مناسبات:

مناسبات: منهاجيات Mon, 03/18/2019 - 02:52

  المرجعية:

قوله تعالى: ** رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا **

 الموضوعات:

إصطفاء النبوة وذكرى مولده، صلى الله عليه وسلم.

إصطفاء النبوة وذكرى مولده، صلى الله عليه وسلم. منهاجيات Thu, 11/07/2019 - 12:14

بسم الله الرحمن الرحيم، فضله الهدى والتوفيق وبه نستعين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، محمد إبن عبد الله، صلوات الله عليه وسلامه. كل عام وأنتم وأمة الإسلام فى خير وسلام، وقاها الله شرور الحاقدين والطامعين، هو نعم المولى ونعم النصير ونعم السميع المجيب.
      فى مناسبة ذكرى المصطفى، صلى الله عليه وسلم، يحسن أن نتدارس العبر والدروس فى بعثة النبى الأمى وخاتم النبيين، التدارس الذى إستهللنا به باب "مناسبات" على هذه المدونة بمقالة "
وطلع البدر علينا بنور الحق"، ثم "فى يوم مولده: محمد عليه الصلاة والسلام فى عيون الغرب"، وفى العام الماضى نظرنا فى مسألة تلقى الوحى مع شدة وطأته فى مقالة "وطلع البدر علينا وتصدع الجبل"، أمَّلنا فيها بإذنه تعالى أن نستكمل التدارس في المناسبة التالية وندلف إلى مسألة إصطفاء النبوة، وفقنا الله وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه.
    الإصطفاء الربانى مسألة مترامية الأطراف متشابكة العوامل، لا يستجليها مقال واحد بإعتبار أدلتها النقلية، قرآنا وحديثا. لكن يمكن إبتداءا إجمال عناصرها من قوله الخلاق العليم:

* إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ, ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * (آل عمران: 33)
فى مقام سابق بينا ثنائية الفرد والمجتمع فيها، تثنية الإصطفاء إفرادا مع آدم ونوح، عليهما السلام، وجمعا مع آل إبراهيم وآل عمران، ثم التثنية فى الإفراد والجمع كليهما، ثلاث ثنائيات فالمنهاج ومثانيه. كما بينا أن فيها متشابه بدليل عقلى أن الإصطفاء لا ينطبق على آدم عليه السلام، حيث الإصطفاء إختيار، ولم يكن من إختيار معه أبا للبشرية، عليه السلام، فالإختيار بالمعنى يكون من بين متعدد. الآية من المتشابهات من وجه آخر وهو التكرار فى التبعيض، وهى متشابهة من جهة ثالثة بتداخل الذريات وتسلسلها، فالمعلوم أنها كلها من ذرية آدم، عليه السلام، قوله: "
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"، إنما خصص سبحانه لتبيان الثنائية، ولا نرى فى علمنا سببا آخر إلا أن يكون تسلسل الذرية من أنباء الغيب، جائز على الظاهر. هناك وجهان فى التأويل، الأول أن الإصطفاء مع كل الأنبياء والرسل فى إجماله ينبنى على هذه الثنائية. الثانى أنها مشتملة فى رسالة النبوة مع كل منهم، ضمن منهاج الله الذى كلفهم، عليهم الصلاة والسلام، التبليغ به مع شريعته سواء بسواء، قوله تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا".
      أما التعقيب فى قوله: "
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" فيه بابان للتأويل، فالسمع مقصود به النقل فالإعتقاد، أن الإصطفاء فى الدين، ما قال به بعض المفسرين من أن الله إصطفى لهم دين الإسلام، من باب الإعتقاد. الباب الثانى العلم، النظرة العلمية والبحث فى الإصطفاء والذرية، مفتوح الإجتهاد فيه بأى صنف من العلوم يتسق مع مطلب التفصيل فى العلم فى القرآن، منه هذا المبحث بعون الله. ولو أنك ثنيت السمع على العلم، بعلم أن أسماء الله الحسنى فى الذكر الحكيم جاءت على التثنية من أول الرحمن الرحيم، وصلت إلى مطلب خاتمية الرسالة المحمدية من أنها تبث الدلائل العلمية على الوحدانية والنبوة بلا إنقطاع، منذ زمن الوحى وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ما نحن بصدده بتوفيق الله وهداه.
      الوجه الثانى على متشابه المثانى ليس مقامه، أما الأول يفهم منه أن الإصطفاء ينبنى على عاملين، أولهما عامل الفرد كمنبت وكفاءته فى حمل الرسالة والتبليغ، ضمنه رعاية الله للمصطفى – أى منهم عليهم الصلاة والسلام - وإلى أن يبعثه الله نبيا أو رسولا. ثانيهما عامل المجتمع وخصائصه التى تكتنف أسباب الإصطفاء مثل فسق القوم أو كفرهم أو ظلمهم، ثم خصائصه من حيث تعامل وتفاعل المصطفى معه، قبل وبعد البعثة، تأثرا وتأثيرا. بل يمكن النظر أيضا فى تأثير المجتمع على نشأة المصطفى بما هيأه للإصطفاء ضمن عامل الفرد، المسألة التى تطاحن عليها الفكر البشرى منذ النشأة، ومازال. ستجد بعون الله فى النقل دلائل على كل هذه المكونات للإصطفاء.
      دليل ثان على أن الإصطفاء ينبى على هذه الثنائية، قوله العزيز العليم:

* وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * (آل عمران: 42)
الإصفاء الأول على الإفراد بالمنادى، منه رعاية الله لها متضمنة أن طهرها قبل أن تحمل الرسالة الربانية. أما الثانى على الجمع بنسبة نساء العالمين، المكونات المجتمعية من حيث تفاعلها مع البيئة حولها، قبل وبعد التكليف، مثل أن أحصنت فرجها قِبَل المجتمع وقَبْل التكليف، ثم إنتباذها من أهلها مكانا قصيا ونزوعها إلى جذع النخلة، فى تنافر مع المجتمع، مما ورد فى القصة فى سورة مريم.
      منه أن عاملى الفرد والمجتمع تتفرع عليهما مكونات عدة. كل مكون من هذه المكونات يستأهل بحثا بمفرده. عامة الكتاب يخلطون بينها دون منهجية واضحة. من المهم أيضا أن نرتب أسبقية كل مكون فرعى، مثل أن يكون النسب للأب له فى الأهمية الأسبقية على النسب للأم فى البحث والتأسيس. ويسبق مكون الذرية مكون الأخلاق أوالعصمة، وهكذا. المدخل الطبيعى لها مجتمعة هو عامل الفرد من حيث مكون الذرية الصالحة، المكون الذى أشير إليه فى الآية الكريمة، قوله تعالى: "
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"، باب الإصطفاء الأول، ما جرت عليه "سيرة إبن هشام".
      عن نسبه صلى الله عليه وسلم: < حدثنا 
محمد بن مهران الرازي ومحمد بن عبد الرحمن بن سهم جميعا، عن الوليد قال ابن مهران، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعيعن أبي عمار شداد أنه سمع واثلة بن الأسقع يقول:  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسمعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ". (البخارى 2276)>
      فى "سيرة إبن هشام" ورد ذكر سرد النسب الزكى: < من 
محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إلى آدم عليه السلام قال أبو محمد عبد الملك بن هشام ( النحوي ) : هذا كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، واسم عبد المطلب : شيبة بن هاشم واسم هاشم : عمرو بن عبد مناف واسم عبد مناف : المغيرة بن قصي ، ( واسم قصي : زيد ) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر - ص 2 - بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ، واسم مدركة : عامر بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن ( أد ، ويقال ) : أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم - خليل الرحمن - بن تارح ، وهو آزر بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالخ - ص 3 - بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس النبي فيما يزعمون والله أعلم ، وكان أول بني آدم أعطى النبوة ، وخط بالقلم - ابن يرد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم .>
      فثبت لنبى الإسلام، صلى الله عليه وسلم، المكون الأول للإصطفاء، النسب الطاهر إلى ذرية الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى إسماعيل عليهم السلام، فكنانة وقريش وبنى هاشم. كأن فى الذرية الجينات الوراثية تخط النبوة بإذنه تعالى جلت قدرته حيث يقول:

* هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* (آل عمران: 6)
ويقول:

* يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ * (الحج: 5)
      المكون الفردى الثانى، الإنبات والتنشئة، ومن حيث أن هنا إصطفاء على أساس الذرية، فقد بدأ الإصطفاء مع الميلاد يختص بعلمه تعالى. ومتى كان الإصطفاء تبدأ معه رعاية الله للمصطفى حيث العلامة الظاهرة على مبتدى الإصطفاء، إلى أن يبلغ أشده نسبة للتكليف بالرسالة، ثم تكون  البعثة وحمل التكليف والتبليغ. الدلائل هنا متكاثرة مع كثير من الأنبياء، فمع البتول مريم إبنة عمران قال الحكيم القادر:

* فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۖإِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * (آل عمران: 36 – 7)
فثبت أيضا المكون الفردى الثالث، أن مبتدى الإصطفاء هو مبتدى الرعاية الإلهية، قوله: "
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ"، فرعاية الله فى قوله: "وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا"، ثم "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا". مثل ذلك مع يوسف، عليه السلام، وقوله علام الغيوب:
* وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * (يوسف: 23)
إرتبط العامل الفردى هنا بعامل مجتمعى وهو العصمة الأخلاقية، فترتب الأخير على الأول، وكانت أهمية الأول كمدخل للإصطفاء. فى طالوت ومتطلبات الإصطفاء قال الواسع العليم:

* وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّـهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّـهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * (البقرة: 247)

ضمن الرعاية الإلهية مع الإصطفاء زاده الله فى العلم والجسم حتى يتبوأ المكانة المجتمعية المتوائمة مع التكليف. مع موسى عليه السلام، بدأت الرعاية الإلهية من الطفولة، قوله الرؤوف الرحيم:

وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * (القصص: 7)

ثم قوله:
* وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *
 (القصص: 10 - 14).
      مع عيسى بن مريم، عليه السلام، فالأمر جد مختلف، حيث بدأ إصطفاؤه فى مشيئته جل وعلا، وكان إصطفاؤه يتطلب إصطفاءا آخر، الأم مريم ابنت عمران، الوجه الآخر فى تأويل قوله الخلاق العليم:

* وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * (آل عمران: 42)
إصطفاءان فى آن واحد، إصطفاء النبى، عليه السلام، تطلب إصطفاء الأم كى تحمله فى تكليف ربانى. إصطفاء داخل فى إصطفاء. لذلك قال العلى القدير:

*  وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ * (المؤمنون: 50)
جعلهما سويا آية فالإصطفاءان فى آن واحد. متى إصطفاه ليكون آية للناس على قدرته تعالى فى الخلق، إصطفى معه الرحم التى تتجاوب مع الروح القدس لإنجاب المصطفى عليه السلام. إصطفاءان فى آية واحدة متلازمان لا ينفصلان، لزوم أحدهما من لزوم الآخر. مترتبا على هذا الإصطفاء بدأت الرعاية الإلهية لإصطفاء النبوة مع رعاية الله لها، فكان المبتدى الحقيقى لرعاية نبى النصرانية عندما قال تعالى: "
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا"
      يستطرد جل شأنه فى الرعاية والشمائل بالخلق:

* إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ * (آل عمران: 45 – 9)
وضع فى عيسى إبن مريم، عليه السلام، شمائله مع الإصطفاء، غرسها فى الجينات الوراثية، حتى يمكن القول أن لم يكن للعامل المجتمعى كبير تأثيرعلى إكتسابه لشمائل المصطفى، فهى مقررة سلفا بالميلاد. مسألة محل جدال واسع ليس مقامه. فكانت الكلمة المبشرة بها البتول مريم هى هذا الجين الوراثى الذى يحمل الشمائل وخصائص النبوة سلفا بلا إكتساب، بقدرته الخلاق العليم. من هذه الزاوية فهو إعجاز إلهى آخر منفصل عن كونه عليه السلام وأمه آية واحدة. ما يجعل إصطفاء عيسى بن مريم إصطفاء يتميز عن الخصائص المعتادة للإصطفاء، مفاد قوله العليم الحكيم.

* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّـهُ ۖوَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ * (البقرة: 253)
المعنى كما بيناه فى المقالة السابقة "
طلع البدر وتصدع الجبل" أن الفروق بين الأنبياء والرسل ليست فى فحوى الرسالة، التى هى على التوحيد معهم جميعا، إنما الفروق تكون فى شمائل إصطفاء النبوة. رفع تعالى بعضهم على بعض درجات فى تلك الشمائل لتتواءم مع أحوال الناس ومسببات الإصطفاء المجتمعية، مثلما زاد طالوتا بسطة فى العلم والجسم. خص عيسى إبن مريم بالذكر لأنه لا يخضع لهذا المنحى المجتمعى فى الشمائل والفروق فيها بين المصطفين الأخيار، الذين قال فيهم رب العزة كأمثلة:
* وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ* وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ۖ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ* هَـٰذَا ذِكْرٌ ۚ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * (ص: 45 – 9)
مع هؤلاء المصطفين الأخيار، عليهم الصلاة والسلام، شمائل إصطفاء النبوة تختلف من أحدهم إلى الآخر. الأمر المهم هنا ذكره تعالى للإختيار صفة للإصطفاء. فقاعدة الإصطفاء الإختيار من متعدد، ما لا ينطبق على آدم وعيسى، عليهما السلام، ذكرناه فى صدر المقالة. فكانت شمائل عيسى بن مريم محددة مقررة مسبقا لا تنبنى على الإختيار المجتمعى، قوله القاهر فوق عباده:

* إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَ‌ابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * (آل عمران: 59)

وجه آخر للتأويل غير الذى تناولناه من قبل، أن ليس هناك مكونات إصطفاء مجتمعية معهما آدم وعيسى، عليهما السلام، إلا مسببات الشمائل لا الشمائل نفسها.    
       مع التكليف والبعثة تكون قد بلغت الرعاية الإلهية أجلها وإكتملت شمائل الإصطفاء. أما الرعاية بعد البعثة فلها مقام آخر بإذنه تعالى. والله أعلم. 
       مع خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم، قال الرؤوف الرحيم:

* وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ * (المائدة: 67)
جاءت الرعاية الإلهية بالعصمة إزاء الناس بعد أن تقرر الإصطفاء.  مع الإنبات والتنشئة والرعاية الإلهية إكتسب الكثير من صفات وشمائل المصطفى الشخصية حيث قال فيه المولى جل وعلا:

* وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * (القلم: 4)
ستجد الكثير مثل ذلك، يبارك الله فى شمائل المصطفى الشخصية ويمدح بمعزل عن الرعاية الإلهية، تلك التى إكتسبها مع التنشئة والتربية، كقوله جل شأنه فى إبراهيم عليه السلام:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّـهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * (النحل: 120)
وقوله فى إسماعيل عليه السلام:

* وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚإِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * (مريم: 54)
      مع محمد، عليه الصلاة والسلام، رتب سبحانه الأسباب بدأا من العامل الفردى إلى حمل الرسالة، فقال:

* وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * (النجم: 1 – 4)
شهد له الخلاق العليم ونفى عنه الضلال والغى، من شمائل المصطفى ومكون من مكونات العامل الفردى، وبعد الإنبات والتنشئة ورعاية الله عاد لا ينطق عن الهوى، إنما ينطق بالحق وحمل الرسالة الربانية. كأن الآية الكريمة تستدعى الإصطفاء من مبتداه إلى منتهاه. أن فيه صلى الله عليه وسلم شمائل الإصطفاء التى إكتسبها من الذرية الصالحة ومع الإنبات والتنشئة ثم رعاية الرحمن الرحيم، فحمله تعالى الرسالة الخاتمة عندما بلغ أشده فى تكليف النبوة، وأجمل مسببات الإصطفاء فى قوله الحكيم العليم:

* وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ * (آل عمران: 144)
ليس له مثيل من قبله فى إجمال شمائل الإصطفاء، المكونات الفردية والمجتمعية، ولا من بعده فهو خاتم النبيين، صلوات الله عليه وسلامه إلى يوم يبعثون. والله أعلم.
مما سطره فيلسوف الشعراء وأميرها أحمد شوقى عن شمائل نبى الإسلام، عليه الصلاة والسلام، فى قصيدته "ولد الهدى":

ولد الهدى فالكائنات ضياء                 ***        وفم الزمان تبسم وسناء
الروح والملأ الملائك حوله                 ***        للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو والحظيرة تزدهى          ***        والمنتهى والسدرة العصماء
--------------
يامن له الأخلاق ما تهوى العلا            ***       منها وما يتعشق الكبراء
زانتك فى الخلق العظيم شمائل         ***       يغرى بهن ويولع الكرماء
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى        ***       وفعلت ما لا تفعل الأنواء
--------------
وإذا عفوت فقادرا ومقدرا                ***         لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب               ***        هذان فى الدنيا هما الرحماء
وإذا خطبت فللمنابر هزة                 ***        تعرو الندى وللقلب بكاء
--------------
وإذا أخذت العهد أو أعطيته              ***        فجميع عهدك ذمة ووفاء
يا من له عز الشفاعة وحده              ***        وهو المنزه ماله شفعاء
لى فى مديحك يا رسول عرائس        ***         تيمن فيك وشاقهن جلاء

 

      إلى هنا فقد تناولنا بإقتضاب ثلاثة مكونات من العامل الفردى، الذرية ثم الإنبات والتنشئة فالرعاية الإلهية، تحتاج إلى تحقيق أكثر. الإمام فخر الدين الرازى، رحمه الله، بنظره المتفرد فى تفسيره "مفاتيح الغيب" قارب معنا فى تناول المسألة من حيث المكونات الفردية:

< المسألة الثانية: { ٱصْطَفَى } في اللغة اختار، فمعنى: اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه، تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة، ويقال على ثلاثة أوجه: صفوة، وصفوة وصفوة، ونظير هذه الآية قوله لموسى:
إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي } [الأعراف: 144]
وقال في إبراهيم:
وَإِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ ٱلاْخْيَارِ } [ص: 47].
إذا عرفت هذا فنقول. في الآية قولان الأول: المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم، ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني: أن يكون المعنى: إن الله اصطفاهم، أي صفاهم من الصفات الذميمة، وزينهم بالخصال الحميدة، وهذا القول أولى لوجهين أحدهما: أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني: أنه موافق لقوله تعالى:
{
 ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالته }>
أولا: ليس صائبا أن مسببات الإصطفاء هى أن يجعلهم صفوة، قوله: "
اصطفاهم، أي جعلهم صفوة خلقه"، إنما ينقصه تتابع الأسباب، أن مسببات الإصطفاء تبدأ بحمل الرسالة وهو الأصل فى الإصطفاء، لا أن يجعلهم صفوة دون هذا الغرض، فتناقصت السببية عنده.

