التكرار من تساؤلات المنهاج.
التكرار من تساؤلات المنهاج.
بسم الله الرحمن الرحيم
أهم تساؤلات المنهاج:
4- التكرار.
5- التأويل.
6-السبع المثانى والفاتحة.
7- خاتمية الرسالة.
8- الإكنان.
9- الإحكام.
10- المصطلح.
رابعاً: التكرار.
لغة المنهاج تبدأ بالتكرارمروراً بطرق التأويل المنهاجى والسبع المثانى والجدل فيها والمنهاجيات وأبواب المنهاج وإنتهاءأ بقوله عز وجل: " إِلَّا قَلِيلًا " فى سورة يوسف وتأويل حلم الملك، ذلك حسب ما تحصلنا عليه من المنهاج إلى الآن، بهدى وفضل من الله الحكيم العليم، جل فضله. التكرار من تعريف الجمهور للمتشابه هو أنه يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً. فيكون التكرار من تشابه بعضه لبعض، ومتى كان تكرار كان متشابه، فيضفى التكرار على آحاده صفة المتشابهات ولو كانت محكمات، وقعت فيها الإحتمالات وبات لها مطلب التأويل وعدت من المنهاج.
تعريف بعض العلماء للمتشابه من أنه يحتمل وجوهاً فإن ردت الوجوه إلى وجه واحد وأُبطل الباقى صار محكماً، تعريف غير مستقيم. ذلك لأن الوجوه عرفت من قول على، رضى الله عنه: "القرآن حمال أوجه"، وهذه المقولة تقع فى التحليل وليس التأويل، تحليل الدلالة والوقوف على عناصرها، وقد أوضحنا الفرق بينهما فى كتاب "إشراق المنهاج"، وفى هذه المدونة مقالة "الدلالة أفقيا ورأسيا". فالوجوه لا تبطل لأنها تثبت وجهاً أو زاوية للدلالة فى كلام الله، مثل وجه إعتقادى وآخر شرعى وثالث منهاجى أو رابع إعجازى لنفس الدليل، وهذه لا تبطل، إنما كل منها يتطلب التأويل أو لا يعتمد على النص إن كان محكماً أو متشابهاً لغوياً فى الآحاد أو تكرارياً. والتأويل يكون لما داخلته الإحتمالات، وهنا يصح القول بأن المتشابه الذى يحتمل إحتمالات، فإن ردت الإحتمالات لإحتمال واحد وأبطلت الباقيات صار محكماً. علي أن ذلك في الدليل الإفرادي، الآحاد. هذا متبع فى شتى العلوم الطبيعية والنظرية، فيها القول بالفروض فى محل الإحتمالات، فإذا ثبت فرض منها أنه الصحيح، بالتجربة أو الدليل القطعى أو الراجح، وبطلت باقى الفروض توصل الباحث إلى الحقيقة العلمية المرجوة.
