفردى إلى حمل الرسالة، فقال:

* وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * (النجم: 1 – 4)
شهد له الخلاق العليم ونفى عنه الضلال والغى، من شمائل المصطفى ومكون من مكونات العامل الفردى، وبعد الإنبات والتنشئة ورعاية الله عاد لا ينطق عن الهوى، إنما ينطق بالحق وحمل الرسالة الربانية. كأن الآية الكريمة تستدعى الإصطفاء من مبتداه إلى منتهاه. أن فيه صلى الله عليه وسلم شمائل الإصطفاء التى إكتسبها من الذرية الصالحة ومع الإنبات والتنشئة ثم رعاية الرحمن الرحيم، فحمله تعالى الرسالة الخاتمة عندما بلغ أشده فى تكليف النبوة، وأجمل مسببات الإصطفاء فى قوله الحكيم العليم:

* وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ * (آل عمران: 144)
ليس له مثيل من قبله فى إجمال شمائل الإصطفاء، المكونات الفردية والمجتمعية، ولا من بعده فهو خاتم النبيين، صلوات الله عليه وسلامه إلى يوم يبعثون. والله أعلم.
مما سطره فيلسوف الشعراء وأميرها أحمد شوقى عن شمائل نبى الإسلام، عليه الصلاة والسلام، فى قصيدته "ولد الهدى":

ولد الهدى فالكائنات ضياء                 ***        وفم الزمان تبسم وسناء
الروح والملأ الملائك حوله                 ***        للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو والحظيرة تزدهى          ***        والمنتهى والسدرة العصماء
--------------
يامن له الأخلاق ما تهوى العلا            ***       منها وما يتعشق الكبراء
زانتك فى الخلق العظيم شمائل         ***       يغرى بهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى        ***       وفعلت ما لا تفعل الأنواء
--------------
وإذا عفوت فقادرا ومقدرا                ***         لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب               ***        هذان فى الدنيا هما الرحماء
وإذا خطبت فللمنابر هزة                 ***        تعرو الندى وللقلب بكاء
--------------
وإذا أخذت العهد أو أعطيته              ***        فجميع عهدك ذمة ووفاء
يا من له عز الشفاعة وحده              ***        وهو المنزه ماله شفعاء
لى فى مديحك يا رسول عرائس        ***         تيمن فيك وشاقهن جلاء

 

      إلى هنا فقد تناولنا بإقتضاب ثلاثة مكونات من العامل الفردى، الذرية ثم الإنبات والتنشئة فالرعاية الإلهية، تحتاج إلى تحقيق أكثر. الإمام فخر الدين الرازى، رحمه الله، بنظره المتفرد فى تفسيره "مفاتيح الغيب" قارب معنا فى تناول المسألة من حيث المكونات الفردية:

< المسألة الثانية: { ٱصْطَفَى } في اللغة اختار، فمعنى: اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه، تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، ويقال على ثلاثة أوجه: صفوة، وصفوة وصفوة، ونظير هذه الآية قوله لموسى:
إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي } [الأعراف: 144]
وقال في إبراهيم:
وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلاْخْيَارِ } [ص: 47].
إذا عرفت هذا فنقول. في الآية قولان الأول: المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني: أن يكون المعنى: إن الله اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني: أنه موافق لقوله تعالى:
{
 ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته }>
أولا: ليس صائبا أن مسببات الإصطفاء هى أن يجعلهم صفوة، قوله: "
اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه"، إنما ينقصه تتابع الأسباب، أن مسببات الإصطفاء تبدأ بحمل الرسالة وهو الأصل فى الإصطفاء، لا أن يجعلهم صفوة دون هذا الغرض، فتناقصت السببية عنده.

ثانيا: توافق معنا على المنطوق بإستبعاد مناط الإصطفاء أن يكون عقيديا، بدءا من قوله: "أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح"، إلى قوله: "أنا لا نحتاج إلى إضمار". بينا إرتأينا أن الباب العقيدى ليس فى مفردات الإصطفاء فى الآية الكريمة وقد إستبعد الإضمار لإثباته، إنما ثابت فى قوله: "وَاللَّهُ سَمِيعٌ"، وثابت على أصل الإصطفاء غير مثبت فى المنطوق، أن الإصطفاء سببه حمل التكليف، وحمل التكليف من العقيدة، كما هو ثابت بالدلائل المنفصلة التى ذكرها مثل قوله تعالى مع موسى، عليه السلام: "إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي"، لا شبهة فيه.
ثالثا: أنه حمل  الرعاية الإلهية أسباب الإصطفاء، ثم دلل عليها، بينا نحن نحمل الرعاية على أصل الإصطفاء وهو حمل تكليف الرسالة. فمتى تقرر الإصطفاء تبعته الرعاية الإلهية، التى دلل عليها فيما تلى من أقواله:

< وذكر الحليمي في كتاب «المنهاج» أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مدركة، وإما محركة. أما المدركة: فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها: القوة الباصرة، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها". والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: " أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى:
{
وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ} [الأنعام: 75] >.
..إلى آخر ما ذكر من دلائل، متفقين معه على تباين الشمائل بين المصطفين الأخيار، صلى الله عليهم وسلم، التى بثها جلت قدرته فيهم من باب الرعاية الإلهية متوائمة مع وبغرض حمل التكليف بكفاءة، الإصطفاء على مسبباته ومترتباته. لم ينظر الرازى ولا غالبية النظار فى عوامل ومكونات الإصطفاء بهذا المنهج والتقسيم فيه الذى إتبعناه معولين على معطيات الذكر الحكيم فى المنهاج ومثانيه، وبخاصة العامل المجتمعى، أشرنا إليه ونفصل عليه فيما بعد بإذن الرحمن الرحيم. منه التفرقة والتمييز بين مدلول لفظ "منهج" البحث ولفظ"منهاج" الله فى تنزيله وقوله: "
شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"، فالبون شاسع بينهما، سنفرد له مقاما فيما بعد بإذنه المستعان. والحمد لله رب العالمين، هو الهادى والموفق إلى صراطه المستقيم.
      إلى مناسبة أخرى بإذنه تعالى، كل عام وأنتم وأمة الإسلام فى خير وسلام، وقاها الله شرور الحاقدين والطامعين، هو نعم المولى ونعم النصير ونعم السميع المجيب.
      مسك الختام، كلمات الملك القدوس السلام:

*إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *

عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام إلى يوم يبعثون.

-----------------------------
الإنشاء: [
Minhageat.com]