ثانيا: توافق معنا على المنطوق بإستبعاد مناط الإصطفاء أن يكون عقيديا، بدءا من قوله: "أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح"، إلى قوله: "أنا لا نحتاج إلى إضمار". بينا إرتأينا أن الباب العقيدى ليس فى مفردات الإصطفاء فى الآية الكريمة وقد إستبعد الإضمار لإثباته، إنما ثابت فى قوله: "وَاللَّهُ سَمِيعٌ"، وثابت على أصل الإصطفاء غير مثبت فى المنطوق، أن الإصطفاء سببه حمل التكليف، وحمل التكليف من العقيدة، كما هو ثابت بالدلائل المنفصلة التى ذكرها مثل قوله تعالى مع موسى، عليه السلام: "إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي"، لا شبهة فيه.
ثالثا: أنه حمل  الرعاية الإلهية أسباب الإصطفاء، ثم دلل عليها، بينا نحن نحمل الرعاية على أصل الإصطفاء وهو حمل تكليف الرسالة. فمتى تقرر الإصطفاء تبعته الرعاية الإلهية، التى دلل عليها فيما تلى من أقواله:

< وذكر الحليمي في كتاب «المنهاج» أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مدركة، وإما محركة. أما المدركة: فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها: القوة الباصرة، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: "زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها". والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: " أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى:
{
وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ} [الأنعام: 75] >.
..إلى آخر ما ذكر من دلائل، متفقين معه على تباين الشمائل بين المصطفين الأخيار، صلى الله عليهم وسلم، التى بثها جلت قدرته فيهم من باب الرعاية الإلهية متوائمة مع وبغرض حمل التكليف بكفاءة، الإصطفاء على مسبباته ومترتباته. لم ينظر الرازى ولا غالبية النظار فى عوامل ومكونات الإصطفاء بهذا المنهج والتقسيم فيه الذى إتبعناه معولين على معطيات الذكر الحكيم فى المنهاج ومثانيه، وبخاصة العامل المجتمعى، أشرنا إليه ونفصل عليه فيما بعد بإذن الرحمن الرحيم. منه التفرقة والتمييز بين مدلول لفظ "منهج" البحث ولفظ"منهاج" الله فى تنزيله وقوله: "
شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا"، فالبون شاسع بينهما، سنفرد له مقاما فيما بعد بإذنه المستعان. والحمد لله رب العالمين، هو الهادى والموفق إلى صراطه المستقيم.
      إلى مناسبة أخرى بإذنه تعالى، كل عام وأنتم وأمة الإسلام فى خير وسلام، وقاها الله شرور الحاقدين والطامعين، هو نعم المولى ونعم النصير ونعم السميع المجيب.
      مسك الختام، كلمات الملك القدوس السلام:

*إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *

عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام إلى يوم يبعثون.

-----------------------------
الإنشاء: [
Minhageat.com]

الحاج مالك الشباز أو MALCOM X

الحاج مالك الشباز أو MALCOM X منهاجيات Tue, 08/06/2019 - 13:19

بسم الله الرحمن الرحيم:

﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ، فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فلا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ (البقرة: ١٩٧)

 

 

 

ماذا تعرف عن الحاج مالك الشباز أو مالكولم إكس؟: الموقع.

< هناك في الحج بعدما تعرف مالكوم على الإسلام - وكيف ينادي بالمساواة بين الأعراق، تخلى مالكوم عن اعتقاده بأن البيض شياطين وعقب ذلك أسس منظمة أسماها مؤسسة المسجد الإسلامي وأخرى حملت اسم منظمة اتحاد الأفارقة الأميركيين وأخذ يتجه بأفكاره نحو الاشتراكية محاولاً في هذه المنظمة الأخيرة أن يجد أرضية مشتركة للنضال تضم جميع المناضلين السود. وعلى الرغم من سعيه إلى الابتعاد عن النزاع مع منظمة أمة الإسلام إلا أن خصاما علنيا نشب بين الطرفين فيما بعد، وأمرته المنظمة بإخلاء بيته لأنه ملك لها[2]، فنذر نفسه للدعوة إلى الإسلام الحقيقي وحاول تصحيح مفاهيم جماعة أمة الإسلام الضالة المضلة، فقوبل بالعداء والكراهية منهم وبدءوا بمضايقته وتهديده فلم يأبه لذلك، وظل يسير في خطى واضحة راسخة يدعو إلى الإسلام الصحيح الذي يقضي على جميع أشكال العنصرية.[6] صاغ بعد عودته أفكاراً جديدة تدعو إلى الإسلام الصحيح أو الإسلام اللاعنصري وأخذ يدعو إليه ونادى بأخوة بني الإنسان بغض النظر عن اللون ودعا إلى التعايش بين البيض والسود لذلك هاجموه وحاربوه، وأحجمت الصحف الأمريكية عن نشر أي شيء عن هذا الاتجاه الجديد، واتهموه بتحريض السود على العصيان فقال: «عندما تكون عوامل الانفجار الاجتماعي موجودة لا تحتاج الجماهير لمن يحرضها وإن عبادة الإله الواحد ستقرب الناس من السلام الذي يتكلم الناس عنه ولا يفعلون شيئاً لتحقيقه»

المنصة التي اغتيل عليها مالكوم إكس، ويظهر في الخلف على الحائط بعض الطلقات التي اخترقت جسده.

      بتنامي الخلافات بين مالكوم ومنظمة أمة الإسلام، قامت المنظمة بإعطاء أوامرها بقتل مالكوم إكس، وفي 14 شباط/فبراير 1965 قامت مجموعة بإضرام النيران في بيت مالكوم إلا أن النجاة كتبت له ولعائلته من النيران.[7] وفي الحادي والعشرين من نفس الشهر الموافق 18 شوال1384 هـ صعد مالكوم إلى المنصة في قاعة مؤتمرات في مدينة نيويورك ليلقي محاضرة ويدعو إلى الإسلام، وخلال المحاضرة نشبت مشاجرة مفتعلة في الصف التاسع بين اثنين من الحضور، فالتفت الناس إليهما،[12] وحاول الحراس الشخصيون لمالكوم السيطرة على الوضع، فاقترب رجل من المنصة وأطلق النار على مالكوم وأصابه في صدره وبعدها تقدم رجلان آخران من المنصة وأمطروا مالكوم بوابل من النيران فأردوه قتيلاً.[7] أصيب مالكوم بست عشرة رصاصة في صدره فتدفق الدم بغزارة من جسد هذا الداعية ليلقى مصرعه على الفور. تم القبض على القتلة الذين اتضح بعد ذلك أنهم من رجال منظمة أمة الإسلام ولكنهم أنكروا أن يكونوا قد تلقوا أوامر من إليجا محمد بقتل مالكوم إكس، وقالوا أنهم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم فلم يُدَن إليجا محمد بشيء.[12] كانت وفاة مالكوم إكس نقطة تحول في سير حركة أمة الإسلام حيث تركها الكثيرون والتحقوا بجماعة أهل السنة وعرفوا دينهم الحق، وتغيرت كثير من أفكار جماعة أمة الإسلام خاصة بعد رحيل إليجا محمد وتولية ابنه والاس محمد الذي تسمى بوارث الدين محمد فصحح أفكار الجماعة وغير اسمها إلى "البلاليين" نسبة إلى الصحابي بلال بن رباح، وجعل المسلمين السود الأمريكيين أقرب ما يكونوا إلى تيار الإسلام الوسطي وكان كل ذلك صدى لأفكار ودعوة الداعية مالكوم إكس الذي خر صريعًا للدعوة إلى دين الله.[12]  >

المصدر: الويكيبيديا.

      أغتيل "الحاج مالك الشباز" بأيدى آثمة بعد أن صحح الحج إعتقاداته فى الإسلام وغير من نظرته للعالم من حوله. كما أغتيل "مارتن لوثر كنج"، كليهما كنتيجة لحربهما ضد التفرقة العنصرية. ثم أخيرا وبعد قرون من المعاناة من جراء قسوة البيض وصلفهم، وبعد أن كان السود معول البناء للقوة العظمى بالعبودية، جاء "باراك أوباما" الأسود (الأفروأميركان، لأب إفريقى مسلم وأم أمريكية بيضاء مسيحية) ليسكن البيت الأبيض. حدث تاريخى فى الولايات المتحدة الأمريكية بعد صراع مرير ضد العنصرية وتاريخ أسود للسود. علامة تاريخية بعد الحرب الأهلية وتحرير العبيد وحرب الإستقلال ضد الإستعمار الإنجليرى. لامناص من ذكر البطلين كعنوان له، وكركن ركين فى الإسلام. وليشهد ثلاثتهم بأن بضاعة الإسلام هى تحرير البشر من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، هى السلام بين بنى البشر، شرقا وغربا، بيضا وسودا، لا فرق بينهم كما جاء بحديث خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم: "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربى ولا أعجمى ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى"، شاهده الحج. وقال خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه: "متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، بما يعنى أن الله قد خلفهم أحرارا، وقد قال الغفور الرحيم:

♣ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ♣ ﴿الحجرات: ١١﴾

لقد ولدتهم أمهاتهم متساويين أحرارا، يحجون لبيت الله الحرام مكة المكرمة فى مثل هذه الأيام من كل عام (التوقيت الهجرى)، حين يشد الحجيج الرحال يأتين من كل فج عميق، شتى بقاع الأرض، متجردين من عتاد الدنيا وزينتها فى زى الإحرام الموحد، يعبدون الواحد الأحد الفرد الصمد، لا شريك له ولا ولد. وليشهدوا بأن وعد الله حق. وأن الساعة لاريب فيها، قوله تعالى:

♠ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ♠ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ♠.

وأن الله غالب على أمره حيث قال: 

♠ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّـهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّـهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ♠ 

متم لنوره على أرضه وفى سمائه، ولو كره كل من فى الأرض، يتمه على سنة الله ورسله وأنبيائه صلى الله عليهم وسلم.

مسك الختام قول الملك القدوس السلام:

* فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَـٰكَذَا عَرْشُكِ ۖ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ۚ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ *

صدق الله العظيم

 

-----------------------------

 

حجة الفداء فى عيد الأضحى المبارك.

حجة الفداء فى عيد الأضحى المبارك. منهاجيات Thu, 08/08/2019 - 10:58
 بسم الله الرحمن الرحيم:
 
* وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ ۚ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖسَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّـهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ * كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * (الصافات 99 - 110)
صدق الله العظيم
فى المناسبة عدة مسائل:
الأولى: كى يهديك الله فعليك أن تذهب إليه جل فى علاه. وأن تذهب إليه هو أن تكون إليه قريب كما هو أقرب إليك من حبل الوريد، بقلب مفعم بالإيمان والتقوى و بالأعمال الصالحات. قوله تعالى: "إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ".
الثانية: عندما تكون إلى الله قريب فليست الجائزة الهدى فقط، إنما الإستجابة للدعاء أيضا. فلما دعا إبراهيم عليه السلام أن يهبه الله الذرية الصالحة أستجيبت دعوته فى قوله تعالى: " فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ".
الثالثة: الموعظة الأعظم فى التربية، أن إبراهيم عليه السلام نبى الله يستشير إبنه فيما يفعله، وإن كان ما سيفعله فى مرتبة الأمر من الله. على الجانب الآخر إمتثال الإبن لأبيه ولأمر الله، طاعة الله فى الحق عمياء فى رقبته. هل رأيتم فيما قيل: "إن كبر ابنك خاويه"، وقال الحكيم العليم: " فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ"، تحتمل سن السعى على الرزق, قيل فى الروايات أنه كان فى حوالى الثانية أو الثالثة عشر من العمر. فى الرابعة عشر سن الحلم، وهو الأكثر تماشيا مع معطيات الذكر الحكيم.
الرابعة: هنا مشكل: أنه لا خلاف على أن الوحى من أمر الله وأمر من الله كليهما، لكن كيف تكون الرؤيا أمر من الله؟ المسألة فى التأويل، فى سورة يوسف هناك رؤيا وهناك تأويل لها، إنما المتقدم فى السورة تعليم تأويل الأحاديث. قال العلماء فى ذلك الكثير. شبه الإجماع على أن الرؤيا فى القرآن الكريم ليست من المحكم ويلزم لها التأويل. على الأرجح كان هذا أساس الفداء، فلم تكن الرؤيا على الحقيقة أمرا أو نهيا فى الشريعة وأمرا من الله، وإن كانت من أمر الله وحجته البالغة. دليل ذلك أن الله لا يأمر بالذبح بغير جريرة تعالى جل شأنه عن الظلم، قال بذلك المتكلمون وذكره الرازى فى تفسيره "مفاتيح الغيب"، دلائله كثر. فى ذلك قوله تعالى: "إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ"، أن يذبح نبى الله بغير جريرة فهذا بلاء عظيم. دليله قول الحكيم العليم:
* ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ  *(البقرة:  61)
الخامسة: مقارنة تربوية داخلة فى حجة الفداء. فلنقارن بقتل الغلام مع موسى والخضر عليهما السلام فى سورة الكهف، والذى خشى أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا، قوله تعالى:
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * (الكهف: 80).
ألم تر أن الخضر عليه السلام قال "خشينا" ولم يقل "خشيت"؟
 من هنا كان الفداء لنبى الله إسماعيل عليه السلام، الذى عنه قال تعالى:
* وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * ﴿مريم: ٥٤﴾
هنا إسماعيل عليه السلام فى بنوة ونبوة وهناك فى الكهف غلام فى عقوق وطغيان وكفر. هنا رؤيا وهناك واقع اليقظة، فكان الفداء، الحجة والموعظة.
ولنقارن مع قصة نوح عليه السلام وابنه الذى لم يستمع إلى نصح والده أن يركب الفلك معهم للنجاة من الطوفان، وهى الفلك التى حملت "المثانى"، فكان من المغرقين. قال العليم الحكيم:
* وَنَادٰى نُوۡحُ اۨبۡنَهٗ وَكَانَ فِىۡ مَعۡزِلٍ يّٰبُنَىَّ ارۡكَبْ مَّعَنَا وَلَا تَكُنۡ مَّعَ الۡكٰفِرِيۡن * قَالَ سَاٰوِىۡۤ اِلٰى جَبَلٍ يَّعۡصِمُنِىۡ مِنَ الۡمَآءِ‌ؕ قَالَ لَا عَاصِمَ الۡيَوۡمَ مِنۡ اَمۡرِ اللّٰهِ اِلَّا مَنۡ رَّحِمَ‌ۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا الۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ الۡمُغۡرَقِيۡنَ * وَقِيۡلَ يٰۤاَرۡضُ ابۡلَعِىۡ مَآءَكِ وَيٰسَمَآءُ اَقۡلِعِىۡ وَغِيۡضَ الۡمَآءُ وَقُضِىَ الۡاَمۡرُ وَاسۡتَوَتۡ عَلَى الۡجُوۡدِىِّ‌ وَقِيۡلَ بُعۡدًا لِّـلۡقَوۡمِ الظّٰلِمِيۡنَن * وَنَادٰى نُوۡحٌ رَّبَّهٗ فَقَالَ رَبِّ اِنَّ ابۡنِىۡ مِنۡ اَهۡلِىۡ وَاِنَّ وَعۡدَكَ الۡحَـقُّ وَاَنۡتَ اَحۡكَمُ الۡحٰكِمِيۡنَ * قَالَ يٰـنُوۡحُ اِنَّهٗ لَـيۡسَ مِنۡ اَهۡلِكَ ‌ۚاِنَّهٗ عَمَلٌ غَيۡرُ صَالِحٍ ‌‌ۖ  * (هود 22 - 26). 
عصى الإبن أباه أن يجاهد معه فى سبيل الله وإختار أن يكون مع الكافرين، فكان من  المغرقين، هو حكم الله فى اليقظة لا الرؤيا، قوله: "وَاَنۡتَ اَحۡكَمُ الۡحٰكِمِيۡنَ"، لم يشفع له أنه إبن نبى الله، قوله: "رَبِّ اِنَّ ابۡنِىۡ مِنۡ اَهۡلِىۡ": لجأ الإبن إلى الطبيعة لتعصمه من أمر الله، كيف وهو الخلاق العليم؟ جاءته النصيحة فى قوله: " لَا عَاصِمَ الۡيَوۡمَ مِنۡ اَمۡرِ اللّٰهِ اِلَّا مَنۡ رَّحِمَ‌ۚ "، ولم تصبه الرحمة فى جانب الكفر وهو إبن نبى الله، فقد أرسل الله الطوفان عقابا للكافرين ولينجى نوح عليه السلام ومن معه والمثانى أيضا، قوله تعالى:
* قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ * (هود)
هنا أيضا من الحجة البالغة لم كان الفداء فى الأضحى المبارك. وليكن عيدا للفداء وطاعة الله، وطاعة  الوالدين فى الحق والإستماع لنصائحهما فطاعتهما من الإيمان، إلا إذا غويا على الشرك، قول الرؤوف الرحيم:
* وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا * (العنكبوت: 8).
وقال:
* وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا * (لقمان: 15).
كررت مرتين، إشارة للمثانى، وقصة سفينة نوح عليه السلام فى اليقظة وبالوحى هى الإنقاذ لسنة الله الرئيسية فى الكون والحياة، المثانى أيضا. تعجب وتأمل، ستجد أن طاعة الوالدين فى الحق من الإيمان، الحجة فى فداء الأضحى.
وعليه كانت الرؤى فى الذكر الحكيم يلزمها التأويل، جاز على رؤيا الأنبياء، مثار الخلاف بين جمع من العلماء. وليس من المعقول أن نساوى بين حال المنام وحال اليقظة أو بين الرؤيا والوحى فى سبل البيان والإستدلال والتأويل، وإلا أن تنطمس معالم الحدود بلا فرقان، نستغفره ونتوب إليه جلت حكمته، فهنا مثال للفرقان فى القرآن ، تمييزا للحدود.
السادسة: المعنى بالصدق فى الرؤيا من حيث الرواية من جهة، ومن جهة أخرى التصديق بها وتفعيلها، قوله جلت حكمته: "فلما تله للجبين". لا يتعارض هذا الصدق مع لزوم التأويل للرؤيا، كما هى الحال مع رؤيا يوسف عليه السلام التى لم يكن السجود فيها للكواكب وللشمس والقمرعلى الحقيقة مع الصدق فى الرواية، إنما الإخوة والوالدين. مثله أن رؤيا إبراهيم عليه السلام لم تكن على الحقيقة أمرا من الله تعالى بذبح الإبن الصالح البار، الصادق الوعد، لذا كان الفداء وعيد الأضحى المبارك إحتفاءا بها. والله أعلم.
أما قوله تعالى:
* لَّقَدْ صَدَقَ اللَّـهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّـهُ (الفتح: 27).
فقد احتج به فى أن رؤيا الأنبياء من الصدق والحقيقة بحيث لا تفتقر إلى التأويل. وهذا فى نظرنا ليس دقيقا من جهة أن هذه الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تتحول إلى حقيقة إلا بأمر الله، المقصد فى قوله: "صَدَقَ اللَّـهُ" و"بِالْحَقِّ"، دليل ذلك قوله تعالى مع رؤيا يوسف عليه السلام:
* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا (يوسف: 100).
وبها تفسير قوله "بِالْحَقِّ" مع رؤيا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام. والقرآن يفسر بعضه بعضا أكثر بيانا فى المنهاج وأدواته. ما يؤيد ما ذهبنا إليه. ففى رؤيا يوسف عليه السلام علمه الله التأويل، لأنه إن كان للكواكب والشمس والقمر أن تسجد لاحد فليس إلا الله الواحد القهار. فى رؤيا إبراهيم عليه السلام ناداه ربه ليصلح وكان الفداء بعد أن صدقها نبى الله. هنا فى رؤيا المصطفى عليه الصلاة والسلام جعلها الله حقيقة واقعة بإرادته. فى كل الأحوال كان الله  تعالت حكمته معقبا بالإصلاح أو التصديق، مثلما قال جل ذكره:
قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا (البقرة: 144).
لم يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بها، فهى بمثابة رؤيا فى اليقظة، وكانت الإستجابة تحولت إلى حقيقة رؤيا العين، من باب التأييد للرسالة الخاتمة إلى أن يتم الله نوره بالحق. ربما كان هنا فارق بين رؤيا الأنبياء ورؤيا الرسل عليهم الصلاة والسلام. والله أعلم. من فضله الهدى وبه التوفيق.
الموعظة: عند الفداء أو النذر، أيما كان، أدعوا ربكم تضرعا وخفية مخلصين له الدين أن يهبكم الذرية الصالحة، وأن يصلح لكم فى ذريتكم، هو نعم السميع المجيب.
فى سورة إبراهيم قال تبارك وتعالى:
وَاِذۡ قَالَ اِبۡرٰهِيۡمُ رَبِّ اجۡعَلۡ هٰذَا الۡبَلَدَ اٰمِنًا وَّاجۡنُبۡنِىۡ وَبَنِىَّ اَنۡ نَّـعۡبُدَ الۡاَصۡنَامَ * رَبِّ اِنَّهُنَّ اَضۡلَلۡنَ كَثِيۡرًا مِّنَ النَّاسِ‌ۚ فَمَنۡ تَبِعَنِىۡ فَاِنَّهٗ مِنِّىۡ‌ۚ وَمَنۡ عَصَانِىۡ فَاِنَّكَ غَفُوۡرٌ رَّحِيۡمٌ * رَبَّنَاۤ اِنِّىۡۤ اَسۡكَنۡتُ مِنۡ ذُرِّيَّتِىۡ بِوَادٍ غَيۡرِ ذِىۡ زَرۡعٍ عِنۡدَ بَيۡتِكَ الۡمُحَرَّمِۙ رَبَّنَا لِيُقِيۡمُوۡا الصَّلٰوةَ فَاجۡعَلۡ اَ فۡـٮِٕدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهۡوِىۡۤ اِلَيۡهِمۡ وَارۡزُقۡهُمۡ مِّنَ الثَّمَرٰتِ لَعَلَّهُمۡ يَشۡكُرُوۡنَ * رَبَّنَاۤ اِنَّكَ تَعۡلَمُ مَا نُخۡفِىۡ وَمَا نُعۡلِنُ‌ ؕ وَمَا يَخۡفٰى عَلَى اللّٰهِ مِنۡ شَىۡءٍ فِى الۡاَرۡضِ وَلَا فِى السَّمَآء * اَلۡحَمۡدُ لِلّٰهِ الَّذِىۡ وَهَبَ لِىۡ عَلَى الۡـكِبَرِ اِسۡمٰعِيۡلَ وَاِسۡحٰقَ‌ؕ اِنَّ رَبِّىۡ لَسَمِيۡعُ الدُّعَآءِ‏ * رَبِّ اجۡعَلۡنِىۡ مُقِيۡمَ الصَّلٰوةِ وَمِنۡ ذُرِّيَّتِىۡ‌‌ ۖ  رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَآء * رَبَّنَا اغۡفِرۡ لِىۡ وَلـِوَالِدَىَّ وَلِلۡمُؤۡمِنِيۡنَ يَوۡمَ يَقُوۡمُ الۡحِسَابُ (إبراهيم: 35 - 41).
آمين يا رب العالمين. وكل عام وأنتم وأمة الإسلام فى سؤدد وسلام بإذن الرحمن الرحيم.