التأويل فى المنهاج يختلف عن هذا الطريق، الذى عجز عن الوصول إلي المنهاج، نبينه فيما بعد بعون الله، مطلبه يثبت بثبوت التكرار. فلماذا التكرار ويشبه بعضه بعضاً؟ تجد الإجابة فى المنهاج وما يلى من تساؤلات مقتضباً. مبتدى الإجابة هو بُغية اليقين. لأنه متى كان متشابهاً شابه الظن والإحتمال فى ظاهره، فكيف تصل إلى اليقين؟ فى منهاج القرآن بالتكرار. نقول دائماً أننا نتدبر القرآن بمعاول قرآنية، طبقاً لقوله جل شأنه: " وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ " (فصلت: 12). وهنا أولها وأهمها، قول أحكم الحاكمين:
* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * (التكاثر: 3 – 5)
تأمل التكرار (الألوان لإيضاح الدلالة المنهاجية): الأول والثانى للفعل " تَعْلَمُونَ " متطابقان فى الخبر، أما الثالث فقد وصفه تعالى ب " عِلْمَ الْيَقِينِ". الرابط بينها " كَلَّا " فى ثلاثية. ومادام المطلوب هو اليقين فى العلم، لزم تكرار هذا المطلوب نفسه ثلاثاً لإثبات معول التأويل الذى نتحدث عنه، من ثم يسوغ إتباعه ضمن طرق التأويل المنهاجية، تجده كثيراً فى القرآن أوضحه فى سورة البقرة وقصتها، قول العليم الحكيم:
* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴿٦٨﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿٦٩﴾ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿٧٠﴾ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ * (البقرة: 68 – 71)
مع إجابة سؤال التبيين الثانى وصف جل ذكره البقر بالتشابه، بمعنى كثير الإحتمال، وبمعنى أن الإجابتبن الأولتين ليستا بكافيتين لعلم اليقين. كثير من علماء التفسير استدلوا على تعريف المتشابه من هذا الموضع أنه كثير الإحتمال. أما مع الإجابة الثالثة إرتفع التشابه ووصف تعالى المعطى بالحق المطلوب علمه يقيناً. وعليه لا يثبت علم اليقين بالحقيقة إلا فى التكرار الثالث.
قصة البقرة هذه ثرية الدلالة عليها تفصيل جم لأن بها مبدأ الوسطية فى الإسلام منهاجياً، بلغة المنهاج "منهاجية الوسطية"، وبها إجابة حدود الماهية الفلسفية " مَا هِيَ "؟ تكرر مرتين. الإجابة تَعتبر ثنائيات "الجزء والكل" و"الشكل والمضمون" و"الكيف والكم" من السبع المثانى، فضلا عن الأعراض أوالصفات والوظيفية. والله أعلم.
مثل ذلك فى عدد أهل الكهف، وهى سورة التأويل الثانية فى القرآن بعد سورة يوسف، قول الحكيم العليم:
* سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا * (الكهف: 22)
وصف عز وجل العد الأول والثانى بالرجم بالغيب، ثم أطلق الثالث ليكون عكسه، أنه يقينى ويكون عددهم سبعة، " رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ "، مثل ما فى واو والراسخون، فلا شك أن الراسخين قلائل. إستنتج العدد سبعة الرازى، رحمه الله، بتفسيره من طريق آخر. تأمل قوله تبارك وتعالى: " فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا " مخالجة الشك وعليه الإحتمال فى التأويل، والنهى عن المراء الظاهر يضمر طلب التأويل تحصيلا للباطن، الحقيقة المضمرة فى الظاهر. فى قصة موسى والخضر، عليهما السلام، قصة تعليم التأويل، هناك ثلاثة أفعال، وصف الأولين، خرق السفينة وقتل الغلام، بإمراً ونكراً، على الترتيب، أى سلبيين، أما الثالث إقامة الجدار فكان إيجابيا يستحق عليه الأجر. بذلك ثبت مطلوب اليقين بالتكرار ثلاثاً، فى أكثر من ثلاثة مواضع فى القرآن، أهم معاول التأويل المنهاجى للقرآن، مستخلصاً من القرآن. ولله الحمد والمنة.
