منهاج:

قبس من كتاب "إشراق المنهاج" (2)

قبس من كتاب "إشراق المنهاج" (2)

By المنهاج | 1:09 PM EET, Wed June 22, 2022

من الباب الأول، الفصل الثانى:

ج) وجهــان لعمــلة واحــدة

            لنبدأ مع مفكرى الإسلام المعتبرين. الإمام الرازى، رحمه الله، فى تفسيره يقول: “ من الناس من عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدل، وإحتج بوجوه. أحدها: أنه تعالى قال: ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾، وهذا يقتضى نفى جميع أنواع الجدال، ولو كان الجدال فى الدين طاعة فكان أولى بالترغيب فيه. وثانيها قوله تعالى:

﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾   [الزخرف: 58]

عابهم بكونهم من أهل الجدل، وذلك يدل على أن الجدل مذموم، وثالثها قوله:

﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾   [الأنفال: 46]

نهى عن المنازعة "  [15ب1]. منه أن تحريم الجدال فى الحج اقترن بالرفث وبالفسوق، بالمنطوق على المحل وهو الحج، وإنفصلا فى الأسباب بتخصيص النفى لكل على حدة. فكان هناك تباين فى أسباب النفى بين المطالب الثلاثة: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ، ولم يقل { لا رفث وفسوق وجدال } أى جَمْع الحكم، ولكن فَرَّقه وقَسَّمه [18أ3]. ساحت المعانى عند البعض بهذا المقدر، وأصبحت كل هذه محرمات فى الحج بنفس الرتبة، وهو ذكر الرازى السابق وبحثهم فيه. أما أدلة الرفث وهو الجماع التى تستثنيه وتحرمه فى الحج فقط فلا تحتاج إلى نقاش، ويؤخذ الأمر على ظاهره كمنتهى فى مقامنا. وأما تلك الخاصة بالجدال فحولها خلاف، إلا أنه إرتبط بالفسوق تحريماً فى الحج وغير الحج فى نظر البعض. وتعجب لماذا ورد ذكر النهى عن الفسوق فى مقام الحج بالرغم من أنه منهى عنه فى العموم؟! فى نظرنا لترميز التباين فى الأسباب. والله أعلم.

            إيضاحا للتباين فى الأسباب: فلا أحد يقول بالنهى عن الرفث عموماً فى الحج وغيره، ولا أحد يقول أيضاً بالنهى عن الفسوق فى الحج فقط لا فى غيره، فثبت التباين بتخصيص النفى لكل على حده. من ثم لزم البحث فى أدلة نفى الجدال فى الحج منفصلة عن أدلة الرفث وأدلة الفسوق. تلك هى أيضا وجهة النظر فى التفسير عند الإمام الزمخشرى، رحمه الله، الذى قال: "وقرىء المنفيات الثلاث بالنصب وبالرفع، وقرأ أبوعمر وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب، لأنهما حملا الأولين على معنى النهى كأنه قيل فلا يكون رفث ولا فسوق، والثالـث على معنى الإخبار بإنتفاء الجدال كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف فى الحج. وإستدل على أن المنهى عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقولـه، ﷺ: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه" وأنه لم يذكر الجدال " [17]. ذهب الإمام القرطبى، رحمه الله، إلى نفس النتيجة حين قال في تفسيره: " وإختلف العلماء فى المعنى المراد به هنا على ستة أقوال... قلت: فعلى هذين التأويلـين لا جدال فى وقته ولا فى موضعه، وهذان القولان أصح الأقوال "  [26ج]. فإنصرف معنى النفى فى الجدال إلى حكمة الحج كشعيرة من شعائر الإسلام وفرض من فروضه على القادر عليه، كذلك وقته وموضوعه وكيفيته، من باب الطاعة، ولم ينصرف إلى الجدال نفسه بتحريمه كفاعلية نقاشية أو مناظرات.