رمضانيات 1440 هجرية.

رمضانيات 1440 هجرية. منهاجيات Tue, 05/14/2019 - 12:21

بسم الله الرحمن الرحيم: * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ * صدق الله العظيم

الموضوعات:

(2) ملابسات آذانى الفجر.

(2) ملابسات آذانى الفجر. منهاجيات Tue, 05/14/2019 - 13:04

حجة الآذانين تعتمد على الحديث الشريف، عن النبي ﷺ أنه قال: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم"، ومعناه - هلى قدر فهمنا للحديث - أن ذلك فى رمضان فقط حيث يعتبر الأذان الأول نداءا للسحور، والنانى للإمساك. فسبب الأول هو الأكل والشرب، فالكف عنه مع الثانى.
والله أعلم.

رمضاء الصيام، باب الهدى والإستجابة.

رمضاء الصيام، باب الهدى والإستجابة. منهاجيات Mon, 05/06/2019 - 14:48

بسم الله الرحمن الرحيم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖوَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖفَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *  [البقرة: 184 - 6]

صدق الله العظيم

رتب جل ذكره عدة مسائل فى الصيام: الآية الأولى بدأت بالعموم، أن منهاج الله واحد وشرعته واحده فى الرسالات السماوية، أمر فيها بالصيام، من هذا العموم خصص فى الإسلام أيام معدودات، الزمان والمدة والكيفية. فالتدليل على ثنائية "العام والخاص". ولأن رمضان من الرمضاء فقد ثبتت المشقة، عليها رخص جلت رحمته لعباده. جريا على ثنائية "الإختيار والجبر"، ففرض الصيام من الجبر بفرض الإيمان، أما الترخيص بالإفطار ففيه الإختيار المرشد "خَيْرٌ لَّكُمْ" دون تفريط. فى الآية الثانية أورد  جلت حكمته الفضائل والأسباب، ثم تناول الترخيص مرة ثانية تخفيفا للمشقة على العباد. التثنية تفيد أن فى المنهاج إستثناء وترخيص مثل الشرعة. من جانب آخر فإن الترخيص فى الشرعة واجب فقهيا أن تجرى مسائله ومسالكه منضبطة إلى المنهاج ومثانيه، ما هو تكييف الشرعة بالمنهاج فيما فيه خلاف. لأن فى ذلك يسر على العباد فى حمل التكليف، بلا إفراط أو تفريط.

على أن فى الصيام حكمة أساسية، إذا تقرب العبد إلى ربه بالعبادة الصحيحة، كان المردود دنيويا متعدد الجوانب. أن فى رمضان يكون الهدى من الله أكثر، حيث يفرغ العبد من النزوات والشهوات. الجانب الثانى فى المردود هو الإستجابة للدعاء، فهى أقرب مع قرب العبد من ربه، أكثر قربا فى الصيام. فمن فوائد الصيام فى الإعتقاد فتح أبواب الهدى والإستجابة، بإذنه تعالى، لعلكم تشكرونه جل شأنه على فرض الصيام، يريد بكم اليسر.

شعبان فى بينية، مطابقة بين المنهاج والحديث.

شعبان فى بينية، مطابقة بين المنهاج والحديث. منهاجيات Tue, 04/09/2019 - 13:22

      يعلم المسلمون أن السنة شارحة للشرع ومبينة له بالتطبيق، والمستقر عليه أن لا تعارض بين الأحاديث الشريفة وبين القرآن الكريم، إنما ذلك فى الشرعة والإعتقاد، ثابت بالدلالة القطعية وقول الرؤوف الرحيم جل ذكره:

*وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُفَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا * (الحشر: 7)

لأنه بعلمه الأجل يعلم ما يجئ به الرسول من حكمة فى جماع كلم رسول أمى عليه الصلاة والسلام، ولما كان إصطفاؤه. كما يعلم علماء الإسلام مدى الجهد والإجتهاد فى تحقيق الأحاديث الشريفة، علوم شتى ما هى إلا سبيل اليقين فى التشريع، فيتحدثون عن الإسناد والآحاد والمتفق عليه والحسن والغريب والموقوف والمرفوع...الخ، أهل الحديث أهل لها. ولما كان المنهاج بكرا فلا نرى بقدر بحثنا فى الموضوع من عمد إلى محاولات للبرهنة على أن المنهاج فى الأحاديث الشريفة  مطابق للمنهاج فى القرآن الكريم شارح له مثله مثل الشرعة سواء بسواء. وإن كان ليس هناك من شك فى ذلك مدلول الآية الكريمة، إنما الأهمية فى تبيان الحق الذى لم يستبين بعد فى تأسيس المنهاج والنظر فى قضاياه. بل قد قلنا بأن المنهاج يمكن أن يكون طريقا من طرق تحقيق الحديث، فإن كان تطابق إرتفع الشك فى الرواية والإسناد، وكان الحسن وصفا.

      لقد سبق أن ذكرنا مثال لذلك فى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ما كثيره مسكر فقليله حرام"، ما يطابق المنهاج على المثانى فى ثنائية الكيف والكم بتقديم الكيف، مثالها قول العليم الحكيم:

كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * ﴿البقرة : ٢٤٩

فالتحريم فى الحديث الشريف على الكيف أصلا ومن ثم الكم تبعا، تطابق واضح، إثباتا للنبوة والإصطفاء. فإن كان التحريم على الكم لم يلزم تحريمه على الكيف، ولم يكن من يقين فى الكم وكانت شبهات وخلاف وتشيع.

      فى شهر شعبان دليل آخر على هذا التطابق فى المنهاج بين الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، قول خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَان , وَهُوَ شَهْر تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَال إِلَى رَبّ الْعَالَمِينَ ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ". المنهاجية هنا معنى من معانى وسطية الإسلام التى هى فى الحقيقة وسطية كينونة وكيفية، نعنى بخلاف الكيف فى هذا المقام، بقدر ماهى فى المصير والمآل والتفعيل، نقصد بها التدرج فى الوسائل، ليس من حيث الوسيلة المادية ولكن من حيث كيفية إدارة الوسائل، منهجها وطرقها. المسألة هنا بسيطة أنه من المفضل على منهاج الإسلام ألا تنتظر رمضان وتصوم فجأة فى يوم وليلة مع ما فى ذلك من إجهاد فى نواحى كثيرة، جسمانية ونفسية، يترتب عليها ضرر ربما كان مرئيا محسوسا، وربما كان طويل الأجل فى النتائج الغير مرغوب فيها صحيا. إن قلنا كان صيام رمضان بعد عام من الإفطار كالصدمة للبدن والنفس، كان ذلك صائبا إلى حد بعيد. المهاجية إذن هى التدرج، تأويل قول الرسول عليه الصلاة والسلام "بين رجب ورمضان". "بين" هنا ليست وسطية كينونية أو زمانية أو كيفية، إنما التدرج فى الكيفية والطريقة. أن تدرب نفسك على الصيام فى شعبان، بعض منه، حتى لا يكون الصيام فى رمضان مثل الصدمة المفاجئة للبدن والمعدة بوجه خاص، من قبيل دفع الضرر.

      المنهاجية ثابته الدلالة فى الذكر الحكيم من عدة وجوه ومن عدة طرق وفى عدة مناطات، حتى إكتسبت صفة العموم فى منهاج الإسلام، وحتى أننا نعدها صفة من صفات وسطية الإسلام من طريق الكيفية. فوسطية الإسلام على منهاج المثانى بحر واسع لا نرى له برورا فى الوقت الراهن. أول الأدلة فى مسألتنا وحاكمها وعامها قول الرؤوف الرحيم:

* وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * (المدثر: 14)

      التمهيد والإعداد فى الوسائل والكيفية، الخطوات والطريقة. المعنى مبسوط لغويا لا يحتاج إلى تأويل، فبات قاطعا فى هذه المسألة. الذى يحتاج التأويل هو المفعول المطلق "تمهيدا"، ففيه تثنية المثانى. يدل من وجه آخر على أن التمهيد فى المفعول المطلق غير التمهيد فى الفعل، وإن كان من جنس الفعل، قلنا فيه من قبل مع قوله تعالى:

* وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * (المزمل: 4)

أن هناك فارق بين الترتيل فى الفعل والترتيل فى المفعول المطلق، أعلى مرتبة فى التفعيل، أو إن شئت قلت مضاعفة الفعل، فيكون الترتيل الثانى المعنى به هو التجويد، مع ما فى الفارق بين الترتيل والتجويد فى تفعيل القراءة، الذى يدل على الفارق فى المدلول بين الفعل والمفعول المطلق. دأب المفسرون والنحويون على إعتبار المفعول المطلق تأكيدا للفعل، لكنه فى المنهاج بمرتبة مختلفة. مثله قوله تبارك وتعالى:

 * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *  ﴿مريم: ٩٤﴾

ليدل المفعول المطلق "عَدًّا" على الإحصاء، أعلى مرتبة فى العد من مجرد العمليات الحسابية العادية. من عداد قانون التأويل المجازى النحوى فى المنهاج. هنا أيضا فى التمهيد والإعداد للساريات من الأمور والأعمال والمخططات. فإن قلنا أن التمهيد الأول هو فى الوسائل المادية، كان التمهيد الثانى فى الكيفية والخطوات والطرائق.

      إن أردت التمهيد ب "الفعل" لرمضان، فربما مهدت له بالولائم و"المكسرات" مما إعتاد عليه المسلمون وما شابه من أنواع المأكولات التى تساعد على صيام أقل فى المشقة، كأن تتناول فى السحور أنواع الغذاء التى تدوم لمدة أطول فى المعدة، ليست تحايلا وليس من تحريم فى ذلك، لأن التكليف فى عمومه ترتفع عنه المشقة، المنبع للرخص فى الشرع. أو أن تعد نفسك فى الأعمال بتحديد الأوقات وتغيير المواعيد لتتناسب مع حال الصيام، مع ما يترتب عليه من نتائج إختزال القدرات، أو الفتور البدنى فى بادئ الأمر، وإن كنا لا نقول به، فكم من إنتصارات للإسلام حدثت فى الشهر الكريم مثل بدر والعاشر من رمضان، إنما المقصود التغيير فى كيفية العمل مع التحول من حالة الإفطار إلى حالة الصيام.أما التمهيد بالمفعول المطلق"تميهدا" فهو المقصود فى الحديث الشريف، أن تصوم بعض من شهر شعبان. والله أعلم.

      تأكيد المنهاجية فى حديث عائشة رضى الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان" (متفق عليه). أما حديثها رضى الله عنها: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله". وفي رواية: "ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلاً"، ففي الرواية شك أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كاملا، لأن فى ذلك تعارض مع البينية فى الحديث الأول. البينية تعنى بين الإفطار والصيام، وبينهما البعض وليس الكل. فلو كان صيام شعبان كله إنتفت الحكمة فى البينية وفى منهاجية التدرج من حيث الأصل.

      أحد الشيوخ الأفاضل أصاب القول فى التأويل والتفسير للحديث الشريف عن البينية فقال:

< وشهر شعبان كالمقدمة لشهر رمضان شرع فيه ما يشرع في شهر رمضان على جهة الاستحباب من الصيام، وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي شهر رمضان المبارك وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن فيكون ذلك كالتمرين على صيام رمضان، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لم يكن النبي (صلى الله عليه وسلم) يصوم من شهر أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله" (متفق عليه).>

المصدر: Sunnah.org

-------------------------

       لكن المتكلم لم يصب فى إختيار حديث عائشة رضى الله عنها كتفسرة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن فى حديثها هذا شك، يعارض ما قاله هو ويتعارض مع فحوى الحديث عن البينية فى شعبان. فإن وقف حديثها عند قولها رضى الله عنها "يصوم من شهر أكثر من شعبان"، لم يكن من شك لأنه بذلك يرتفق والمنهاجية فى البينية ويؤيد تأويل الحديث الشريف الذى قال به هو نفسه معقولا، تحول من معقول إلى متعارض.

      منهاجية التدرج فى الأمور والإعداد لها دلائلها كثر فى الذكر الحكيم، إستيفاؤها على أصولها يجئ مع حديث الوسطية، إلا أننا نذكر منها قول العادل الحكيم:

* نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ * ﴿البقرة: ٢٢٣﴾

قال فيها القرطبى رحمه الله:

< الرابعة ـ قوله تعالىٰ: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي قدّموا ما ينفعكم غداً؛ فحذف المفعول، وقد صُرِّح به في قوله تعالىٰ:
وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ }[البقرة: 110].