ذكرنا فى التساؤل الثانى تشبيه المولى جل ذكره الشرعة والمنهاج بالنهر والبحر ونسبة المفهوم بينهما من نسبة العذب والمالح. إستكمالاً لوصفهما حدد مقامهما من بعضهما البعض، فقال أحكم الحاكمين:
* وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا * (الفرقان: 53)
جلت قدرته مَرَج الشرعة والمنهاج وجعل بينهما برزخاً كفاصل يميز الواحد من الآخر، دون أن يبغى أحدهما على الآخر. تقع الكليات فى التمايز، تختلف بين الشرعة والمنهاج، كليات الشريعة معروفة فى الأصول وكليات المنهاج هى السبع المثانى والمنهاجيات، التمييز بيًن. مع هذا الإستقلال فقد مرجهما " مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ "، دمجهما فى مساحة معينة مشتركة، مثل أنهما قسمان من أقسام الدين الحنيف الثلاثة: العقيدة والشرعة والمنهاج، يرتفقان ولا شك بالعقيدة السمحاء. دون الدخول فى التفاصيل، ففى هذه المساحة يقع التواتر والتكرار. التواتر فى الأصول يفيد القطع، بينما التكرار فى المنهاج يفيد اليقين، كلاهما يضفى الظن على الآحاد من الأدلة، فكانت ضرورة تعدد الدليل للإستقراء فى التقعيد، تقعيد قواعد الأصول وتقعيد السبع المثانى. إلاً أن الظن فى الآحاد فى الأصول منشؤه عوامل كثيرة، من بينها اللغويات، تفصيلها معلوم لدى أهل الأصول، بينما منشؤه التكرار بحد ذاته فى المنهاج، حتى لو كانت الآحاد محكمة بلغة القرآن لا يشوبها الظن. فى ذلك قال الإمام الشاطبى، رحمه الله، فى مقدمات مصنفه "الموافقات" المرجعى فى الأصول: " ... فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظنى، والموقوف على الظنى لابد أن يكون ظنياً، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو .... الخ (ذكرناه سابقاً عن الرازى)، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر، وقد إعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية فى أنفسها، لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين، وهذا كله نادر أو متعذر. وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للإفتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم، فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوى".
إستعمل الإمام لفظ اليقين بما يعنى القطعى الأصولى، لكن القطعى فى المنهاج يأتى بعد إثبات اليقين، يأتى فى درجات إعمالاً لقاعدة التقريب والتبعيد لآحاد التكرار، بيانها فى الكتاب. جدير بالذكر أن الأصوليين -على قدر علمنا - لم يقتفوا أثر الدليل القرآنى كحجية للتواتر والقطع، نعنى دليل اليقين فى سور التكاثر والبقرة والكهف - عاليه، إنما إعتمدوا فى الغالب العقل والإجماع واختلفوا. البعض نظر فى دليل قرآنى للعدد المعتبر فى التواتر على أرضية صلبة من الإستدلال، مثل إثنى عشر فى قوله تعالى: " وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ"، لا يحتمل ظاهره دلالة على اليقين، إنما دلالته على عدد أبواب المنهاج الإثنى عشر، بيانها فى الكتاب.
فى كل يجب اعتبار نوعية الدليل فى عدد التكرار أو التواتر القطعى إن كان قرآنى أو عن الرواية ، وجه آخر للتمايز والإشتراك بين الشرعة والمنهاج. فمصادر الإستدلال فى الأولى تشمل القرآن، والسنة النبوية الشريفة والإجماع والقياس وغيرها، أما المنهاج فيقتصر الإستدلال والتقعيد والتأصيل فيه على الذكر الحكيم، لقول العليم الحكيم:
* وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * ﴿الإسراء: ٤٦﴾
وقوله فى سورة متشابه المثانى:
* وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* ﴿الزمر: ٤٥﴾
وقوله:
* ذَٰلِكُ: بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِير *ِ ﴿غافر: ١٢﴾
هذه الآيات الكريمة من المتشابهات، تكرر المعنى فى ذكر الله ثلاث مرات، إشارة المنهاج (بيانها فيما بعد)، عليها تفصيل. فاقتصر تنظيرالمنهاج وتأصيله على أدلة القرآن وحده. وعلى الله قصد السبيل.