            هذه النتيجة تبين إلى أى مدى يمكن الخطأ والتعاكس فى مقاصد الإسلام لو إستسلم النظر للظاهر من النصوص الدينية دون تدبر وتمحيص وبحث، على أساس من منهج تفسيرى صحيح وأدلة ثابتة، ذلك أن عموم الإستسلام لظاهر المنطوق نفى لإعجاز الذكر الحكيم. فالظاهر من المنطوق تحريم الجدال إبان الحج، إنسحب عند البعض إلى تحريمه خارجه أيضاً فعمم التحريم بعيدا عن مرمى الموضوعية، والمقصود على حقيقته بالتأويل لا هذا ولا ذاك، حتى لا يتصور النهى عن أن يتجادل المسلمون فيما بينهم فى أمـور دينهم ودنياهم أثناء الحج، ومن الدعاة والمفسرين والمفكرين من ينظر إليه نظرة أعظم مؤتمرات المسلمين قاطبة متجردين من عتاد الدنيا وزينتها متوجهين إلى الله عز وجل بالقربى فى العبادة والطاعة فى اتباع أوامره وإجتناب نواهيه، والإستقامة على سنته وإتيان فروضه، فكيف فيه ينهى عن الجدال بين المسلمين ومقارعة الحجة بالحجة قضاء على الخلافات الظاهرة، ونيلاً للموافقة واليقين فى الأمر أو الدعوة إلى الإسلام الحق على تمام الإيمان فى مقاصده، مما هو مفترض عدم تحصيله فى غالبية الحجيج، وهو مطلوب نصاً ظاهراً وباطناً، فى الحج وغيره؟

            مثل ذلك في تفسير قوله تعالى:

﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّـهِ قَانِتِينَ ﴾   ]البقرة: 238[

اختلف العلماء اختلافا كبيرا على ماهية الصلاة الوسطى، وساقوا أدلة على صلاة الصبح أنها المقصودة، وأدلة على الظهر والعصر والمغرب دون العشاء، على أي منها هي الوسطى زمنيا بلا اتفاق. لو أن ذلك من قبيل التخصيص لذكر الزمن بتعليل. لكنا هنا مع منهاج المثانى والتشابه في تكرار الصلاة، ومن جهة الجمع والإفراد (شرحه في الباب الثانى بعون الله)، ومن جهة الوسطية في الإسلام، لا توقيت الصلاة الذى جاء شاملا في الجمع. القرآن يفسر بعضه بعضا، وتفسير الآية الكريمة فى قوله تبارك وتعالى:

﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ﴾   ]الإسراء: 110[

فكانت ﴿ الْوُسْطَىٰ ﴾ بمعنى ﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ﴾، في الصلوات الخمس، فمطلب المحافظة على الوسطية دون تفضيل بينها في التوقيت. الإمام الرازى، رحمه الله، في تفسيره بعد إسهاب وذكر مقالات السلف وتعديد للأدلة على المرجح الزمنى للصلوات الأربع، قارب معنا وقال: " فإن قيل: الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد، وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة، قال تعالى ﴿ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]  أي عدولاً وقال تعالى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾  [القلم: 28]  أي أعدلهم ".  فإذا كان المطلب الحفاظ على كل الصلوات فلا يعقل تخصيص الحفاظ بالتأويل، يؤيده قوله تعالى: ﴿ قَانِتِينَ ﴾، فإنسحب الحفاظ إلى الكيفية لا التوقيت، وحيلت إليها الوسطية. كذلك في آية الحج، فلا يعقل أن ينهى عن الفسوق في حالة الحج فقط، بينما هو منهى عنه بإطلاق، وحيل الاستدلال لمعنى آخر غير التخصيص.

            ذهب الرازى فى تفسيره لآية الحج هذه إلى مدى أبعد فى إثبات الجدال حين إستدل بقوله تعالى:

﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾   [النحل: 125]

وقوله تعالى:

﴿  يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾   [هود: 32]

فقال: " ومعلوم انه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين "، وهما نفس الآيتين اللتين إحتج بهما جمهور المتكلمين وقالوا: “ الجدال فى الدين طاعة عظيمة “. ذَكَرَه الرازى عنهم، ورأى فى هذا التعارض الظاهر بين أدلـة النهى وأدلة الأمر هو أنه: " لا بد من التوفيق بين هذه النصوص، فنحمل الجدل المذموم على الجدل فى تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح على الجدل فى تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله ". يتكلم عن الجدل ومقصوده الجدال، كما سيأتى بعد بإذن الله.