فالمعنى قدّموا لأنفسكم الطاعَةَ والعملَ الصالحَ. وقيل إبتغاء الولد والنسل؛ لأن الولد خير الدنيا والآخرة؛ فقد يكون شفيعاً وجُنَّة. وقيل: هو التزوّج بالعفائف؛ ليكون الولد صالحاً طاهراً. وقيل: هو تقدّم الأفراط؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " من قَدَّم ثلاثةً من الولد لم يبلغوا الحِنثَ لم تمسه النار إلاَّ تَحِلَّةَ القَسَم"الحديث. وسيأتي في «مريم» إن شاء الله تعالىٰ. وقال ٱبن عباس وعطاء: أي قدّموا ذكر الله عند الجماع؛ كما قال عليه السَّلام: "لو أنّ أحدكم إذا أتى ٱمرأته قال بسم الله اللَّهُمَّ جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطانَ ما رزقَتنا فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولدٌ لم يضرّه شيطانٌ أبداً" أخرجه مسلم.>

إبن كثير رحمه الله فى تفسيره:

< وفي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري، عن أبيه، عن جده، أنه قال: يا رسول الله نساؤنا، ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "حرثك، ائت حرثك أنى شئت، غير أن لا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت" الحديث، رواه أحمد وأهل السنن.>

داخل فى التقديم، فكان المفهوم المسكوت عنه، خلافا للضرب والتقبيح والهجران، هو الملاطفة والمداعبة فى التقديم تعبيرا عن المودة والحب بينهما. هنا لا تفى البسملة أو التمنى بالتقديم والإعداد المطلوب وإن كانت مستحبه كما قال المفسرون، تيمنا فى كل الأحوال بالذرية الصالحة. ربما كان فى ذلك إعجاز علمى من طريق الوراثة، والله أعلم. منه جاز المنع إن لم تكن لها رغبة فى الآونة، داخل فى التقديم أيضا. مثل أن من النساء أصحاب الرسول صلى عليه وسلم من منعت زوجها من إتيانها الدبر وصدقها صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس إن الله لا يستحي من الحقّ لا تأتوا النساء في أعجازهنّ"، الحديث، ذكره إبن كثير فى تفسيره. هنا بالقياس جائز الممانعة بعدم توافر الرغبة. دليله عدم الإكراه فى النكاح. لأهل الأصول الفصل،  إنما ثابت الدليل مفاد منهاجية التدرج والتمهيد، وتفسير التقدمة فى الآية الكريمة.

      دليل ثان على المنهاجية، قول القاهر فوق عباده:

* وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ * (الأنفال: 60)

لا يحتاج إلى بيان، محكم القول لغويا فى الإستدلال على منهاجية التدرج والإعداد، وإن تطلب التأويل فى ماهية القوة ورباط الخيل. 

      فإن قلنا أن شهر شعبان بين رجب ورمضان فى الزمان وفى المناط الذى هو الصوم، كان البين بينهما صيام بعض من شعبان لم ينص فيه على عدد الأيام، وإن كان حديث عائشة رضى الله عنها يدل على أنه أكثر الشهور صياما عند الرسول صلى الله عليه وسلم. كان يصوم فى الشهور الأخرى إلا أن  شعبان أكثر صياما، تأويل البين بين حالة الإفطار وحالة الصيام. فإن تأولنا البين على الأرجح على أنه وسطية، كان المطلوب هو صوم خمسة عشر يوما من شعبان، ليس فرضا ولا واجبا من حيث الشرع، إنما مستحب من حيث الإقتداء إبتداءا، أهل الشرعة أهل لها، بينما هو تكليف من حيث المنهاج والإقتداء سواء، تحقيقا للوسطية فيه بين الصفر والثلاثين يوما. وإذا أجرينا الوسطية على الإعداد والتدرج، كان الأفضل أن نتدرج أيضا فى عدد الأيام خلال الأسابيع الأربعة، تماشيا على وجه آخر مع مضمون قوله تعالى: "وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا". التمهيد الأول فى العدد هو خمسة عشر يوما تقريبا، والتمهيد فى المفعول المطلق أن يكون هناك تدرج مثل أن تصوم يومان فى الأسبوع الأول، وثلاثة فى الثانى، وأربعة فى الثالث، ثم خمسة فى الرابع، فيكون هناك أربعة عشر يوما. أما أن الأيام مفردة أو متجمعة فيمكن إدخالها الإعداد والتدرج بإعتبار الأسبوع الواحد، كأن لا تجمع فى الأسبوع الأول، مستحب فى الأخير، متروك للمكلف بإدراك أن ذلك يعنى فى المقام الأول الصحة الجسمانية والنفسية سواء، بل ألأعمال الصالحات وعبادة فى إستقامة على معطيات الدين القيم ومنهاج الله. والله أعلم.

      مسك الختام:

 * قُلِ ادْعُوا اللَّـهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَـٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * ﴿الإسراء: ١١٠﴾

صدق الله العظيم

-----------------------------

الإنشاء : [Minhageat.com]

 

فى الهجرة ميلاد، فهاجروا إلى منهاج الله..

فى الهجرة ميلاد، فهاجروا إلى منهاج الله.. منهاجيات Fri, 08/30/2019 - 13:29
 

كل عام وأنتم بخير وسعادة، وأمة الإسلام فى سؤدد وسلام بإذن الرحمن.

 

الباب الأول: قصة الهجرة.

بسم الله الرحمن الرحيم:

* إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ﴿التوبة: ٤٠﴾

ميلاد جديد للإسلام ولرسوله المصطفى محمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة وازكى السلام، به عم الإسلام ثلث وجه الأرض وباتت أبدا كلمة الله هى العليا. يأبى الله إلا أن يتم نوره فى مشارق الأرض ومغاربها ولو كره كل من فى الأرض، فكانت الهجرة نصر من الله للإسلام وميلاد جديد، فيها العبرة والموعظة التى فيها مقالنا.

عن قصة الهجرة يقول القرطبى رحمه الله فى تفسيره "الجامع لأحكام القرآن":

< الرابعة ـ قوله تعالىٰ: {إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ} الغار: ثقب في الجبل، يعني غار ثَوْر. ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا: هذا شر شاغل لا يُطاق؛ فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى  الله عليه وسلم، فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمّى عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشِيَهم النوم، فوضع على رؤوسهم تراباً ونهض، فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا. وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أَرقْط.

ويُقال ابن أريقط، وكان كافراً لكنهما وثقا به، وكان دليلاً بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَوْخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جُمَح ونهضا نحو الغار في جبل ثَوْر، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلاً فيأخذ منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيُعَفّى آثارهما. فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار فقال: هنا انقطع الأثر.  فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن ردّه عليهم. الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك ابن جعْشُم في ذلك مذكورة. وقد رُوي من حديث أبي الدّرداء وثَوْبان (رضي الله عنهما): أن الله عزّ وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردّهم ذلك عن الغار.

الخامسة ـ روى البخاريّ عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدِّيل هادياً خِرِّيتاً، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غارَ ثَوْر بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فُهيرة والدليلُ الدّيلي، فأخذ بهم طريق الساحل. قال المهلب: فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا عُلم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سِرّه في الخروج من مكة وعلى الناقتين.> ا.ه.


الثانى: ملابسات التفسير:

من طرائف الرازى رحمه الله فى تفسيره "مفاتيح الغيب" تفسير الضمير ومن المقصود بالسكينة:

والوجه العاشر: قوله: {فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِومن قال الضمير في قوله: {عَلَيْهِعائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه:

الوجه الأول: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر، لأنه تعالى قال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}. والتقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن، وعلى هذا التقدير: فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر، فوجب عود الضمير إليه.

والوجه الثاني: أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره  على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً، فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه، أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس.

والوجه الثالث: أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال: إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً، ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَافمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره؟ ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال: فأنزل الله سكينته عليه، فقال لصاحبه لا تحزن، ولما لم يكن كذلك، بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن، ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة، وهو قوله: {فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة على قلب أبي بكر.> ا.ه.

نحن معه فى هذه المسألة لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لصاحيه رضى الله عنه: "لا تحزن إن الله معنا"، ولا يصدر ذلك إلا عن قلب ملؤه السكينة مفعم ومطمئن بالإيمان على يقين من نصرة الله لهما، لم يخالجه شك، ينبنى على سكينة متمكنة فيه. بخلاف موقعة "حنين" التى أنزل فيها السكينة صريحة على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهم فى حال انكسار وفرار، قول الملك الحق:

* ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ * (التوبة: 26).

التأكيد فى ايجاب حرف الجر "على" مخصصة للرسول ومخصصة للمؤمنين، التفريق لا الجمع: "على رسوله والمؤمنين". كفوله تعالى: "فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج" فإختلفت الأسباب بين المناطات الثلاثة (الزمخشرى فى "الكشاف" وموضوعنا "الجدال والجدل"). هنا أيضا أسباب السكينة التى نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم تختلف عن  الأسباب التى بها نزلت على المؤمنين. فى الهجرة لم تكن السكينة مقصود بها الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا لذكرت صراحة كما هى الحال فى سورة الفتح ايضا بنفس المنطوق قوله جل وعلا:

 * فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ * (الفتح: 26).

فأينما قصد بها الرسول صلى عليه وسلم ذكر وأشير إليه صراحة، كان تعظيما لخاتم المرسلين أو كان من البيان. وعليه فضمير السكينة فى آية الهجرة راجع للصديق رضى الله عنه، تأويل الرازى. والله أعلم.

حيث أن التكرار ورد حرفيا مرتين، فهو يشير إلى المثانى، أن فى المثانى سكينة للمؤمنين، ما يمثل دليلا ثانيا لم كان التخصيص بالتفريق لا الجمع. آية قوله "على" فى الأيتين التدليل على ثنائية الفرد والمجتمع، مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كفرد والمؤمنون فى مقام الجماعة أو المجتمع، قدم فيها الفرد. أن تكون المثانى فيها سكينة المؤمنين، ربما كان دليلها فى قول العليم الحكيم:

* هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ* ﴿الأعراف: ٥٣﴾.

جاء قوله "تأويله" مرتين بما يعنى إنتظار تأويل المثانى، وجاءت "نعمل" مرتين للتدليل على أن المقصود بإنتظار التاويل هو تأويل المثانى. وأن العمل بالمثانى أكثر إنضباطا وإرتفاقا بمقاصد الذكر الحكيم والحكم بما أنزل الله من حال قبل التأويل والإقتصار على الشرعة فى أسباب الإستخلاف فى الأرض. فإذا أضفت قوله "شفع" وذكرها مرتين أيضا فى نفس السياق، يصبح عندنا ثلاثة أدلة ما هو مطلوب الإستدلال فى المنهاج، من  ثم فقد عنى بالعمل المنهاج ككل لا ينحصر فى المثانى وحدها، وعنى بإنتظار التأويل المنهاج أيضا. والله أعلم.

الملابسة الثانية عن الجنود التى لم ترى:

 المفسرون قالوا بأن جنود الله فى الهجرة هى الملائكة، ومن قال بأنها الملائكة فى موقعة "بدر" بخروج عن السياق، وليس بدقيق البيان. فعندما يريد الله بها الملائكة فهى بالتنزيل وليس بالتأييد، والوارد فى الهجرة التأييد. فى موقعة "بدر" قال جلت قدرته:

* إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّـهُ وَلِيُّهُمَا ۗ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖفَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ *  ( آل عمران: 122 - 4)

وقوله فى "حنين":

* لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙإِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * (التوبة: 25 - 6)

كلمة "جنود" كناية فليست بجنود مجيشة، المقصود بها كل من ساهم فى نجاح الهجرة. "لم تروها" المعنى بها لم تروها كجنود مجيشة، فليست بموقعة حربية حقيقية، وإن كانت الهجرة بمثابة موقعة بين المسلمين والكفار. إنما الجنود هم الصديق وعلى وعبد الله ابن ابى بكر وأسماء ابنته وعامر بن فهيرة رضوان الله عليهم، والدليل من الكفار ابن أرقط، وأن الله أعمى أبصار الكفار فغشيهم النعاس، ثم الغنم والعنكبوت والحمام (القصة أعلاه). ولو كانت الأخيرتين فقط كجند الله لسددتا المعنى الذى نسعى إليه. وقد قال تعالى:"ولله جنود السماوات والأرض"، داخل فيها العنكبوت والحمام، تلك التى مسيرة بمقدرة الله وإرادته. أما القول بأن "لم تروها" لأنها من الملائكة فمردود لأن ذكرهم مقرون بالتنزيل حالهم فى موقعتى "بدر" و"حنين". بهذا يصدق التأييد وليس التنزيل، فكل من شاركوا فيها من الصحابة رضوان الله عليهم، مؤيدين بإرادتهم وإيمانهم بالرسول صلوات الله عليه وسلامه.، ثم أيده الله بغشى الأبصار وبالعنكبوت والحمام. والله أعلم.

 

الثالث: السنة الهجرية كتقويم.

قوله جلت قدرته:

* هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّـهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * ﴿يونس: ٥﴾.

الإمام فخر الدين الرازى كأحد الراسخين فى العلم كان تفسيره أكثر علميا من غيره، يكفيه التأسيس لعلم الميكانيكا فى هذا الأمر. نترك له مع "الويكيبيديا" هذا الباب، وإن كنا لسنا على وفاق معه فى الكلاميات مع تقدم العلوم، لا ننتقص من إجتهاده ورسوخه وأعماله الجليلة شيئا إن خالفنا، إنما التحديث والإضافه، كما هو الشأن مع كل علماء الإسلام وائمته الأفاضل، فلولا علمهم وإجتهادهم ما كنا سطرنا فى المنهاج بعد هدى الرحمن جلت أنعمه، رحمهم الله وأثابهم من فضله.

< وإذا ثبت هذا فنقول: الأشياء المتساوية في تمام الماهية تكون متساوية في جميع لوازم الماهية، فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي، فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر، وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضاً، وبالعكس. وإذا كان كذلك، وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر، واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد. وتقدير مقدر وذلك هو المطلوب، فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل، وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل، فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراًوهو المطلوب.

المسألة الخامسة: اعلم أن النور كيفية قابلة للأشد والأضعف، فإن نور الصباح أضعف من النور الحاصل في أول النهار قبل طلوع الشمس،وهو أضعف من النور الحاصل في أفنية الجدران عند طلوع الشمس، وهو أضعف من النور الساطع من الشمس على الجدران، وهو أضعف من الضوء القائم بجرم الشمس، فكمال هذه الكيفية المسماة بالضوء على ما يحس به في جرم الشمس، وهو في الإمكان وجود مرتبة في الضوء أقوى من الكيفية القائمة بالشمس، فهو من مواقف العقول. واختلف الناس في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض؟ والحق أنه عرض، وهو كيفية مخصوصة، وإذا ثبت أنه عرض فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس أو لأجل أن الله تعالى أجرى عادته بخلق هذه الكيفية في الأجرام المقابلة لقرص الشمس على سبيل العادة، فهي مباحث عميقة، وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات.

..................................

------------------------

المسألة السابعة: الضمير في قوله: {وَقَدَّرَهُ} فيه وجهان: الأول: أنه لهما، وإنما وحد الضمير للإيجاز، وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم، لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر، ونظيره قوله تعالى:

وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62]

والثاني: أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى القمر وحده، لأن بسير القمر تعرف الشهور، وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى:

إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } [التوبة: 36].

المسألة الثامنة: اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل. وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم. وبحركة القمر تحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم. وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار يكون زماناً للتكسب  والطلب، والليل يكون زماناً للراحة، وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف، وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله على الخلق وعظم عنايته بهم.> ا.ه.

السنة الهجرية فى "الويكبيديا" وإعجاز التقويم:

< تاريخ التقويم الهجرى:

أنشأه الخليفة عمر بن الخطاب وجعل هجرة الرسول من مكة إلى المدينة في 22 ربیع الأول (24 سبتمبر عام 622م) مرجعاً لأول سنة فيه، وهذا هو سبب تسميته التقويم الهجري. رغم أن التقويم أنشئ في عهد المسلمين إلاّ أن أسماء الأشهر والتقويم القمري كان تستخدم منذ أيام الجاهلية. أول یوم هذا التقویم الجمعة 1 محرم سنه 1 الهجری قمری (16 يوليو عام622م). 

تتخذ بعض البلدان العربية مثل السعودية التقويم الهجري كتقويم رسمي لتوثيق المكاتبات الرسمية بين دوائر الدولة الرسمية إلاّ أن عامّة الشعوب العربية تألف وتتعامل بالتقويم الميلادي عنه من التقويم الهجري باستثناء المملكة العربية السعودية التي تتعامل بالتقويم الهجري على المستويين، الرسمي والشعبي. 

أشهر التقويم الهجري:

يتكون التقويم الهجري من 12 شهر قمري أي أن السنة الهجرية تساوي 354 يوما تقريباً، بالتحديد 354.367056 يوم، والشهر في التقويم الهجري إما أن يكون 29 أو 30 يوماً (لأن دروة القمر الظاهرية تساوي 29.530588 يوم). وبما أن هناك فارق 11.2 يوم تقريبًا بين التقويم الميلادي الشائع والتقويم الهجري فإن التقويمين لا يتزامنان مما يجعل التحويل بين التقويمين أكثر صعوبة. 

إجتماع العرب لتوحيد الأشهر: 

في سنة 412م وقبل البعثة النبوية ب150 سنة وبمكة المكرمة اجتمع العرب سواء من رؤساء القبائل أو الوفود في حج ذاك العام أيام كلاب بن مرة جد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخامس، لتحديد أسماء جديدة للأشهر يتفق عليها جميع العرب واهل الجزيرة العربية بعد أن كانت القبائل تسمي الأشهر بأسماء مختلفة، فتوحدوا على الأسماء التالية مع أسباب التسمية. 

الأشهر في التقويم الهجري: ....................................... 