التواتر فى الأصول فيه مطلق العدد، لم يلتزم الأصوليون بعدد معين من الأدلة يفيد التواتر والقطع، بل إنهم فى بعض الحالات يعتمدون الآحاد بشروط، وليس كذلك المنهاج كما رأينا بلزوم ثلاثة أدلة لإثبات اليقين فى الإستدلال. فى المنهاج تمايز آخر فى أن عدد الأدلة مُقنًن بأعداد معينة، القاعدة الثانية للتكرار، نستخلصها من قول العليم الخبير:
* كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * (المطففين: 7 – 9)
وقوله:
* كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * (المطففين: 18 - 20)
نعود فنقول عندما نستدل على وجه جديد للدلالة فى القرآن فلا نخالف به ما سبقنا من وجوه الدلالة عند علماء التفسير والأصول، إنما نضيف وجهاً جديداً ربما كشف النقاب عن مكنونات جديدة لإعجاز كلام الخالق سبحانه الذى لا ينضب فى باب عدم التفريط. تأمل النظم فى نسقين وتركيب من تراكيب القرآن اللغوية العجيبة فى سورة المطففين. تكرر قوله " مَّرْقُومٌ " مرتين فى نفس السورة على قيد بضع آيات، وفى التكرار متشابه يعنى بوجه منهاجى جديد غير الوجه الذى عليه التفاسير من أنه كتاب مكتوب فيه صفات الأرقام من دوام ووضوح. الوجه الجديد يشير إلى مرقوم من أرقام، جوزه الألوسى، رحمه الله، فى مصنفه: "روح المعانى": "أو من رقم الكتاب إذا جعل له رقما أى علامة". نعم إن الأرقام فى القرآن لها مدلول على وجه إضافى، ظهرت حديثاً بعض من البحوث العددية تبحث فيه إمتدت إلى عد الآيات والألفاظ المتشابهة، وإستدلوا بها على إعجازات فى النظم القرآنى، تثبت وضع القرآن للخالق توقيفياً. لكن هذا المنحى لم يتناول المعانى عن قرب، والمعنى والمفهوم والمراد المقصود هم مطلوب التفسير والتأويل. فكان الوجه العددى فى " مَّرْقُومٌ " لا نقول فيه الثمن القليل، إنما قاصر عن أن يحيط بمقاصد التنزيل، وهو من ناحية أخرى يعتبر بحثاً فى الشكل والظاهر دون الباطن والمضمون المضمر خاصة فى المتشابهات.
الوجه المنهاجى فى الدلالة هو أن " مَّرْقُومٌ " مرتين فقط فى القرآن كله تعنى الإشارة إلى المثانى فى التكرار مرتين، فكل ما تكرر مرتين، لفظاً أو جملاً أو آية، ينتمى إلى البحث والإستدلال والتأصيل فى المثانى. ومرتين عدداً تفى بالمقصود من " مَّرْقُومٌ " مرتين. فيكون المعنى الرقمى فيه هو عدد التكرار، مرتان وثلاث...الخ. إذا إعتبرنا تكرار " كِتَابَ " مرتين فى كل نسق وموضوع (نعتبر النسق المنهاجى ما يتناول موضوعاً واحداً مترابط المعنى والمقصود، يحده إلتفاتان موضوعيان) وصلنا إلى تفصيل إعتبار الكتاب كله على المثانى عددا، وهو مفهوم قوله جل ذكره فى سورة الزمر: " كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ". ففى سورة المطففين إستدلال على المتشابه التكرارى العددى الثنائى، وعلى أن هذا فى الكتاب كله. وهو المطلوب إثباته فى القاعدة التكرارية الثانية من معاول التأويل القرآنية المنهاجية، مستخلصة من الذكر الحكيم.
يجدر بالذكر أن نسق المطففين له مدلول جدلى فى نوعين: جدل منطقى من التضاد بين "فجار" وأبرار"، وجدل معرفى من التقابل بين "سجين" و"عليين"، الجدل مرتين، فيشير إلى جدل المثانى. الجدل الأعلى والأعم والجامع عقلياً هو جدل كليات الوجود السبع المثانى، الذى هو الجدل المنهاجى، الأنواع الأخرى مثل المذكورة آنفاً متفرعة منه. تأمل قوله جلت حكمته: " سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ " (البقرة: 261) فتلقف مبضعاً لعلم المثانى فى الذكر الحكيم. تجد بعض التفاصيل فى "إشراق المنهاج". والله أعلم.