            نحن فى نظرنا لا نقول بالتعارض ولا نسعى إلى التوفيق، لأن كل هذه الأدلة وجهان لعملة واحدة هى الجدال: الوجه الأول محمود فيه قول المؤمنين بالحكمة والموعظة الحسنة، والوجه الثانى مذموم فيه قول الكفار ومن يناطحون الدين الإسلامى بالباطل ليدحضوا به الحق، وكلا الوجهين إثبات للجـدال، ولم ينه سبحانه عن الجدال، وإنما قرر مسلك وأدوات المؤمنين فيه.

            أدلة تحريم الجدال فيما غير آية الحج (البقرة: 197) لم تفسر ولم تؤول بالاستقراء الصحيح على المثانى. فمفهوم الجدال كما هو معروف فى الفكر الإسلامى، كما يستبين بعد بإذنه تعالى، هو قول بحجة وبرهان بين طرفين، نقاش. أن الطرف الآخر فى مقابل المؤمنين فى الجدال ونقاشه، يجادل بالباطل وهذا متوقع منهم، فليس معنى ذلك تحريم الجدال على المؤمنين، إلا أن يجادلوا هم بالباطل مثلهم، وكون الجدال على هذا الوجه فهو مذموم قطعـاً، أياً كان السالك له. الوجه الآخر هو القول بالحق، مطلوب ومأمور به، كما فى آيتى (النحل: 125) و(هود: 32). فكل الأدلـة لا تنفى الجدال بل تثبته. ونعتقد أن ما حدث ويحدث من سوء فهم للقصد فى القرآن الكريم يرجع غالباً لوقوع أهل اللغة فى أسر الجملة، ولا يسقط ذلك أهميتها فى التفسير وإدراك المعانى وتحرير المفاهيم وتقرير المقاصد. فنحن معهم فى أن اللغة هى الأساس فى تدبر القرآن الكريم، كيف لا وقد أنزله العزيز الحكيم قرآناً عربياً مبيناً لا عوج فيه؟ لكنها لا تعدو أن تكون مفتاح التفسير، وما عداه لا يخص علم بذاته.

            أصحاب الأصول يقولون بالمفهوم وأن هناك أيضاً مفهوم المخالفة، أي المفهوم ومقابله، أو الإيجاب والسلب. فإذا أثبت الشىء فى موضع على وجه، فهو سبحانه ينفى مقابله أو ضده على الوجه الثانى فى نفس الموضع أو فى موضع آخر. هذه المنهجية وصفها الإمام الشاطبى، رحمه الله، بقولـه: " إذا ورد فى القرآن الترغيب قارنه الترهيب فى لواحقه أو سوابقه أو قرائنه وبالعكس. وكذلك الترجية مع التخويف، وما يرجع إلى هذا المعنى مثله. ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار، وبالعكس؛ لأن فى ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجيه، وفى ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفاً، فهو راجع إلى الترجية والتخويف "  [19ب3].

            فإذا كان المستدل والمتفق والمجمع عليه نصاً ألا تعارض بين القرآن والسنة فى المقاصد والأحكام لأنها بيان له، فإن ذلك يصدق بنفس الدرجة وربما أكثر فى المنهاج، مما حدا بالمنذري، رحمه الله، أن يؤلف كتابه معنونا "الترغيب والترهيب" [29] فى السنة النبوية والأحاديث الشريفة. لا غرو إذن أن ينطبع فكر علماء الإسلام بهذا المنهج، يذكر الجاحظ، رحمه الله، عن ابن سنان لما سئل ما عندك قال: " عندى قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب؛ آمر فيها بالتواصل وأنهى فيها عن التقاطع.. فقيل: هلا إكتفى بالأمر بالتواصل عن النهى عن التقاطع، أو ليس الأمر بالصلة هو النهى عن القطيعة؟ قال: أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان فى العقـول عمـل الإفصاح والتكشـف؟"[11ه].