التحويل بين التقويمين الهجري والميلادي:

ورد بالقرآن في سورة الكهف﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً وفي تفسيرها: عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنة شمسية وهنا ذكر ثلثمائة قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون في ثلثمائة تسع سنين فلذلك ﴿وَازْدَادُوا تِسْعًا[1]

رغم أن التفاسير اختلفت فالبعض [بحاجة لدقة أكثر] قال ان المقصود هو انهم لبثوا ثلاثمئة وتسع سنين، والبعض ذهب انهم لبثوا ثلاثمئة سنين وتسعة ايام أو تسعة شهور أو تسعة ساعات أو تسع جُمع.... وعموما كان وقت المفسرين يعرفون كيف يحسبون السنين الميلادية والهجرية، أي باختلاف سني الشمس والقمر؛ لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين.[1]

تقويم أم القرى: 

تقويم أم القرى هو تقويم قمري يعتمد على دورة القمر لتحديد الأشهر وكذلك جزء منه تقويم شمسي لتحديد فصول السنة، وهو التقويم الرسمي لـ المملكة العربية السعودية الذي تؤرخ به على المستويين الرسمي والشعبي. ويعتمد إحداثيات (خط الطول وخط العرض) للكعبة المشرفة في مكة المكرمة أساسا لتقويم أم القرى، ويعتمد على ولادة الهلال فلكيا حال غروب القمر بعد غروب الشمس في مكة المكرمة

التقويم الهجري المجدول: 

التقويم الهجري المجدول (Tabular Islamic Calendar)، تقویم عالمي هجري يعتمد علي محاسبة عدديه (مجدول) يستخدمه المورخون لتسهيل محاسبته. الشهور في هذا التقويم توالي من 30 يوم في شهور المنفرد مثل المحرم و 29 يوم في شهور المزدوج مثل الصفر. ویکون شهر الآخر (ذو الحجة) في سنوات الکبیسة یکون 30 یوما. یکون 11 سنة کبیسة في کل من 30 سنة. إذا تقسم السنة الهجری علی عدد 30 وتبقی عدد من اعداد: (2 - 5 - 7 - 10 - 13 - 16 - 18 - 21 - 24 - 26 - 29) یکون السنة سنة کبیسة. هذا التقویم یمکن أن یکون متغایر مع تقويم أم القري أو تقاویم هجری أخری في یوم أو یومان. تاریخه الیوم یکون: 27 ذو الحجة 1433 هجري مجدول.> ا.ه.

 

الرابع: ارض منهاج الله الواسعة، فلتهاجروا إلى الله:

قال العفو الغفور:

* إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَـٰئِكَ عَسَى اللَّـهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا * ﴿النساء: 97 - 101﴾. 

ذكرت الهجرة ثلاث مرات فى وحدة سياقية منهاجية إستدلالا على أن المقصود به هو الهجرة إلى منهاج الله. ليست هجرة مكانية كما كان الشأن مع الرسول عليه الصلاة  والسلام، إنما هجرة إيمانية بها يتم الله نعمته علي المسلمين بالمنهاج ومثانيه إضافة إلى الشرعة. فى الأولى تسبيب للإستضعاف وظلم النفس حيث أرض الله الواسعة ثم المآل لهؤلاء جهنم وساءت مصيرا، فكانت الهجرة مطلب إيمانى. فى الثانية أيضا تسبيب للطلب والجهاد فى سبيل الله على أرض الله الواسعة. فى الثالثة النوعية والغاية من أنها هجرة إلى الله ورسوله، قوله: "وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ"، هجرة معنوية عقلية وفكرية فى رحاب القرآن وسعة المنهاج، مؤكدة ثلاثا. عنى بأرض الله الواسعة كليهما الأرض الطبيعية وأرض المنهاج ومثانيه التى هى كليات شاملة جامعة للوجود بأكمله بخلاف الشرعة التى لا تفى وحدها بمطلب الإستخلاف فى الأرض.

كرر ذكر قوله تعالى: " الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ" مرتين على مدار الذكر الحكيم، دليل على أن الإستضعاف بسبب من غياب المثانى وأن فى المثانى عناصر القوة والغلبة. والله أعلم.

الهجرتين والأرضين مقصودهما مقرر فى قوله تعالى:

* إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ *

الجمهور من المفسرين قالوا بثانى إثنين عددا، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يشار إليه عددا وهو المرسل من عند الله رحمة للعالمين، تقلل من شأنه الذى مدحه وذكاه رب العزة أكثر من مرة لا يحتاج إلى بيان. منه أن الرسول لا يكون ثانيا فى المقام إنما هو فى حقيقة الأمر الأول وليس ثانيا تبيانا ومقصدا، إنما الثانى فى المقام هو الصديق أبو بكر رضى الله عنه فى الصحبة، قوله "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ". الصاحب يجئ ثانيا فى الإستدلال تكوينا. من هنا الدليل العقلى من أن قوله "ثَانِيَ اثْنَيْنِ" من المتشابهات. وهو من المتشابهات بتكرار التثنية، "ثانى" و "إثنين" على الجذر من البعيد فى التأويل على المثانى. هذا برهاننا بأن المقصد أن هناك هجرتين، الأولى مكانية بالظاهر من القول يطابقه الواقع من الأمر، هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وميلاد جديد له وللإسلام. الثانية من البعيد هجرة من الإقتصار على الشرعة فى الإستخلاف والإيمان إلى السير على ساقى أصول الدين، الشرعة والمنهاج. هناك تشابه بين الهجرتين فى مآلهما. الهجرة المكانية لم تعن الترك إنما الإنقاذ. لم تعن ترك مكة مهبط الرسالة السماوية، ومقام إبراهيم عليه السلام، إنما إنقاذ الرسول والإسلام من جور الكفار وتبييتهم للرسول. فتحت مكة فيما بعد فلم تكن الهجرة تركا بالأصل. فى الهجرة الثانية نفس الأمر أنها ليست تركا للشرعة، إنما إدراك تمام الدين والحكم بما أنزل الله شرعة ومنهاجا. هى تركا للجمود والعقم فى الإجتهاد والتقليد والتقهقر سلفا والتشيع ثم جدب الدعوة التى حلت بالأمة بعد الإنحسار فى الأندلس، فبات المسلمون شيعا بالإنحصار فى الجزئيات، والمنهاج ومثانيه أرض خصبة واسعة فى العقل والتطبيق كليهما، بإتساع البحر من النهر. أنه ليس من صحيح الدين الإقتصار على الشرعة فتسبيب للهجرة الثانية.

  فى الإتساع قال الحكيم العليم:

* لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّـهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ﴿التوبة: ٢٥﴾.

وقال:

* وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * ﴿التوبة: ١١٨﴾.

 وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

(308) " من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام "، صدق رسول الله. 

المعنى مطابق بين الذكر الحكيم والحديث الشريف، أن الهجرة من الإيمان إذا ثبت الإستضعاف، كانت هجرة فردية أو جماعية، مكانية أو عقلية بغيتها نصرة النفس والإسلام. الهجرة المعنوية تستقى من قوله "وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ"، وقوله: "ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ"، قوله "مدبرين" فيها الإتساع من الأرض المكانية، فلا يستوى الضيق منها والإدبار وكان المقصد بقوله: "بِمَا رَحُبَتْ"، ليس مكانيا إنما الأسباب والإستدلال والسبل وما إليها فى العقل والإيمان.. والهجرة معنوية فى قول العلى القدير:

* فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ‌ إِلَىٰ رَ‌بِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ﴿العنكبوت: ٢٦﴾
ليست الهجرة هنا مكانية إنما معنوية إيمانية إلى منهاج الله، وهو المطلوب.

جدير بالذكر فى الموضوع أن القصص القرآنى يقع معظمه فى المتشابهات، فيه من أنباء الغيب والمنهاج والعقيدة، بيانه تضمنه للمجاز، ليس بمحكم من ثم يلزمه التأويل. ففى القصص ثلاث مقاصد، أنباء الغيب ما قد سلف وإلى يوم الساعة، لما فيها من عظة وعبرة وبرهان الألوهية، والمنهاج للعمل به والحكم بما أنزل الله، كما فيه باب الإعجاز العلمى من أنباء الغيب وعليه براهين الخلق وآيات الآفاق، وفيه السبع المثانى كليات الوجود أدلتها المبدئية مطمورة فى القصص، فضلا عما يتضمنه من عقيديات وإثبات الإله الخالق مرسل الرسل والأنبياء، رسلا تترى على قلب رجل واحد من لدن إله واحد لا شريك له ولا ولد.

الطريق الأولى إليه التفسير بظاهر القول وما كان من مطابقة لواقع الأمور، الراحج فى لغة الرازى، والثانية بالتأويل، المرجوح فى لغته، كلاهما جائز وليس فيه من تقول على الله، إلى أن يتحول الراجح إلى مرجوح، أو المتشابه إلى محكم فيبطل ما عداه. ليس فى ذلك ظاهرية إنما إجتهاد يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب، كلاهما مثاب عند الله بإذنه، وللظاهرية مذهبها المعروف الذى لم يلق القبول عند أهل السنة والجماعة. هو تمهيد الطريق للصواب من المعنى وتكشف المضمون بعد إحتمال، فتستبين الحقيقة بالتأويل بناء على دليل ثابت عقلى أو نقلى لا شبهة فيه، وردت أدلة الطريق فى سورة الكهف.

هنا مبحث عظيم، فلم يقال بعد كل ما على التأويل وأدواته، لسبب بسيط أن المتشابه والمنهاج يعتبران حقلا بكرا، أبوابهما موصدة بسبب مقولة لا إجتهاد مع النص وفهمها الخاطئ، وبسبب تفسير "الواو" فى "والراسخون فى العلم"(آل عمران: 7) بأنها على الإبتداء، قليل ما هم الذين قالوا بالعطف من متأخريهم الإمام محمد عبده، إضافة إلى التفريط فى المنهاج بالقول أن السبع المثانى هى فاتحة الكتاب وعليه الجمهور، وبسبب الإختلاف حول مفهوم النص. من العوامل الفاعلة  فى الأبواب الموصدة أن أحدا بقدر علمنا لم يجب إجابة شافيه وافية على سؤال ما فائدة المتشابه وما الطريق إلى سبر أغواره وكيف العمل به مقارنة بمحكم الشريعة الذى يحتل تقريبا ثلث القرآن. الشرعة ضاقت بها البحوث حتى قيل كما ذكرنا أنها قتلت بحثا، المعنى فى قوله: "ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ"، أما المنهاج فمازال بكرا، والله تعالى جل فضله قد جعل لنا كليهما نبراسا للإستخلاف فى الأرض فى معرض الحديث عن الحكم بما أنزل الله، قوله جلت حكمته:

* وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ  شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ *  ﴿المائدة: ٤٨﴾.

فلتهاجروا إلى منهاج الله جل شأنه، يثبكم الله من فضله ويصلح لكم أعمالكم بعد تخلف، وحيث ضاقت عليكم الأرض فى الإستدلال والإستنباط وفيها رحاب المنهاج. فى سورة التوبة كررت "ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ" مرتين وفى سياق الحديث عن ثنائية الكيف والكم، قوله تعالى: "أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ". وعليه كان المقصود فى قوله: "بِمَا رَحُبَتْ" هى رحاب المثانى، وقد ذكرنا ذلك فى موضوع المنهاج كيف أن قوله: "قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا.." الآية، ينطبق على المثانى. ثم إنه فى آية الهجرة قول العلى القدير:

* إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *  ﴿التوبة: ٤٠﴾

كررت "إِذْ" ثلاث مرات، إشارة للمنهاج، من التأويل البعيد الذى قال به إبن رشد رحمه الله. البعيد هذه فى ثلاثة أنواع، الأول ما عنيه إبن رشد من أنه فى العقل، تدليل وإجتهاد وقدح للعقل أكثر. البعيد الثانى عندنا فى الزمن، أن دليله متأخر لم يتوفر عليه الأولون، ومنه ما لم يتوفر بين أيدينا بعد. البعيد الثالث فى تأويل المنهاج أنه ليس بالتأويل المعروف دلائله فى الشرعة أو العقيدة، مبناه الأول التكرار وثلاث من الأدلة، يحتاج البعيد الرشدى أكثر من غيره. وليكن هذا النوع "بعيد التكرار"، بعيد فى الإستدلال على  مكانه فى الذكر الحكيم، بمعنى أين هو؟ فى التفصيل يتفرع إلى درجات، فإن وقع التكرار فى نفس الآية كان قاطعا بالقرب فى المكان وإن كان بعيدا فى الإستدلال، ثم بعيدا فى آيات مختلفة متتاليات فى وحدة سياق منهاجية، ثم بعيد بالتكرار فى نفس السورة، ثم الأبعد مكررا فى سور مختلفة، دلائله متوافرة فى الذكر الحكيم، فيها تفصيل يجئ فيما بعد بإذنه تعالى. مثال الأول قوله "إِذْ" فى الآية الكريمة. مثال الثانى ما ذكرناه أعلاه وتكرار الهجرة ثلاثا فى سياق واحد وآيات متتاليات فى سورة النساء، وفى آيات القبلة وثنائية المجتمع والفرد فى البقرة، سبق. ومثال الثالث فيما يجئ بعد وقوله: "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ"، من الأبعد مكانا.

 قوله "إذ" فى الآية الكريمة يعنى أن المسلمين فى يوم من الأيام، سبحانه وتعالى عالم الغيب والشهادة، سيفتقرون إلى هجرة أخرى، ليست هجرة مكانية، إنما هجرة إلى منهاج الله فى الحياة، بعد هجران فى التدبر، وبعد تخلف وعوار فى الأعمال، وبعد أن سلبهم النهضة وأسبابها ومنحها لغيرهم. وما زال المسلمون يمشون فى الأرض على ساق واحدة من أصول الدين. إنه التصديق لما بين أيدينا، سبحانه وتعالى العزيز الحكيم جلت قدرته. هجرة إلى المنهاج، هجرة فى الأدمغة والفكر والممارسات والحكم بما أنزل الله (سبق منه فى موضوع: مرجعية الدستور قول العليم الحكيم:

 * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّـهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ*  ﴿المائدة: ٤٤﴾.

الثمن القليل فى المتشابه الذى دأب المفسرون على نسخه فإبطال المنهاج.

وقوله:

* وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * ﴿المائدة: ٤٥﴾.

وقوله:

* وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * (المائدة: ٤٨).

كررت "وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ" ثلاث مرات فى نفس السياق فى نفس السورة، أعقبها المقصود "شِرۡعَةً۬ وَمِنۡهَاجً۬ا‌ۚ "، فالمطلوب إستبقوا الخيرات فى كليهما سويا، ما فيه مدادنا بعون الله. قرر سبحانه فى الآيات الثلاث أن من لا يحكمون بما أنزل الله فئات ثلاث: الكافرون والظالمون والفاسقون، وهم نفس الفئات التى لا يهديها الله. فإستبقوا الخيرات يهديكم الله إلى صراطه المستقيم ويصلح لكم أعمالكم. والله أعلم.

 

الخامس: جدب الدعوة:

قال العزيز الرحيم: 

ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَ‌بِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَ‌بَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * ﴿النحل: ١٢٥﴾

الدعوة لا تكون بين المسلمين إنما غيرهم، أما المنابر فعليها التبصير للمسلمين بأمور دينهم، هناك فرق. وفى الدعوة طرفان وحجتان فى جدال. إن غلبت حجة الداعى حجة الآخر كان التأثير والفاعلية، مع العكس يكون جدب الدعوة. الحجة فى الآية الكريمة هى الحكمة والموعظة، الوسيلة فيها الجدال. فبماذا تجيب فى عصر العلم من يقول بأن القرآن يخالف سنن الطبيعة عندما يقول أن هناك مشرقان ومغربان؟ هنا حجتان، حجة القرآن وحجة العلم المنظور. مطلوب الجدال أن تقارع العلم بالعلم والحكمة بالحكمة، إن شئت قلت الفلسفة ولا ضير، إنما الأحسن. فى صدر الإسلام إمتد إنتصاره من الأندلس غربا إلى الشرق الأقصى بالحجة الناصعة والعقول النيرة، حين لم يكن هناك من تقدم علمى وفسلفى يبهر العالم ويحكم أمورهم مثلما هى الحال اليوم. اليوم ذهب الناس إلى تأليه العلم مثلما يقولون بأن نيوتن هو نبى العلم فى الغرب، أدى بالرئيس الأمريكى بوش الصغير أن يصف نفسه بأنه رب هذه الأيام. فى الدعوة إذن علينا أن نعى الأسباب ثم نجابه بالحجة الأنصع. بوش الآن مثل فرعون فى القدم الذى قال أنا ربكم الإعلى. ومثله بابا الفاتيكان الذى لم يعلن ربوبيته مثل بوش لكن الناس فى الغرب يعبدونه على هذه الصفة. نحن لا نعادى دينا من الأديان بل العكس، المنهاج يحتضن كل الرسالات والنبوات بلا تحريف، أحد معاول الدعوة للدين الحق.الأسباب عند بوش تنوير وفلسفة وعلم بنى على فلسفة علمية منذ عصر النهضة. وعندما تجابه العلم والفلسفة بالدين عليك أن تنقيه أولا من الخرافات التى ليس لها مكان فى عصر العلم. ثم ثانيا المثال، أن تضرب المثل وتكون محلها فى الثقافات المتعددة، وليس حال العالم الإسلامى بقادر على هذه المجابهة بالتخلف ومع التغريب الذى زحف على القيم والمبادئ فضلا عن اللغة والدين. ثم عليك بالحكمة ثالثا التى تعرف عند علماء الإسلام بأنها فلسفة مجازيا. لا تجد هذه فى الشرعة إنما المنهاج. فلسفة الغرب بدأت بالتنوير وإبن رشد على أرضية إسلامية العلم، جحدها الغرب، وفى القرآن تنوير وحكمة وعلم طبيعى ونظرى لم ينل منها المسلمون مأربها بعد على أصولها. بإختصار هو المنهاج الذى يمكنه الثبات والفعالية فى هذا المضمار الوعر مع تأليه العلم. فى مقام سالف أشرنا إلى المثانى بأنها تجب كل الوضعيات الفلسفية.

إن كان للحكمة مكان فى الذكر الحكيم لا يكون إلا المنهاج، لا الشريعة ولا العقيدة. قيل فى إبن رشد أنه الحكيم وقيل الفيلسوف، فتقاربت الحكمة والفلسفة، وإن كان هناك فرق الوضعى من الوحى فى منظورنا، له مقام آخر. منه أن المقصود بقوله تعالى: "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَ‌بِّكَ بِالْحِكْمَةِ" أنه بالمنهاج وما يتضمنه من تنوير وكليات الوجود المثانى. والله أعلم.

فاستبقوا الخيرات ولتنتصروا للمنهاج ينصركم الله، لندرك مسالك الإستخلاف فى الأرض على أصولها وكمالها. تلك هى الدعوة للهجرة الثانية وكى تصبح الدعوة للدين الحق مؤازرة ومؤيدة بحجة بالغة، حكمة الله الحكيم العليم. وصف نفسه تعالى بالحكيم ووصف نفسه بالعليم، كلاهما يسطر فى الذكر الحكيم بحروف من نور مبهرة للعقول، أكثر ما تكون فى المنهاج ومثانيه وأبوابه الإثنى عشر. مشوار ليس فيه ميسرة إزاء من يدعون الألوهية بالعلم، مطلوبه العزم وإنفتاح العقول، وإزاء الحرب الضروس على الإسلام. المطلب ذو شقين، الدفاع فى هذه الحرب الشرسة بالإرهاب وغيره، وفى الدعوة إلى عبادة خالق العباد بدلا من العباد المخلوقين. فلتهاجروا مرة ثانية، يثبكم الله من فضله، ينصر من ينصره بإذنه أرحم الرحمين.