كما ذكرنا فى منهاجية اليقين فإن كل قاعدة وكل حكم منهاجى يلزم لثبوته يقيناً ثلاثة أدلة لأنه ينبنى على متشابه تكرارى يغلب عليه الظن، فإعتبار العدد أو الرقم من معاول التأويل المنهاجى يلزمه دليلان آخران لتعزيز دليل سورة المطففين، تجدهما بصريح العدد والإحصاء فى قول العليم الخبير:
* لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * (مريم: 94)
وقوله:
* لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا * (الجن: 28)
الإستدلال التكرارى لا يقتصر على الثنائيات، فهناك أرقام إستدلالية منهاجية أساسية، أولها الثنائية كإشارة للمثانى، وقد ذكرت المثانى فى القرآن مرتين. وثانيها الثلاثية كما رأينا فى سورة التكاثر لإثبات اليقين، والثلاثية فى آن واحد تعتبر إشارة إلى منهاجية، التى هى هنا "منهاجية اليقين"، متكاثرة فى الذكر الحكيم. الرقم التكرارى الثالث هو سبعة إشارة للسبع المثانى، كما فى نسق الطلاق فى سورة البقرة، تكرر قوله تعالى: " حُدُودُ اللَّهِ " سبع مرات فى آيتين متتاليتين (229، 230). وهو كذلك لفظياً إشارة للسبع المثانى مثل قوله جل علمه: "سَبْعَ بَقَرَاتٍ " و" سَبْعَ سُنبُلَاتٍ " (يوسف: 43). الرقم التكرارى المنهاجى الرابع هو إثنى عشر، إشارة لعدد أبواب المنهاج، مثل تكرار " إذا " إثنتا عشرة مرة فى سورة التكوير، وتكرار " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " فى القرآن كله، ولفظياً مثل قوله جل وعلا: " أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُم " (البقرة: 60). الرقم التكرارى الخامس مركب من الثنائية والثلاثية، تكرار الثنائية ثلاث مرات بغية اليقين فى استخلاصها وتأصيلها، دليله التأصيلى قوله تعالى: " وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً " (الواقعة: 7)، فُصًلت الأزواج الثلاثة فيما تلاها من آيات. تأمل آيات القبلة وقول الخلاق العليم:
* قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ * (البقرة: 144)
وقوله:
* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ * (البقرة: 149 - 50)
هذا مثال مثالى لإشارة التكرار الثنائى الثلاثى من قوله تعالى: " أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً " (الواقعة: 7)، الذى يُنظر فيه تأصيلاً لثنائية من ثنائيات السبع المثانى. تكرر تكليف القبلة ثلاث مرات للنبى، عليه الصلاة والسلام، وللمسلمين مرتين. بالتجريد تكرر التكليف للفرد ثلاثاً وللمجتمع مرتين، دليل وإشارة لثنائية "الفرد والمجتمع" وكليتها "الجزء والكل" من السبع المثانى، كليات الوجود. لكن يلزم دليلان تكراريان آخران مثل ذلك حتى يثبت يقيناً إستخلاص الثنائية كإحدى السبع المثانى، متكاثر فى الذكر الحكيم بالنسبة لهذه الثنائية أكثر من غيرها. هو مثال مثالى، يقع فى المساحة المشتركة السابق بيانها، لأن به تكليف شرعى لا يستدعى أكثر من دليل واحد، لكنه تكرر خمس مرات. باب مفتوح لذريعة وحجة لأعداء الإسلام للطعن على القرآن بالركاكة للتكرار، فما بالك بتكرار جملة وتكليف فى آيتين متتاليتين (البقرة: 149، 150)، وأى ركاكة يحتجون بها؟ بينما الوضع عكسى فى المنهاج، كلما قربت الأدلة التكرارية من بعضها البعض كلما كانت أكثر قطعية فى الحكم، قاعدة التقريب والتبعيد فى التأويل، فدليلان فى آيتين متتاليتين فيهما القطع مثالى ويقين الإستدلال بيًن، أكثر قطعياً فى الآية الواحدة. لقد جاء التحدى بإتيان سورة منه، فهل التحدى الإلهى بالركيك المتكرر؟ فيثور سؤال لماذا التكرار إذا كان الحكم الشرعى ثابت فى دليل واحد مقصده تكليف المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فتكليفه تكليف للمسلمين؟ هذه إجابته منهاجية ناصعة بينة. ولله الحمد والمنة.