            من ثم فليس من تعارض بين الأدلة فى الجدال بمنهج المثانى لأنهما وجهان لعملة واحدة. ومن تعريف الجدال بأنه قول بالحجة والبرهان بين طرفين، فليس هناك جدال من طرف واحد، أو كما قال شاهين محقا فى نقده لأبوزيد "يتجادل مع نفسه". على أساس مفهوم المخالفة، متى ذكر ذم جدال الكفار بالباطل، كان المسكوت عنه هو مدح جدال المؤمنين بالحق، والعكس صحيح، يعضده الدليل بالمفهوم المخالف أو المضاد فى موضع آخر. المسكوت عنه فى الحالة الأخيرة هو عكس العكس بالنسبة للأولى، وقد قيل نفى النفى إثبات.

قوله سبحانه:

﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾   [الكهف: 56]

بالضرورة الجدالية وبمفهوم المخالفة على المثانى [8أ]، فإنه كذلك يفيد "ويجادل الذين آمنوا بالحق ليدحضوا به الباطل" فى نفس موضوع الجدال. فمن أين جاءهم الحق الذى يريدون أن يدحضوه فى جدالهم؟ من المؤمنين فى جدالهم معهم، مباشرة أو بطريق غير مباشر، فالإثبات هنا لفعل الجدال "يجادل" ينسحب على الكفار وعلى المؤمنين سواء بسواء. دليل تعضيده هو قوله تعالى:

﴿  وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾   [النحل: 125]

نفس الدليل بالمفهوم العكسى للآية الأولى (الكهف: 56)، وزيادة بالأحسن. المسكوت عنه أو المفهوم العكسى لهذه الآية هو أن الكفار يجادلون بحجـة وبرهان ودليل من طرف، ويجادلهم المؤمنون بما هو أحسن مما عندهم من الطرف الثانى. ففرض الجدال على المؤمنين من هذا المنطلق، وهو أساسـاً الدعوة إلى دين الإسلام، وهو الذى أدى بالمتكلمين أن يقولـوا: " الجدال فى الدين طاعة عظيمة ". الأصح منها فى هذا الشأن "الجدال بالدين طاعة عظيمة". لذلك سبيلان: الأول هو أن يتجادل المؤمنون فيما بينهم على التدبر لتقرير أمور الدين وأصوله كما قال الإمام الرازى، بل تكييف أحكامها وتحريرها. الثانى أن يتجادل المؤمنون مع الكفار يقارعونهم الحجة بالحجة والدليل بالدليل والبرهان بالبرهان، إنما الأحسن والأفضل، وفى ذلك نصر للإسلام والمسلمين. شواهده فى التاريخ كثيرة حتى أن بلاداً كثيرة دخلت فى الإسلام وقبلت الجزية دون حروب من طريق الجدال. لو لم يجادلهم المسلمون أولا لكانت حروب وطيسة على منوال بعض ما حدث، لكن ذلك مخالف لمعطيات المنهاج الإسلامى فى تنزيل العقل منزلة رفيعة وإعلاء شأنه ببث الرسالات إليه.

            كان ذلك هو مطلب الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وأمراء المؤمنين من بعدهم لقوادهم فى الفتوحات، طلباً ثابتاً كالفريضة إقتداءاً بالصادق الأمين ، وارتفاقاً بمنهجه وهو الممتثل الأول لأوامر ربه جل شأنه عندما خاطبه: ﴿ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ﴾، وقال له: ﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ﴾. يروى ابن كثير عن غزوة القادسية فى عهد عمر بن الخطاب، رضى الله عنه:

" فكتب سعد إلى عمر بذلك فكتب إليه عمر: " لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، وإستعن بالله وتوكل عليه، وإبعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأى والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم وفلجاً عليهم " ... ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنـه. فبعث إليه المغيرة بن شعبة، رضى الله عنه. فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنـا. فقال له المغيرة: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة،  وقد بعث الله إلينا رسولاً قال له: إنى قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بدينى فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبـة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز، فقال له رستم: فما هو؟ فقال أما عموده الذى لا يصلح شىء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله،  فقال: ما أحسن هذا؟! وأى شىء أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله. قال: وحسن أيضاً وأى شىء أيضاً؟ قال: والناس بنو آدم، فهم أخوة لأب وأم، قال وحسن أيضاً. ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا فى دينكم أترجعون عن بلادنا؟ قال: إى والله ثم لا نقرب بلادكم إلا فى تجارة أو حاجة، قال: حسن أيضاً. قال (الراوى): ولما خرج المغيرة من عنده ذَاكَرَ رستم رؤساء قومه فى الإسلام فأنِفوا ذلك وأبَوْا أن يدخلوا فيه ...".