والله أعلم بالحق فيما سطر، هو الهادى إلى الصراط المستقيم وبه التوفيق والرشاد، نحمده ونشكره ونستهديه.

فى ذكرى مولده عليه السلام: نداء الإعجاز فى عيسى إبن مريم.

فى ذكرى مولده عليه السلام: نداء الإعجاز فى عيسى إبن مريم. منهاجيات Sat, 01/01/2022 - 14:17
بسم الله الرحمن الرحيم:
* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ  وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚقَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّـهَ  رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ*
صدق الله العظيم
 
      كان حديثنا فى مناسبة ميلاد عيسى بن مريم، عليه السلام، فى الأعوام الماضية عن تبيان مغزى المناسبة فى الإسلام من حيث التقويم وأهمية الشمس للحياة والعبادة والشكر على أنعم الله (مقالة: إشراق جديد وعام 2013م)، وفى مقالة تالية فى العام الماضى من حيث أن مناسبة ميلاد عيسى عليه السلام لا تعدو أن تكون عيدا للمسلمين مثلما هى عيدا للنصارى (2014 م، شمس جديد)، ثم اليوم نتحدث عن المعجزة فى عيسى بن مريم عليه السلام. وربما أعاننا الله بفضله ورعايته أن نسدد مقالات أخرى وشئ من التفصيل عن المنهاج مع عيسى عليه السلام، به تعالى نستعين ونستهدى.
      أشرقت الأرض بنور ربها على عام جديد 2023 م، جعله الله عام خير وسلام ومحبة بين المسلمين والنصارى واليهود، وسائر البشرية شرقا وغربا بإذنه الرؤوف الرحيم. تطلع علينا اليوم ذكرى ميلاد رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام، الرسول الذى إختلف عليه أهله بقدرما إختلف عليه غيرهم.
      إختلف عليه أهله عبر التاريخ من النصرانية الأصلية مع الحواريين الموحدين، حين إنتشرت فى أصولها الموحدة من فلسطين إلى أوروبا عبر الدردنيل، إلى النصرانية المحرفة بالتثليث والشرك بالله فى عصور الظلام الوسطى مع تسلط الكنيسة على الناس وجورها وظلمها وجرمها بإسم الرب، إلى عصر النهضة وعلماء أفاضل أثاروا وأناروا الأرض بالعلم مؤمنين بوحدانية الله نابذين للمسيحية، قى مقالتنا هى النصراينة المحرفة، ناطقين وصامتين، إلى عصر الفضاء والشبكة الإلكترونية والسلاح النووى ورئيس يعلن نفسه ربا كاثوليكيا بالعلم والقوة العظمى. تشيع المسيحيون بالتحريف إلى طوائف عدة بين كاثوليك وأرثوذوكس وبروتستانت ومارمون وبعض من الموحدين، إختلفوا على شرع الله بقدر ما فى المسيحية من تحريف، سواء على الشرع فى تحدده أو الوحى بذاته أو على بنوة الرسول وربوبيته، نستغفر الله ونتوب إليه. فى كل - على قدر علمنا بفضل من الله - لم يعطوا الرسول الكريم حقه من حيث أنه معجزة بذاته فيه وفى أمه عليهما السلام سويا آية للناس تدلل على وحدانية الله وقدرته فى الخلق والمصير.
      رسول إختلف عليه غير أهله حتى مع المسلمين، فمنهم من عادى المسيحية ومنهم من نصرها. لكن الأهم فى مقامنا الإعجاز فى الرسول عليه السلام الذى به حمل على كتفيه عبئ البرهان على الخالق الواحد الأحد ، كما يهمنا المنهاج الذى حملته رسالته الإنجيل مثلها مثل القرآن الكريم. لم يدرك الناس أن الله تعالى جلت قدرته بث فى الرسالات الثلاث منهاجه فى الأرض، موحدا للرسالات أكثر مما وحدتها الشرائع. الشرائع بضرورة التنزيل مصداقا لما بين يدى الرسل تباينت إطرادا يسرا ورحمة على الناس من رسالة ونبوة إلى رسالة ونبوة أخرى، مثل الصيام. إنما المنهاج واحد ثابت البنية فى الرسالات والنبوات مجتمعة، ليس من تباين بينها ولا إختلاف. الدلائل كثر فى الذكر الحكيم منها قوله الحكيم العليم فى عيسى إبن مريم عليه السلام:
* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ  وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚقَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّـهَ  رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * (مريم: 29 - 36)
كرر قوله تعالى: "جَعَلَنِي" مرتين متطابقتين تدليلا على المثانى، وجاءت الثالثة "يَجْعَلْنِي" على الجذر إشارة للمنهاج، وجاءت إشارة المنهاج تثنية ثلاثية بالتطابق فى "يَوْمَ"، بمعنى منهاج المثانى فيها مجتمعة فى وحدة سياقية منهاجية. "الجعل" جاء سابقا فى نفس السورة مع الشرعة والمنهاج، حيث دائما يسبق العام الخاص، قوله العزيز العليم:
* لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْ‌عَةً وَمِنْهَاجًا * (المائدة: 48)
دل الجعل الثلاثى هناك على الجعل هنا، دليلا على المنهاج مؤكدا فى رسالة عيسى عليه السلام الإنجيل. وفى قوله: "لِكُلٍّ" دليل بين على أن المنهاج مثله مثل الشرعة موحى به فى الرسالات الثلاث. الموضوع دسم وذاخر بالعلم وبالبرهان على أنه لا تفاوت فى المنهاج بين الرسالات. ربما كان الدليل على ذلك فى تكرار "يوم" ثلاث مرات، أنه لا تغير بين الرسالات تترى فى الزمن، وأنها دليل على وحدانية الله، رب المرسلين والبشر أجمعين.
فى الآيات الكريمة جاء التدليل على المثانى فى صفتها العامة بأنها المتقابلات فى قوله "وُلِدتُّ" و"أَمُوتُ". أن الإنجيل حمل بمهناج المثانى كما هو الحال مع القرآن الكريم، منهاج واحد بلا تبديل لكلمات الله فى الكون والحياة، الوحدانية والخلق. والله أعلم.
      لعظم الحديث عن المنهاج فى الرسالات الثلاث على أصولها بلا متسع له اليوم ولا فى مجلدات ولا فى عقود من الزمن ولا فى نظر علماء شتى، ففى هذا المقام مع عيسى إبن مريم، عليه السلام، بعد العجالة السابقة نركز بعض الشئ على برهان الخالق جلت قدرته على أنه الخالق، يخلق ما يشاء ويقدر، ويخلق ما لا يعلمه البشر وإن معاجزين.
      فى الذكر الحكيم يقول تعالى للناس أن خلقه لعيسى بن مريم مثل خلقه لآدم عليهما السلام، فيصم التثليث الذى به يقولون أن المسيح إبن الله، يصمه بالشرك والكفر. علامات ذلك نصا متكاثره لكنه تعالى آثر أن يكون نداءه لعيسى عليه السلام بالبنوة التى تثبت الخلق فلا يذكره مفردا إلا مسندا للأم ويناديه "يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ" نفيا لأية أبوة، فقد خلقة الله مثلما خلق آدم الذى خلقه من تراب.
إذا كان من تشبيه وتمثيل فالمعلوم أنه لا يستتبع تطابقا بين المشبه والمشبه به، فإذا كان الله قد خلق آدم من تراب فليس خلق عيسى من تراب أيضا، إنما التمثيل من جهة البنوة ونفى الأبوة، لا الكيفية. قال الخلاق العليم:
* إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَ‌ابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * (آل عمران: 59)
لم يكن خلق عيسى من تراب إنما من رحم مريم الذى فيه الروح ساكنه، الفرق بين الحالتين فى التشبيه التمثيلى. حالة آدم لم تكن تسكن روحا فيما أتى منه، التراب، بينما عيسى كانت هناك روحا كائنة فى مريم. أما روح القدس والذى تمثل لها بشرا سويا هى قدرة الخالق على أن يخلق من المادة الحية ما ليس من طبيعة الأمور إعجازا. يمكن القول هنا بتحوير الجينات الوراثية لا بث الروح فيها حيث لا تفتقر. فإن إجتمع الأب والأم على الإنجاب كان الدور للجينات وتحويرها مع وجود الروح أصلا. فقدرة الله على خلق الحى من المادة الميتة ثابتة كما هى ثابتة فى البعث، هى قدرة أكبر من خلق الحى من الحى، حالة عيسى إبن مريم عليه السلام، وإن تشابها فى البنوة ونفى الأبوة الطبيعية.
      التمثيل من المتشابه يستلزم التأويل بدليل علمى أوعقلى أو نقلى. الإعجاز علميا هو فى تحوير الجينات الوراثية لا بث الروح. تأمل التشبيه ثلاثى الأبعاد بقوله "مَثَلَ" مرتين وبكاف التشبيه. فلو كان خلق عيسى مثل آدم من تراب لأكتفى بالقول: "عيسى عند الله مثل آدم". التشبيه الثلاثى الأبعاد يترتب عليه فروق ثلاث، فيوصلنا إلى الفارق الرئيسى بين الحالتين، آدم من مادة غير حية وعيسى من المادة الحية. الفارق الثانى هو أن مع آدم لم تكن أمومة ورحم، بينما كان ذلك مع عيسى. الفارق الثالث هو الروح القدس، مالم يرد له ذكر فى آدم. التشبيه ثلاثى الأبعاد يترتب عليه مبدئيا إشتراك فى ثلاث، أولها نفى الأبوة والبنوة لله، ثانيها إثبات الخلق للخلاق العليم، وثالثها إصطفاء النبوة لمن حمل الإعجاز من هذا الطريق تبيانا للإعجاز كرسالة لبنى البشر. والله أعلم.
 هنا ندرك مدى ما فى القرآن من علم طبيعى يعجز عنه العلماء المعاجزين بالعلم فى كل أوان ومكان، وفيه التحدى المتكرر، كما ندرك مدى علمية وكفاءة اللغة العربية اللسان المبين فى حمل المعانى العلمية بدقة تعجز عنها الأعجميات.
      إن ذكره الله مفردا سواء "عيسى" أو "المسيح" ألحقه بأمه مريم عليهما السلام، وإن جمعه تعالى مع غيره من الأنبياء والرسل، صلى الله عليهم وسلم، سماه بشخصه "عيسى" دون الأم. فى الأولى يقول الخالق البارئ المصور:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ * (المائدة: 110)
من المفسرين والنحويين من قال بأن "إذ" حال أو ظرف، بمعنى أن الله تعالى يصف حال عيسى إبن مريم حيث بعثه رسولا وما عدة رسالته. تأمل تكرار قوله "إِذْ" سبع مرات فى آية واحدة، تخصيص له مغزاه فى التكرار. بخلاف الأولى الخاصة بالنداء، ثلاث منها "إِذْ" تناولت المعجزات والآيات التى أتى بها عيسى قومه، والتى أيده بها تعالى لا تنفك عن إرادة الله وإذنه. وكرر ثلاث مرات "إِذْ" لذكر ما أنعم الله به عليه فى الإعتقاد وتثبيت الرسول على إيمانه، الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ثم كف عنه بنى إسرائيل وجاءهم بالبينات. تكرار ثلاثى كرر مرتين، أى ثلاثيتين تشير مرة أخرى  للمنهاج ومثانيه، وبإعتبار التكرار سبع مرات فإشارة للسبع المثانى، ضمن ما أيد الله به رسوله فى الإنجيل، فى نظرنا هو الحكمة فى قوله: "وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"، ما لم يستدل عليه أحد من قبل - على قدر علمنا وتقديرنا بعون الله - لا فى القرآن ولا فى الإنجيل ولا فى التوراة. إستدلالنا عليه جار بفضل الله وعونه وهداه فى الذكر الحكيم، وفيه جاءت الدلائل على تضمين الرسالتين السابقتين دون الحاجة لسبر أغوارهما، أهل الإنجيل والتوراة أهل لها. لكن من المهم لمن ينظر فيهما أن يتناول الرسالة بلغة النزول، لأن التراجم أو التحريف تطمس معالم المنهاج حيث يقطن غالبه فى المجاز والتكرار اللفظى، على خلاف الشريعة فى إحكام أدلتها وسلاسة ترجمة المحكم من القول. على نفس المنوال فإنك لا تستطيع الوقوف على معظم أدلة المنهاج فى تراجم القرآن. والله أعلم.
ثم بعدها ببضع آيات قال:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * (المائدة: 116)
دليل المنهاج ومثانيه مرة أخرى فى تكرار "العلم" و"القول" على الجذر ثلاثا، أى ثلاثيتين، وتكرار "نفس" تثنية بالتطابق مع إلحاق الضمير الذى يدل على التقابل فى المثانى. النداء الأول جاء بالأنعم ودلائل الإعجاز والنبوة، ضمنها إعجاز الخلق بنسبته إلى أمه عليهما السلام، وأنه أيده بما هو منه وفيه أن يخلق من الطين طيرا، برهانا على خلقه هو نفسه. فإن كان النبى يؤمن الناس به على أنه يخلق من الطين طيرا حيا، ما يوحى بربوبته عند طوائف المسيحيين، فما بالنا بخالقه وخلاق الكون ومن فيه، يخلق ما يشاء من طين ومن تراب. فى النداء الثانى دلائل الإيمان بوحدانية الله، أنه لم يدعى قط الربوبية كما يدعى أهل المسيحية فى عقيدة تثليثهم. ذكر النداء بهذا المنطوق مرتين فقط إشارة للمثانى، أن المثانى من جهة هى من أركان الإيمان بالله واحد أحد، ومن جهة ثانية أنها سنة الله فى الكون أيد بها أنبياءه ورسله، ومن ثالثة قدرة الله فى الخلق على المثانى كما هو ميزان الأفلاك السماوية، ومن رابعة أن المثانى مبثوثة فى الإنجيل. هى برهان على خلق الله الذى ليس به من تفاوت ولا إختلال بالمثانى، كما أن النداء لعيسى بإبن مريم مرة ثانية توكيد على أن خلقه منسوب للإله القادر البارئ المصور، ليس من أبوة ومن ثم تنفى الشرك بالتثليث والقول بأن عيسى إبن الله.
      الحواريون المؤمنون بوحدانية الله نادوا نبيهم عليه السلام بالمثل بنسبته إلى أمه، إيمانا بإعجاز الله فى خلقه، لا صاحبة له ولا ولد، يخلق ما شاء كيف يشاء، فقال تعالى على لسانهم:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِ‌يُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَ‌بُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّـهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِ‌يدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ اللَّـهُمَّ رَ‌بَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِ‌نَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْ‌زُقْنَا وَأَنتَ  خَيْرُ‌ الرَّ‌ازِقِينَ * قَالَ اللَّـهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ‌ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ * (المائدة: 112 - 115)
فى قصة المائدة جاء النداء وإجابته فى سياق واحد فيه ينسب عيسى إلى أمه مريم مرتين، تدليل المثانى. وفى حال أن سماه بالمسيح مفردا ينسبه أيضا إلى أمه:
*  لَّقَدْ كَفَرَ‌ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ‌يَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَ‌ادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْ‌ضِ جَمِيعًا وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌ * (المائدة: 17)
تدليل المثانى مرة أخرى. دليل تأكيد ما ذهبنا إليه فى ذكره تعالى مريم بنسبة البنوة إلى الأب، قوله:
* وَمَرْ‌يَمَ ابْنَتَ عِمْرَ‌انَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْ‌جَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّ‌وحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَ‌بِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ * (التحريم: 12)
     أهل الأصول يقولون بالمفهوم والمفهوم المخالف فى إستنباط الأحكام، وهنا المفهوم المخالف لإثبات المفهوم. أن عيسى دون البشر أجمعين نسبت البنوة إلى أمه بلا أب بشرى. جدير بالذكر أن ذكر مريم جاء مفردا دون نسبة الأبوة على مدار الذكر الحكيم إلا فى هذا الموضع توكيدا لما ذهبنا إليه، وبالله التوفيق هو الأعلم.
فى موضع آخر ذكر إبنى آدم ونسبتهما إلى الأب لكن دون ذكر لإسميهما، قوله العليم الحكيم:
 * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّ‌بَا قُرْ‌بَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ‌ * (المائدة: 27)
المعنى نسبة البنوة إلى الأب منذ أبينا آدم عليه السلام. عدا ذلك لم تنسب البنوة لأحد مما جاء ذكره فى الذكر الحكيم. أما قوله تعالى:
*  وَلَمَّا رَ‌جَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ‌ رَ‌بِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَ‌أْسِ أَخِيهِ يَجُرُّ‌هُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * (الأعراف: 150)
 كررت مرتين على مدار الذكر الحكيم، الثانية فى قوله جل شأنه:
* قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَ‌أْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّ‌قْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ وَلَمْ تَرْ‌قُبْ قَوْلِي * (طه: 94)
المغزى منها يضاف إلى غيرها من الدلائل البينة التى تدلل على أن رسالة موسى عليه السلام التوراة حملت بمنهاج المثانى أيضا مثل الإنجيل والقرآن. قال فيها المفسرون لم نسب هارون فى ندائه بنوة أخيه موسى بالأم لا الأب؟ قيل المقصود من البنوة هو الإستعطاف برحم الأم ، أنهما من رحم واحدة، حتى من المعربين من قال أن "إبن أم" إسم واحد نداءا نسبا لا تسمية وإثبات بنوة. الإمام الطبرى رحمه الله:
<وقال بعض نـحويـي الكوفة: قـيـل: يا ابن أمَّ ويا ابن عمّ، فنصب كما ينصب الـمعرب فـي بعض الـحالات، فـيقال: يا حسرتا، يا ويـلتا، قال: فكأنهم قالوا: يا أماه ويا عماه ولـم يقولوا ذلك فـي أخ، ولو قـيـل ذلك لكان صوابـاً. قال: والذين خفضوا ذلك فإنه كثر فـي كلامهم حتـى حذفوا الـياء. قال: ولا تكاد العرب تـحذف الـياء إلا من الاسم الـمنادى يضيفه الـمنادِي إلـى نفسه، إلا قولهم: يا ابن أمّ، ويا ابن عمّ وذلك أنهما يكثر استعمالهما فـي كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الـياء، فقالوا: يا ابن أبـي، ويا ابن أختـي وأخي، ويا ابن خالتـي، ويا ابن خالـي.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إذا فُتـحت الـميـم من «ابن أمَّ»، فمراد به الندبة: يا ابن أماه، وكذلك من ابن عمّ فإذا كُسرت، فمراد به الإضافة، ثم حذفت الـياء التـي هي كناية اسم الـمخِبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر نسبته كسر ذلك إذا  كسر، ككسر الزاي من خازِ بـازِ، لأن خازِ بـازِ لا يعرف الثانـي إلا بـالأوّل ولا الأوّل إلا بـالثانـي، فصار كالأصوات. وحُكي عن يونس النـحوي تأنـيث أمّ وتأنـيث عمّ، وقال: لا يجعل اسماً واحداً إلا مع ابن الـمذكر. قالوا: وأما اللغة الـجيدة والقـياس الصحيح فلغة من قال: «يا ابن أمي» بإثبـات الـياء، كما قال أبو زَبـيد:
يا بْنَ أُمِّي ويا شُقَـيِّقَ نَفْسِي *** أنْتَ خَـلَّفْتَنِـي لِدَهْرٍ شَدِيدِ
وكما قال الآخر:
يا بْنَ أُمِّي وَلَوْ شَهِدْتُكَ إذْ تَدْ *** عُو تَـمِيـماً وأنْتَ غيرُ مُـجَابِ
وإنـما أثبت هؤلاء الـياء فـي الأم لأنها غير مناداة، وإنـما الـمنادي هو الابن دونها، وإنـما تسقط العرب الـياء من الـمنادى إذا أضافته إلـى نفسها، لا إذا أضافته إلـى غير نفسها، كما قد بـينا. وقـيـل: إن هارون إنـما قال لـموسى علـيه السلام: «يا ابن أمّ»، ولـم يقل: «يا ابن أبـي»، وهما لأب واحد وأم واحدة، استعطافـاً له علـى نفسه برحِم الأم.>