وتعجب من تكرار أمره تعالى شأنه: " أَقِيمُوا الصَّلَاةَ "، جاء فى القرآن كله إثنتا عشرة مرة بعدد أبواب المنهاج، إشارة إلى المنهاج. فوقع التكليف فى المساحة المشتركة بين الشرعة والمنهاج، مثل قبلة الصلاة آنفاً. على ذلك كل النصوص الشرعية إذا تطرق إليها التكرار. وتعجب أن فى هذا التكرار ثلاثة آحاد فى سورة البقرة وإثنتان فى سورة النساء، إشارة قانون التأويل الأساسى فى تأصيل السبع المثانى، قوله تعالى: " وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً "، سبق. أما السبعة آحاد الأخر ففى سبع سور، واحد فى واحدة، تعد أيضاً إشارة للسبع المثانى. هكذا يمكنك تحليل التكرارات للوقوف على الإشارات الدلالية فيها، وهذا مثال له. مثل ذلك فى الأمر الإفرادى وقوله جلت حكمته: " أَقِمِ الصَّلَاةَ "، تكرر فى القرآن خمس مرات، ثلاثة منها الخطاب فيها لنبى الإسلام محمد، عليه الصلاة والسلام، مرة ثانية الأزواج الثلاثة فى أدلة نفس التكليف، تقع أيضاً فى المساحة المشتركة، ومطلب التكليف الشرعى دليل واحد. وأيضاً ففى الأمرين الإفرادى والجماعى إشارة ثنائية "الجزء والكل" كما فى آيات القبلة، سبق. أما تكييف تكليف الصلاة فى المنهاج، وكل التكليفات الشرعية فى المساحة المشتركة، فمسألة عظيمة الشأن، عميقة الأثر، ليس لها المقام، ولكل مجتهد نصيب. والله أعلم، من فضله الهدى والتوفيق.
بهذا إتضح أكثر المقصود بلفظ "مرقوم" فى سورة المطففين، وبهذا دخلنا فى باب التفسير الإشارى للقرآن، لتتفجر منابع الإستدلال التكرارى. وما زال للتأويل معاول أخرى قرآنية، تبيينها فيما بعد بعون الله. تفصيل الإستدلال وإحاطة أكثر بالتكرار وقواعد أخرى فى كتاب "إشراق المنهاج" الذى جاء به:
"وعليه فإن فى التكرار المنهاجى رد لتلك المطاعن بالركاكة، وإثبات إعجاز النسق والنظم والتحدى بالوضع فى القرآن، فضلا عن مناطه الذى وضع له وهو الاستقراء. فيه إجابة السؤال الملح والذى جاهد من أجل إجابته الكرمانى، رحمه الله: لماذا كان التكرار الذى يُسْبِغ عِواراً على النص وقيل فيه بالإحكام وإتقان الصنع؟ لكنه القرآن معجزاً لبنى البشر بالوضع وبالدلالة، شكلاً ومضموناً، غايةً ووسيلة، وفى التكرار المنهاجى الإعجاز النصى والتحدى الأكبر في القرآن الكريم، كلام الله. لم يكن أعظم إحكاما للنص من مرتبة هذا التكرار، وكان التحدى بإتيان سورة منه لم يتخيله بشر من قبل. فإنقلب العِوار إلى تاج الإحكام في النصوص، والله أعلم، به التوفيق."
والحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، من فضله.
- 3 views