" قالوا: ثم بعث إليه سعد رسولاً آخر بطلبه وهو ربعى بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارِق المذهبه والزرابى الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعى بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبَيْضَته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إنى لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتمونى فإن تركتمونى هكذا وإلا رجعت. فقال رستم: إئذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ماجاء بكم؟ فقال: الله إبتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتهـا، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضى إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم! كم أحب إليكم؟ يوماً أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فأنظر فى أمرك وأمرهم وإختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم. فإجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا معاذ الله (!) أن تميل إلى شىء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابـه، فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وأنظروا إلى الرأى والكلام والسيرة. إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الحساب ". (المضمون سابق على الشكل)

               " ثم بعثوا يطلبوا فى اليوم الثانى رجلاً فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلم نحو ما قال ربعى. وفى اليوم الثالث المغيرة بن شعبة فتكلم بكلام حسن طويل. قال فيه رستم للمغيرة: إنما مثلكم فى دخولكم أرضنا كمثل الذباب فى العسل. فقال: من يوصلنى إليه ولـه درهمان؟ فلما سقط عليه غرق فيه، فجعل يطلب الخلاص فلا يجده، وجعل يقول من يخلصنى ولـه أربعة دراهم؟ ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل جحراً فى كَرْم، فلما رآه صاحب الكرم ضعيفاً رحمه فتركه، فلما سمن أفسد شيئاً كثيراً فجاء بجيشه، وإستعان عليه بغلمانه فذهب ليخرج فلم يستطع لسمنه فضربه حتى قتله، فهكذا تخرجون من بلادنا. ثم إستشاط غضباً وأقسم بالشمس لأقتلنكم غداً. فقال المغيرة: ستعلـم. ثم قال رستم للمغيرة: قد أمرت لكم بكسوة ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنـا. فقال المغيرة: أبعد أن أوْهَنَّـا ملككم وضَعَّفْنا عزكم، ولنا مدة نحو بلادكم ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون وستصيرون لنا عبيداً على رغمكم؟! فلما قال ذلك إستشاط غضباً...".

" وكتب سعد إلى عمر يخبره بالفتح وبعدة من قتلوا من المشركين، وبعدة من قتل من المسلمين، بعث بالكتاب مع سعد بن الفزارى وصورته: أما بعد فإن الله نصرنا على أهل فارس ومنحناهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراؤون مثل زُهائها فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبوه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار، وصفوف الآجام، وفى الفِجاج. وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارىء وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوى النحل، وهم آساد فى النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقى إلا بفضل الشهادة إذا لم تكتب لهم. "  [7أ].

            لم يكن الجدال إذن فى واقعهم، رضوان الله عليهم ورحمته، فى العقيدة بالحجة والدليل والبرهان، بالكلام الملفوظ، إنما أيضاً التطبيق بالسلوك وبالعمل، بالتخطيط لكل الاحتمالات، وهوالمعنى اللغوى للفظ "الجدال" كما سيأتى بعد إنشاء الله. لم يكن طلبهم إلا عزة الإسلام ونصرته، نذروا له أرواحهم فداءاً له، ونصرهم الله وهم قلة فى الجيش أفراداً وعتاداً وبعداً عن الدعم والعون. فكانت الحجة هى جيش المقدمة لأن العقل فى المنهاج الإسلامى كذلك فى المناط، وكانت هى السلاح الأغلب فى فتح دمشق ومصر، فلم تدر فيهما رحى الحرب إلا القليل، وكانت مسلحة بقوة الإيمان وشدة العزيمة والشكيمة فى الرجال قبل العتاد. وقيل فى أيامنا هذه: "الحرب الحديثة حجة"، أو ما معناه.