       المقصود إذن بنسبة البنوة فى النداء والتسمية على مدار الذكر الحكيم هو إثبات الإعجاز فى خلق عيسى عليه السلام. منه أن اليهود عندما ينسبون الأبناء للأم فهم يفترون على الله ويقترفون إثما فى حقه تعالى، فضلا عما يتضمنه ذلك من الشك فى الأبوة وما يستتبعه من إنحرافات إجتماعية. يثبت ذلك قول الغفور الرحيم:
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّـهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚوَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * (الأحزاب: 5)
فلا يصح نسبة البنوة لغير الأب، فيه القول عن الأنساب متروك لأصحاب العلم، والله أعلم.
      فى النوع الثانى من الذكر، ذكره الله مستقلا عن الأمومة إذا جمعه مع غيره من الأنبياء والرسل فى أكثر من موضع فى الذكر الحكيم، مثل قوله تبارك أحسن الخالقين:
* قُولُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَ‌اهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّ‌بِّهِمْ لَا نُفَرِّ‌قُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * (البقرة: 136)
فى ذكره تعالى للأنبياء والرسل لم ينسب بنوة أحدهم إلى الوالدين والوالدة بالأخص إلا "عيسى بن مريم" وأمه "مريم إبنت عمران" لما فى ذلك من إثبات الإعجاز والخلق للخالق، فهما سويا آية من آيات الله حيث قال:
*  وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ * (المؤمنون: 50)
      حتى فى نداء الغائب مفردا نسبه تعالى إلى أمه بلا أبوة بشرية نفيا وإستنكارا فى كل مكان لما هى عليه المسيحية المحرفة أنه إبن الله، وبرهانا فى كل مكان على إعجاز الله فى الخلق، خلق عيسى مثل خلق آدم، مثل الإعجاز الذى أيد به تعالى نبيه عيسى بن مريم فيخلق من الطين طيرا إنما بإذن الله. ما يعتقدونه من نسبة الأبوة لله، تعالى عما يصفون، يستتبع أن الأحياء والأرض والسماوات والبكتيريا أولاد وبنات الله وهم يؤمنون بأن الله خلقها، وكل ما خلق كانت بنوته لله إذ لم تثبت أبوة، ما أكفرهم؟!
       فكيف يؤمنون بقدرة النبى ولا يؤمنون بقدرة خالق النبى؟ فيها مسألة كلامية عند من يقولون بالقياس فى الإستدلال على الغائب بالشاهد. شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله يقول "بقياس الأولى"، إذا كان المخلوق يخلق من الطين أحياء بإذن ربه، فالأولى خالق المخلوق بقدرة يخلق من التراب ومن الطين أحياء وما يشاء. نحن لا نقول بالقياس إنما البرهان على أن قدرة المخلوق من قدرة الخالق، ليس بالضروة فى الفعل ذاته إنما من حيث المقدرة. إن كان فى مقدور عيسى أن يخلق من الطين طيرا فهى مقدرة حباه الله بها، وضعها فيه خلقا وتكوينا، فكانت قدرة الخالق أعظم، وهب بعض منها لمخلوقه لحكمة هى التأييد لرسوله ولإثبات قدرته جل شأنه فى الخلق. لم يهبها لمخلوق آخر وإلا إنتفت النبوة وإختلف النظر ودخلنا فى التعميمات والإشتراك. أصحاب الكلام يضمنون ذلك فى صفات الله، فنقول أنه تعالى قادر بمقدرة مطلقة بصرف النظر عن صفات المخلوق. فإن توقفت صفات الخالق على صفات المخلوق لم يكن ربا، ما يتوهمونه فى القياس، فباطل كل قياس وتشبيه، تعالى عما يصفون.
لذلك فقد عقب جل شأنه بأن ما آتى به عيسى من معجزات الخلق موقوفة على إذن الله، تأييدا له وتثبيتا، لا أنه وضع صفاته في مخلوقه فيقولون بربوبية المخلوق ويكفرون، قوله الحق:
* وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي *
فيها نفى الربوبية عن عيسى إذا إستقل عمله المعجز فى الخلق عن إرادة الله وإذنه. ذلك أن بين الحياة والموت روح هى من أمر الله، ليست فى مقدور بشر وإن تحدى الكفار الله فى الخلق معاجزين بالعلم إلى قيام الساعة، قوله القاهر فوق عباده:
* وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّ‌وحِ قُلِ الرُّ‌وحُ مِنْ أَمْرِ‌ رَ‌بِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا * (الإسراء: 85)
الأرجح فى التأويل أن تكرارها يعنى الروح عند بثها وعند قبضها، كلاهما من أمر الله. هى الروح القائمة وراء التحدى على الربوبية فى الخلق وقوله: "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"، ينسحب على كل زمان، لم ولن يصلوا بالعلم الطبيعى إلى محاف الروح. أكدها الخلاق العليم بقوله:
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِ‌بَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *(الحج: 73)
المقصد فى تعقيبه جل شأنه على إعجاز عيسى فى الخلق الذى آتى به قومه بقوله: "بِإِذْنِي"، مقصوده بث الروح، ما ليس فى إستطاعة بشر جزما بقوله: "لَن"، وقد ضعف الطالب بعلمه إلى يوم يبعثون، والمطلوب فى دنيئة نسبته إلى خلق السماوات والأرض ومن عليها من أحياء. جمع الضعف فى الحالتين يستتبع ضعف العلم عندهم بنفس النسبة.
أجمل سبحانه بأن ما من نبى يأتى بآية من الإعجاز المؤيدة له إلا بإذن الله، قال الخبير العليم:
* وَلَقَدْ أَرْ‌سَلْنَا رُ‌سُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّ‌يَّةً وَمَا كَانَ لِرَ‌سُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * (الرعد: 38)
     هناك إستثناءات من قاعدة النداء هذه،  لو بحثت فيها ستجدها فى آيات من المتشابهات، إما متشابه المجاز، نحوا أو بلاغة، وإما متشابه التكرار، ولا ينبنى على ظاهر المتشابه قاعدة أو حكم. إحداها قوله العزيز الحكيم:
* وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا * (الأحزاب: 7).
نسبه تعالى إلى أمه مع الجمع والإضافة إلى غيره من الأنبياء، وفى الآية الكريمة متشابه التكرار على المثانى، فيها تفصيل.
الإستثناء تحت الحالة الأولى من الذكر فى قوله البارئ المصور: 

*إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ* (آل عمران: 55)
لم ينسبه تعالى مع الإفراد إلى أمه. الرفع هنا فيه من متشابه الإعتقاد أو الكلاميات، حيث يدل ظاهر القول على الجسمية ومن ثم الجهة فالتشبيه للذات الإلهية. الباقيتان من الإستثناء جاءتا أيضا فى آل عمران (52، 59 سبقت أعلاه) مع قصة النبى، عليه السلام، وفيهما متشابه التكرار والمجاز كليهما. منه كان الإستثناء وتضمينه المتشابه دليلا قائما بذاته يدل على إثبات صحة القاعدة. والله أعلم.
      وسبحانه جل شأنه، تعالى عما يشركون الذى قال:
* ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُ‌ونَ * (مريم: 34)
      مسك الختام كلمات الحكيم العليم:
* قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *
صدق الله العظيم
كل عام وأنتم بخير وسؤدد وسلام بإذنه الخلاق العليم.
-----------------------------
الإنشاء : [Minhageat.com]

فى ذكرى مولده وإشراقة عام جديد: نداء الإعجاز فى عيسى إبن مريم، عليه السلام.

فى ذكرى مولده وإشراقة عام جديد: نداء الإعجاز فى عيسى إبن مريم، عليه السلام. منهاجيات Wed, 01/01/2020 - 11:05

بسم الله الرحمن الرحيم:
* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ  وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚقَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّـهَ  رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ*

صدق الله العظيم

 