            فى خطاب الحق سبحانه لنبيه الكريم ، أدلة أخرى لإثبات أن الجدال بين طرفين هو المقصود فى ذكره من طرف واحد وإن كان بالنهى عنه لمسلكه. قال تعالى:

 ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ﴾   [الأنفال: 6]

وقال:

 ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾   [الأنعام: 25]

وقال:  

﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ﴾   [النساء: 107]

وقال:

﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾   [النحل: 125]

الآيتان الأوليتان تثبتان أن الكفار يجادلون الرسول الكريم ، بالباطل. الثالثة تثبت أوامره سبحانه له بجدالهم. فنهاه عن الجدال عن الذين يختانون أنفسهم كفئة، أى الدفاع عنهم، ما هو بمفهوم المخالفة أمر بالجدال والدفاع عن الفئات الأخرى المؤمنة. جاء الأمر صريحاً بالمنطوق فى الرابعة، الجدال بالحسنى والأحسن. قوله تعالى:

  ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾   [العنكبوت: 46]

هو أمر من الحق تبارك وتعالى لعباده المؤمنين المسلمين بأدوات الجدال، بأن يجادلوا أهل الكتاب بما هو أحسن مما بين أيديهم، شكلاً ومضموناً بالضرورة. بالشكل فى الخطاب بالأسلوب المهذب والحسنى، بالأبلغ والأفصح والأكثر بياناً، وفى المضمون بالحجة الأبلغ والدليل الأنصع والبرهان الأدمغ، ويحتمل المعنى البعيد هنا على التورية الأحسن من الجدل نفسه، قواعده ومبادئه وسبله وغاياته، بمعنى الجدال فى موضوع الجدل، ودليل تأكيد هذا المعنى قوله تعالى:

 ﴿ أدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾  [النحل: 125]

الأحسن فى مضمون الحكمة عندهم داخل فيه الجدال والجدل، وربما -والله أعلم- وقف الإمام الجوينى، رحمه الله، على هذا المفهوم فقعَّد قواعد الجدال ومناطاته فى كتابه "الكافية فى الجدال" [13]، وقال الرازى بهذا المنحى أن يتجادل المسلمين فيما بينهم لتقرير وبيان ما غمض من حقائق الدين فى الفقه وأصوله.

يقول ابن عبد البر، رحمه الله، فى كتابه "بيان العلم"، مَوْبوءاً بالتكفير فى عصره:  " نهى السلف رحمهم الله عن الجدال فى الله عز وجل فى صفاته وأسمائه، وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع إلى الأصول للحاجة إلى ذلك وليس الاعتقادات كذلك"... ثم ساق هذا الشعر:

أجادل كل معترض خصيم         # # #           وأجعل دينه غرضاً  لدينى

فأترك ما علمت لرأى غيرى       # # #           وليس الرأى كالعلم اليقينى

فلست مكفـراً أحـداً يصلى           # # #           ولم أجرمكم أن تكفرونى "

            من نافلة القول أن الديمقراطية لا تستقيم بالرأى الواحد فقد عفى الزمن على الديكتاتورية به، وكانت الشورى فى الإسلام ثابتة والجدال بالحجة فيه وبه مطلوب، واستقام الأخير مبدأً عمت الديمقراطية به وجه الأرض فكراً، وإن لم تحزه زرعاً. ومن عادى الجدال كأنه عادى الديمقراطية وعادى الإسلام سواء، وقَبَّعه فى جب من التاريخ كئيب تمتد دهاليزه ودروبه إلى وقتنا الحاضر. وعليه فلا تستقيم الديمقراطية النيابية إلا بمن يملك أدوات الجدال بالحجة والدليل والبرهان والمضامين المؤثرة، لا سفسطة ولا بهرجة ولا تمظهر، مثلما كان عليه الصدر الأول فى الإسلام وقد ضربنا المثل بسياسة عمر وتوجهاته فى الدعوة والحروب واختيار سعد لأفضل الرجال وأشجعهم، رضوان الله ورحمته عليهم جميعاً. بقى أن ننوه إلى أن المفهوم الذى تناولنا به "الجدال" ليس هو مفهوم "الجدل" فى العموم، فهناك فرق سوف نوضحه فى حينه إنشاء الله تعالى، وبه التوفيق.