      كان حديثنا فى مناسبة ميلاد عيسى بن مريم، عليه السلام، فى الأعوام الماضية عن تبيان مغزى المناسبة فى الإسلام من حيث التقويم وأهمية الشمس للحياة والعبادة والشكر على أنعم الله (مقالة: إشراق جديد وعام 2013م)، وفى مقالة تالية فى العام الماضى من حيث أن مناسبة ميلاد عيسى عليه السلام لا تعدو أن تكون عيدا للمسلمين مثلما هى عيدا للنصارى (2014 م، شمس جديد)، ثم اليوم نتحدث عن المعجزة فى عيسى بن مريم عليه السلام. وربما أعاننا الله بفضله ورعايته أن نسدد مقالات أخرى وشئ من التفصيل عن المنهاج مع عيسى عليه السلام، به تعالى نستعين ونستهدى.
      أشرقت الأرض بنور ربها على عام جديد 2025 م، جعله الله عام خير وسلام ومحبة بين المسلمين والنصارى واليهود، وسائر البشرية شرقا وغربا بإذنه الرؤوف الرحيم. تطلع علينا اليوم ذكرى ميلاد رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام، الرسول الذى إختلف عليه أهله بقدرما إختلف عليه غيرهم.
      إختلف عليه أهله عبر التاريخ من النصرانية الأصلية مع الحواريين الموحدين، حين إنتشرت فى أصولها الموحدة من فلسطين إلى أوروبا عبر الدردنيل، إلى النصرانية المحرفة بالتثليث والشرك بالله فى عصور الظلام الوسطى مع تسلط الكنيسة على الناس وجورها وظلمها وجرمها بإسم الرب، إلى عصر النهضة وعلماء أفاضل أثاروا وأناروا الأرض بالعلم مؤمنين بوحدانية الله نابذين للمسيحية، قى مقالتنا هى النصراينة المحرفة، ناطقين وصامتين، إلى عصر الفضاء والشبكة الإلكترونية والسلاح النووى ورئيس يعلن نفسه ربا كاثوليكيا بالعلم والقوة العظمى. تشيع المسيحيون بالتحريف إلى طوائف عدة بين كاثوليك وأرثوذوكس وبروتستانت ومارمون وبعض من الموحدين، إختلفوا على شرع الله بقدر ما فى المسيحية من تحريف، سواء على الشرع فى تحدده أو الوحى بذاته أو على بنوة الرسول وربوبيته، نستغفر الله ونتوب إليه. فى كل - على قدر علمنا بفضل من الله - لم يعطوا الرسول الكريم حقه من حيث أنه معجزة بذاته فيه وفى أمه عليهما السلام سويا آية للناس تدلل على وحدانية الله وقدرته فى الخلق والمصير.
      رسول إختلف عليه غير أهله حتى مع المسلمين، فمنهم من عادى المسيحية ومنهم من نصرها. لكن الأهم فى مقامنا الإعجاز فى الرسول عليه السلام الذى به حمل على كتفيه عبئ البرهان على الخالق الواحد الأحد ، كما يهمنا المنهاج الذى حملته رسالته الإنجيل مثلها مثل القرآن الكريم. لم يدرك الناس أن الله تعالى جلت قدرته بث فى الرسالات الثلاث منهاجه فى الأرض، موحدا للرسالات أكثر مما وحدتها الشرائع. الشرائع بضرورة التنزيل مصداقا لما بين يدى الرسل تباينت إطرادا يسرا ورحمة على الناس من رسالة ونبوة إلى رسالة ونبوة أخرى، مثل الصيام. إنما المنهاج واحد ثابت البنية فى الرسالات والنبوات مجتمعة، ليس من تباين بينها ولا إختلاف. الدلائل كثر فى الذكر الحكيم منها قوله الحكيم العليم فى عيسى إبن مريم عليه السلام:
* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ  وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚقَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّـهَ  رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * (مريم: 29 - 36)
كرر قوله تعالى: "جَعَلَنِي" مرتين متطابقتين تدليلا على المثانى، وجاءت الثالثة "يَجْعَلْنِي" على الجذر إشارة للمنهاج، وجاءت إشارة المنهاج تثنية ثلاثية بالتطابق فى "يَوْمَ"، بمعنى منهاج المثانى فيها مجتمعة فى وحدة سياقية منهاجية. "الجعل" جاء سابقا فى نفس السورة مع الشرعة والمنهاج، حيث دائما يسبق العام الخاص، قوله العزيز العليم:
* لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْ‌عَةً وَمِنْهَاجًا * (المائدة: 48)
دل الجعل الثلاثى هناك على الجعل هنا، دليلا على المنهاج مؤكدا فى رسالة عيسى عليه السلام الإنجيل. وفى قوله: "لِكُلٍّ" دليل بين على أن المنهاج مثله مثل الشرعة موحى به فى الرسالات الثلاث. الموضوع دسم وذاخر بالعلم وبالبرهان على أنه لا تفاوت فى المنهاج بين الرسالات. ربما كان الدليل على ذلك فى تكرار "يوم" ثلاث مرات، أنه لا تغير بين الرسالات تترى فى الزمن، وأنها دليل على وحدانية الله، رب المرسلين والبشر أجمعين.
فى الآيات الكريمة جاء التدليل على المثانى فى صفتها العامة بأنها المتقابلات فى قوله "وُلِدتُّ" و"أَمُوتُ". أن الإنجيل حمل بمهناج المثانى كما هو الحال مع القرآن الكريم، منهاج واحد بلا تبديل لكلمات الله فى الكون والحياة، الوحدانية والخلق. والله أعلم.
      لعظم الحديث عن المنهاج فى الرسالات الثلاث على أصولها بلا متسع له اليوم ولا فى مجلدات ولا فى عقود من الزمن ولا فى نظر علماء شتى، ففى هذا المقام مع عيسى إبن مريم، عليه السلام، بعد العجالة السابقة نركز بعض الشئ على برهان الخالق جلت قدرته على أنه الخالق، يخلق ما يشاء ويقدر، ويخلق ما لا يعلمه البشر وإن معاجزين.
      فى الذكر الحكيم يقول تعالى للناس أن خلقه لعيسى بن مريم مثل خلقه لآدم عليهما السلام، فيصم التثليث الذى به يقولون أن المسيح إبن الله، يصمه بالشرك والكفر. علامات ذلك نصا متكاثره لكنه تعالى آثر أن يكون نداءه لعيسى عليه السلام بالبنوة التى تثبت الخلق فلا يذكره مفردا إلا مسندا للأم ويناديه "يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ" نفيا لأية أبوة، فقد خلقة الله مثلما خلق آدم الذى خلقه من تراب.
إذا كان من تشبيه وتمثيل فالمعلوم أنه لا يستتبع تطابقا بين المشبه والمشبه به، فإذا كان الله قد خلق آدم من تراب فليس خلق عيسى من تراب أيضا، إنما التمثيل من جهة البنوة ونفى الأبوة، لا الكيفية. قال الخلاق العليم:
* إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَ‌ابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * (آل عمران: 59)
لم يكن خلق عيسى من تراب إنما من رحم مريم الذى فيه الروح ساكنه، الفرق بين الحالتين فى التشبيه التمثيلى. حالة آدم لم تكن تسكن روحا فيما أتى منه، التراب، بينما عيسى كانت هناك روحا كائنة فى مريم. أما روح القدس والذى تمثل لها بشرا سويا هى قدرة الخالق على أن يخلق من المادة الحية ما ليس من طبيعة الأمور إعجازا. يمكن القول هنا بتحوير الجينات الوراثية لا بث الروح فيها حيث لا تفتقر. فإن إجتمع الأب والأم على الإنجاب كان الدور للجينات وتحويرها مع وجود الروح أصلا. فقدرة الله على خلق الحى من المادة الميتة ثابتة كما هى ثابتة فى البعث، هى قدرة أكبر من خلق الحى من الحى، حالة عيسى إبن مريم عليه السلام، وإن تشابها فى البنوة ونفى الأبوة الطبيعية.
      التمثيل من المتشابه يستلزم التأويل بدليل علمى أوعقلى أو نقلى. الإعجاز علميا هو فى تحوير الجينات الوراثية لا بث الروح. تأمل التشبيه ثلاثى الأبعاد بقوله "مَثَلَ" مرتين وبكاف التشبيه. فلو كان خلق عيسى مثل آدم من تراب لأكتفى بالقول: "عيسى عند الله مثل آدم". التشبيه الثلاثى الأبعاد يترتب عليه فروق ثلاث، فيوصلنا إلى الفارق الرئيسى بين الحالتين، آدم من مادة غير حية وعيسى من المادة الحية. الفارق الثانى هو أن مع آدم لم تكن أمومة ورحم، بينما كان ذلك مع عيسى. الفارق الثالث هو الروح القدس، مالم يرد له ذكر فى آدم. التشبيه ثلاثى الأبعاد يترتب عليه مبدئيا إشتراك فى ثلاث، أولها نفى الأبوة والبنوة لله، ثانيها إثبات الخلق للخلاق العليم، وثالثها إصطفاء النبوة لمن حمل الإعجاز من هذا الطريق تبيانا للإعجاز كرسالة لبنى البشر. والله أعلم.
 هنا ندرك مدى ما فى القرآن من علم طبيعى يعجز عنه العلماء المعاجزين بالعلم فى كل أوان ومكان، وفيه التحدى المتكرر، كما ندرك مدى علمية وكفاءة اللغة العربية اللسان المبين فى حمل المعانى العلمية بدقة تعجز عنها الأعجميات.
      إن ذكره الله مفردا سواء "عيسى" أو "المسيح" ألحقه بأمه مريم عليهما السلام، وإن جمعه تعالى مع غيره من الأنبياء والرسل، صلى الله عليهم وسلم، سماه بشخصه "عيسى" دون الأم. فى الأولى يقول الخالق البارئ المصور:
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ * (المائدة: 110)
من المفسرين والنحويين من قال بأن "إذ" حال أو ظرف، بمعنى أن الله تعالى يصف حال عيسى إبن مريم حيث بعثه رسولا وما عدة رسالته. تأمل تكرار قوله "إِذْ" سبع مرات فى آية واحدة، تخصيص له مغزاه فى التكرار. بخلاف الأولى الخاصة بالنداء، ثلاث منها "إِذْ" تناولت المعجزات والآيات التى أتى بها عيسى قومه، والتى أيده بها تعالى لا تنفك عن إرادة الله وإذنه. وكرر ثلاث مرات "إِذْ" لذكر ما أنعم الله به عليه فى الإعتقاد وتثبيت الرسول على إيمانه، الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ثم كف عنه بنى إسرائيل وجاءهم بالبينات. تكرار ثلاثى كرر مرتين، أى ثلاثيتين تشير مرة أخرى  للمنهاج ومثانيه، وبإعتبار التكرار سبع مرات فإشارة للسبع المثانى، ضمن ما أيد الله به رسوله فى الإنجيل، فى نظرنا هو الحكمة فى قوله: "وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ"، ما لم يستدل عليه أحد من قبل - على قدر علمنا وتقديرنا بعون الله - لا فى القرآن ولا فى الإنجيل ولا فى التوراة. إستدلالنا عليه جار بفضل الله وعونه وهداه فى الذكر الحكيم، وفيه جاءت الدلائل على تضمين الرسالتين السابقتين دون الحاجة لسبر أغوارهما، أهل الإنجيل والتوراة أهل لها. لكن من المهم لمن ينظر فيهما أن يتناول الرسالة بلغة النزول، لأن التراجم أو التحريف تطمس معالم المنهاج حيث يقطن غالبه فى المجاز والتكرار اللفظى، على خلاف الشريعة فى إحكام أدلتها وسلاسة ترجمة المحكم من القول. على نفس المنوال فإنك لا تستطيع الوقوف على معظم أدلة المنهاج فى تراجم القرآن. والله أعلم.
ثم بعدها ببضع آيات قال:
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * (المائدة: 116)
دليل المنهاج ومثانيه مرة أخرى فى تكرار "العلم" و"القول" على الجذر ثلاثا، أى ثلاثيتين، وتكرار "نفس" تثنية بالتطابق مع إلحاق الضمير الذى يدل على التقابل فى المثانى. النداء الأول جاء بالأنعم ودلائل الإعجاز والنبوة، ضمنها إعجاز الخلق بنسبته إلى أمه عليهما السلام، وأنه أيده بما هو منه وفيه أن يخلق من الطين طيرا، برهانا على خلقه هو نفسه. فإن كان النبى يؤمن الناس به على أنه يخلق من الطين طيرا حيا، ما يوحى بربوبته عند طوائف المسيحيين، فما بالنا بخالقه وخلاق الكون ومن فيه، يخلق ما يشاء من طين ومن تراب. فى النداء الثانى دلائل الإيمان بوحدانية الله، أنه لم يدعى قط الربوبية كما يدعى أهل المسيحية فى عقيدة تثليثهم. ذكر النداء بهذا المنطوق مرتين فقط إشارة للمثانى، أن المثانى من جهة هى من أركان الإيمان بالله واحد أحد، ومن جهة ثانية أنها سنة الله فى الكون أيد بها أنبياءه ورسله، ومن ثالثة قدرة الله فى الخلق على المثانى كما هو ميزان الأفلاك السماوية، ومن رابعة أن المثانى مبثوثة فى الإنجيل. هى برهان على خلق الله الذى ليس به من تفاوت ولا إختلال بالمثانى، كما أن النداء لعيسى بإبن مريم مرة ثانية توكيد على أن خلقه منسوب للإله القادر البارئ المصور، ليس من أبوة ومن ثم تنفى الشرك بالتثليث والقول بأن عيسى إبن الله.
      الحواريون المؤمنون بوحدانية الله نادوا نبيهم عليه السلام بالمثل بنسبته إلى أمه، إيمانا بإعجاز الله فى خلقه، لا صاحبة له ولا ولد، يخلق ما شاء كيف يشاء، فقال تعالى على لسانهم:
إِذْ قَالَ الْحَوَارِ‌يُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْ‌يَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَ‌بُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّـهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِ‌يدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ اللَّـهُمَّ رَ‌بَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِ‌نَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْ‌زُقْنَا وَأَنتَ  خَيْرُ‌ الرَّ‌ازِقِينَ * قَالَ اللَّـهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ‌ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ * (المائدة: 112 - 115)
فى قصة المائدة جاء النداء وإجابته فى سياق واحد فيه ينسب عيسى إلى أمه مريم مرتين، تدليل المثانى. وفى حال أن سماه بالمسيح مفردا ينسبه أيضا إلى أمه:
*  لَّقَدْ كَفَرَ‌ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْ‌يَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَ‌ادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْ‌يَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْ‌ضِ جَمِيعًا وَلِلَّـهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌ * (المائدة: 17)
تدليل المثانى مرة أخرى. دليل تأكيد ما ذهبنا إليه فى ذكره تعالى مريم بنسبة البنوة إلى الأب، قوله:
* وَمَرْ‌يَمَ ابْنَتَ عِمْرَ‌انَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْ‌جَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّ‌وحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَ‌بِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ * (التحريم: 12)
     أهل الأصول يقولون بالمفهوم والمفهوم المخالف فى إستنباط الأحكام، وهنا المفهوم المخالف لإثبات المفهوم. أن عيسى دون البشر أجمعين نسبت البنوة إلى أمه بلا أب بشرى. جدير بالذكر أن ذكر مريم جاء مفردا دون نسبة الأبوة على مدار الذكر الحكيم إلا فى هذا الموضع توكيدا لما ذهبنا إليه، وبالله التوفيق هو الأعلم.
فى موضع آخر ذكر إبنى آدم ونسبتهما إلى الأب لكن دون ذكر لإسميهما، قوله العليم الحكيم:
 * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّ‌بَا قُرْ‌بَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ‌ * (المائدة: 27)
المعنى نسبة البنوة إلى الأب منذ أبينا آدم عليه السلام. عدا ذلك لم تنسب البنوة لأحد مما جاء ذكره فى الذكر الحكيم. أما قوله تعالى:
*  وَلَمَّا رَ‌جَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ‌ رَ‌بِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَ‌أْسِ أَخِيهِ يَجُرُّ‌هُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * (الأعراف: 150)
 كررت مرتين على مدار الذكر الحكيم، الثانية فى قوله جل شأنه:
* قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَ‌أْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّ‌قْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَ‌ائِيلَ وَلَمْ تَرْ‌قُبْ قَوْلِي * (طه: 94)
المغزى منها يضاف إلى غيرها من الدلائل البينة التى تدلل على أن رسالة موسى عليه السلام التوراة حملت بمنهاج المثانى أيضا مثل الإنجيل والقرآن. قال فيها المفسرون لم نسب هارون فى ندائه بنوة أخيه موسى بالأم لا الأب؟ قيل المقصود من البنوة هو الإستعطاف برحم الأم ، أنهما من رحم واحدة، حتى من المعربين من قال أن "إبن أم" إسم واحد نداءا نسبا لا تسمية وإثبات بنوة. الإمام الطبرى رحمه الله:
<وقال بعض نـحويـي الكوفة: قـيـل: يا ابن أمَّ ويا ابن عمّ، فنصب كما ينصب الـمعرب فـي بعض الـحالات، فـيقال: يا حسرتا، يا ويـلتا، قال: فكأنهم قالوا: يا أماه ويا عماه ولـم يقولوا ذلك فـي أخ، ولو قـيـل ذلك لكان صوابـاً. قال: والذين خفضوا ذلك فإنه كثر فـي كلامهم حتـى حذفوا الـياء. قال: ولا تكاد العرب تـحذف الـياء إلا من الاسم الـمنادى يضيفه الـمنادِي إلـى نفسه، إلا قولهم: يا ابن أمّ، ويا ابن عمّ وذلك أنهما يكثر استعمالهما فـي كلامهم، فإذا جاء ما لا يستعمل أثبتوا الـياء، فقالوا: يا ابن أبـي، ويا ابن أختـي وأخي، ويا ابن خالتـي، ويا ابن خالـي.
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إذا فُتـحت الـميـم من «ابن أمَّ»، فمراد به الندبة: يا ابن أماه، وكذلك من ابن عمّ فإذا كُسرت، فمراد به الإضافة، ثم حذفت الـياء التـي هي كناية اسم الـمخِبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر نسبته كسر ذلك إذا  كسر، ككسر الزاي من خازِ بـازِ، لأن خازِ بـازِ لا يعرف الثانـي إلا بـالأوّل ولا الأوّل إلا بـالثانـي، فصار كالأصوات. وحُكي عن يونس النـحوي تأنـيث أمّ وتأنـيث عمّ، وقال: لا يجعل اسماً واحداً إلا مع ابن الـمذكر. قالوا: وأما اللغة الـجيدة والقـياس الصحيح فلغة من قال: «يا ابن أمي» بإثبـات الـياء، كما قال أبو زَبـيد:
يا بْنَ أُمِّي ويا شُقَـيِّقَ نَفْسِي *** أنْتَ خَـلَّفْتَنِـي لِدَهْرٍ شَدِيدِ
وكما قال الآخر:
يا بْنَ أُمِّي وَلَوْ شَهِدْتُكَ إذْ تَدْ *** عُو تَـمِيـماً وأنْتَ غيرُ مُـجَابِ
وإنـما أثبت هؤلاء الـياء فـي الأم لأنها غير مناداة، وإنـما الـمنادي هو الابن دونها، وإنـما تسقط العرب الـياء من الـمنادى إذا أضافته إلـى نفسها، لا إذا أضافته إلـى غير نفسها، كما قد بـينا. وقـيـل: إن هارون إنـما قال لـموسى علـيه السلام: «يا ابن أمّ»، ولـم يقل: «يا ابن أبـي»، وهما لأب واحد وأم واحدة، استعطافـاً له علـى نفسه برحِم الأم.>

       المقصود إذن بنسبة البنوة فى النداء والتسمية على مدار الذكر الحكيم هو إثبات الإعجاز فى خلق عيسى عليه السلام. منه أن اليهود عندما ينسبون الأبناء للأم فهم يفترون على الله ويقترفون إثما فى حقه تعالى، فضلا عما يتضمنه ذلك من الشك فى الأبوة وما يستتبعه من إنحرافات إجتماعية. يثبت ذلك قول الغفور الرحيم:
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّـهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚوَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * (الأحزاب: 5)
فلا يصح نسبة البنوة لغير الأب، فيه القول عن الأنساب متروك لأصحاب العلم، والله أعلم.
      فى النوع الثانى من الذكر، ذكره الله مستقلا عن الأمومة إذا جمعه مع غيره من الأنبياء والرسل فى أكثر من موضع فى الذكر الحكيم، مثل قوله تبارك أحسن الخالقين:
* قُولُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَ‌اهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّ‌بِّهِمْ لَا نُفَرِّ‌قُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * (البقرة: 136)
فى ذكره تعالى للأنبياء والرسل لم ينسب بنوة أحدهم إلى الوالدين والوالدة بالأخص إلا "عيسى بن مريم" وأمه "مريم إبنت عمران" لما فى ذلك من إثبات الإعجاز والخلق للخالق، فهما سويا آية من آيات الله حيث قال:
*  وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ * (المؤمنون: 50)
      حتى فى نداء الغائب مفردا نسبه تعالى إلى أمه بلا أبوة بشرية نفيا وإستنكارا فى كل مكان لما هى عليه المسيحية المحرفة أنه إبن الله، وبرهانا فى كل مكان على إعجاز الله فى الخلق، خلق عيسى مثل خلق آدم، مثل الإعجاز الذى أيد به تعالى نبيه عيسى بن مريم فيخلق من الطين طيرا إنما بإذن الله. ما يعتقدونه من نسبة الأبوة لله، تعالى عما يصفون، يستتبع أن الأحياء والأرض والسماوات والبكتيريا أولاد وبنات الله وهم يؤمنون بأن الله خلقها، وكل ما خلق كانت بنوته لله إذ لم تثبت أبوة، ما أكفرهم؟!
       فكيف يؤمنون بقدرة النبى ولا يؤمنون بقدرة خالق النبى؟ فيها مسألة كلامية عند من يقولون بالقياس فى الإستدلال على الغائب بالشاهد. شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله يقول "بقياس الأولى"، إذا كان المخلوق يخلق من الطين أحياء بإذن ربه، فالأولى خالق المخلوق بقدرة يخلق من التراب ومن الطين أحياء وما يشاء. نحن لا نقول بالقياس إنما البرهان على أن قدرة المخلوق من قدرة الخالق، ليس بالضروة فى الفعل ذاته إنما من حيث المقدرة. إن كان فى مقدور عيسى أن يخلق من الطين طيرا فهى مقدرة حباه الله بها، وضعها فيه خلقا وتكوينا، فكانت قدرة الخالق أعظم، وهب بعض منها لمخلوقه لحكمة هى التأييد لرسوله ولإثبات قدرته جل شأنه فى الخلق. لم يهبها لمخلوق آخر وإلا إنتفت النبوة وإختلف النظر ودخلنا فى التعميمات والإشتراك. أصحاب الكلام يضمنون ذلك فى صفات الله، فنقول أنه تعالى قادر بمقدرة مطلقة بصرف النظر عن صفات المخلوق. فإن توقفت صفات الخالق على صفات المخلوق لم يكن ربا، ما يتوهمونه فى القياس، فباطل كل قياس وتشبيه، تعالى عما يصفون.
لذلك فقد عقب جل شأنه بأن ما آتى به عيسى من معجزات الخلق موقوفة على إذن الله، تأييدا له وتثبيتا، لا أنه وضع صفاته في مخلوقه فيقولون بربوبية المخلوق ويكفرون، قوله الحق:
* وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي *
فيها نفى الربوبية عن عيسى إذا إستقل عمله المعجز فى الخلق عن إرادة الله وإذنه. ذلك أن بين الحياة والموت روح هى من أمر الله، ليست فى مقدور بشر وإن تحدى الكفار الله فى الخلق معاجزين بالعلم إلى قيام الساعة، قوله القاهر فوق عباده:
* وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّ‌وحِ قُلِ الرُّ‌وحُ مِنْ أَمْرِ‌ رَ‌بِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا * (الإسراء: 85)
الأرجح فى التأويل أن تكرارها يعنى الروح عند بثها وعند قبضها، كلاهما من أمر الله. هى الروح القائمة وراء التحدى على الربوبية فى الخلق وقوله: "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"، ينسحب على كل زمان، لم ولن يصلوا بالعلم الطبيعى إلى محاف الروح. أكدها الخلاق العليم بقوله:
* يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِ‌بَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ *(الحج: 73)
المقصد فى تعقيبه جل شأنه على إعجاز عيسى فى الخلق الذى آتى به قومه بقوله: "بِإِذْنِي"، مقصوده بث الروح، ما ليس فى إستطاعة بشر جزما بقوله: "لَن"، وقد ضعف الطالب بعلمه إلى يوم يبعثون، والمطلوب فى دنيئة نسبته إلى خلق السماوات والأرض ومن عليها من أحياء. جمع الضعف فى الحالتين يستتبع ضعف العلم عندهم بنفس النسبة.
أجمل سبحانه بأن ما من نبى يأتى بآية من الإعجاز المؤيدة له إلا بإذن الله، قال الخبير العليم:
* وَلَقَدْ أَرْ‌سَلْنَا رُ‌سُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّ‌يَّةً وَمَا كَانَ لِرَ‌سُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * (الرعد: 38)

     هناك إستثناءات من قاعدة النداء هذه،  لو بحثت فيها ستجدها فى آيات من المتشابهات، إما متشابه المجاز، نحوا أو بلاغة، وإما متشابه التكرار، ولا ينبنى على ظاهر المتشابه قاعدة أو حكم. إحداها قوله العزيز الحكيم:

* وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا * (الأحزاب: 7).

نسبه تعالى إلى أمه مع الجمع والإضافة إلى غيره من الأنبياء، وفى الآية الكريمة متشابه التكرار على المثانى، فيها تفصيل.
الإستثناء تحت الحالة الأولى من الذكر فى قوله البارئ المصور: 

*إِذْ قَالَ اللَّـهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ* (آل عمران: 55)

لم ينسبه تعالى مع الإفراد إلى أمه. الرفع هنا فيه من متشابه الإعتقاد أو الكلاميات، حيث يدل ظاهر القول على الجسمية ومن ثم الجهة فالتشبيه للذات الإلهية. الباقيتان من الإستثناء جاءتا أيضا فى آل عمران (52، 59 سبقت أعلاه) مع قصة النبى، عليه السلام، وفيهما متشابه التكرار والمجاز كليهما. منه كان الإستثناء وتضمينه المتشابه دليلا قائما بذاته يدل على إثبات صحة القاعدة. والله أعلم.

      وسبحانه جل شأنه، تعالى عما يشركون الذى قال:

* ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْ‌يَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُ‌ونَ * (مريم: 34)

      مسك الختام كلمات الحكيم العليم:

* قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ *

صدق الله العظيم

كل عام وأنتم بخير وسؤدد وسلام بإذنه الخلاق العليم.

-----------------------------

الإنشاء : [Minhageat.com]