منهاج:

منهاج:

منهاج:

"إشراق المنهاج".

"إشراق المنهاج".

كتاب "إشراق المنهاج"

الجزء الأول: الجدل بين العقل والنقل.

رسالة الكتاب هي إعلاء كلمة منهاج الله، “الكشف” عنه وتأصيله؛ قضيته هي قضية المتشابه الذى استغلق على الجمع، تطاحنوا عليه إلى حد الكفر والتكفير، تشتتوا شيعاً وتخلفوا وفقدوا أسباب الاستخلاف في الأرض منذ الانحسار في الأندلس، ما يعني وعورة البحث فيه وقصور أدوات الاستدلال والتأويل لاستكناه مقاصد تنزيل الرسالة الخاتمة شرعة ومنهاجاً. تمفصلت الأولى الشرعة بالبحث، أما الثاني المنهاج فما زال مطموراً ومعه الإعجاز الإلهي يترى في الزمن دون مقتضى بعث الرسل. طرائق الاستدلال المعروفة عجزت عن الكشف عن المنهاج، ولا سبيل إليه بالوضعيات، إشراق المنهاج يلتزم أدوات استدلال وتأويل نقلية لم يقف عليها أحد من قبل، بمعنى تدبّر القرآن بمعاول قرآنية، تفتح أبواب المنهاج وتستنير دروبه الوعرة، من منظور أن متشابه القرآن في تعقيده وتشابك أكنته يماثل ما خلق الباري سبحانه من أحياء وكواكب ونجوم وبنان الإنسان، الإعجاز الأعظم للقرآن الذي حير العقول منذ الوحي، فقد عاد القرآن مهجوراً.

قضيتان أساسيتان في مكتشف المنهاج هما السبع المثاني والجدل. الأولى هي بنية المنهاج وأركانه. أما الثاني فمتمركز في عصب الأولى. السبع المثاني كما يعرّفها الكتاب هي كليات الوجود، لا ترقى إليها فلسفة وضعية في الإلمام وإحكام ما بين أيدي البشر في شتى مجالات الفكر. يتناول الكتاب الثلاث مكتشفات بصورة مجملة وافية البيان، من المأمول التفصيل عليها فيما يلي من أجزاء الكتاب الذي تتخلّله قضايا أخرى في مقدمتها قضية الاستدلال والتأويل، وقضية الاتفاق بين العقل والنقل، المقابلة بينهما لبسط المصطلح. كذلك الإعجاز العلمي والإسهامات الإسلامية في النهضة الأوروبية، ضمنها فلسفة الجدل والتنوير. في تطبيق المثاني تنفرد أفكار نصر أبو زيد بالمثل السوء الذي عليه الشرح والتبيين. الكتاب بدسمه وجديته لا مثيل له على ساحة الفكر، زاخر بالأطروحات العلمية.

------------------------------------------------------------------


 

تساؤلات المنهاج (1).

تساؤلات المنهاج (1).

بسم الله الرحمن الرحيم

أهم تساؤلات المنهاج:

1) أين المنهاج؟

2) المحكم والمتشابه.

3) واو والراسخون.

4) التكرار.

5) السبع المثانى والفاتحة.

6) التأويل.

7) الخاتمية.

8) الإكنان.

9) الإحكام.

أولاً: أين المنهاج؟

نعلم أن هذه المادة المنهاجية غريبة على الأسماع، شبه منقطعة عن السائد فى الأدبيات والفكر والمقولات الإسلامية، التفاسير بوجه خاص. لكنا نقول بأن القرآن محيط لا برور له فى الدلالة، كما يقول العليم الحكيم:

﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ    (لقمان: 27)

شبهناه ببنان الإنسان التى لا تشبه بعضها بعضاً منذ آدم عليه السلام (كتاب "شراق الإمنهاج")، والمعتقد أنه تعالى علمه أنزل القرآن على نبيه، عليه الصلاة والسلام، للناس ليتدبروا آياته، وطلب التدبر يؤول إلى أن به مابهم إليه الحاجة، من أوله إلى آخره، محكماُ ومتشابهاً، كما قال الإمام الطبرى، رحمه الله: "غير جائز أن يكون فـيه ما لا حاجة بهم إلـيه،...". وباطل فى حق التنزيل أن ينزل تعالى ما يستأثر بعلمه، كما قيل فى التفاسير، لأن ما إستأثر علام الغيوب بعلمه لم يوحى به. حتى أنباء غيب الآخرة فيها دلالات منهاجية تعد من المتشابه، بالعباد حاجة إليها كما أوضحنا في "إشراق المنهاج". إذا كان الأمر كذلك، يثور السؤال المعضل: ما جدوى المتشابه فى حياة العباد؟ وما فحوى المنهاج الذى جاء نصا معطوفاً على الشرعة فكانا سواء بسواء في الإستدلال. نطرح الأسئلة التى تدور حول هذا الموضوع الشائك والمهم للإسلام والمسلمين، نجدُ فى أن نجدَ الإجابة عليها، التى ليست مع أهل التفسير إلى اليوم، وبها توضيح مسارنا الفكرى نحو الكشف عن المنهاج. والله المستعان.

أول التساؤلات فى قول أحكم الحاكمين :

﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾   (المائدة، 48)

 معلومة الشرعة فى هذه الآية الكريمة والتى فسرها ابن عباس، رضى الله عنهما، بالسنة كما جاء فى التفاسير، ما نص عليه القرآن من أحكام شرعية وسنة المصطفى، عليه الصلاة والسلام، وأنها أحكام وردت فى القرآن من قوله تعالى: " جعلنا "، ومتى إرتبط المنهاج بالشرعة بواو العطف، لزم من قوله تعالى: "جعلنا " أن يكون المنهاج أيضا منصوص عليه فى القرآن، لكن لم يره أحد حتى الآن، فأين  هو؟ ما قيل فى التفاسير لا ينير الطريق إلى الإشارة إلى مثل هذه النصوص، رغم طلب التدبر. بالمقارنة بالنصوص التشربعية لزم أن تكون نصوص المنهاج متكاثره مثل الشرعة سواء بسواء، على الأقل. قيل أن نصوص الشريعة تحتل تقريبا ثلث القرآن، فهل الثلثان الباقيان فيهما المنهاج؟ وهل هذا المتبقى ليس للعباد فيه حاجة، غير الإعتقاد والعبرة والإيمان به كمنزل من عند الله؟

قالوا فى التفاسير فى شبه إتفاق أن الشرعة لغويا تعنى مطلع الطريق أو مبتداه، وأن المنهاج هو الطريق الواضح المستمر، فما نسبة هذه المعانى إلى ما ورد فى القرآن؟ هل ما ورد فيه عن الشرعة هو مبتدى الطريق إلى الإيمان والعبادة؟ فماذا عن الطريق المستمر فى القرآن الذى هو المنهاج؟  يترتب علي هذه المعانى أن تكون نصوص المنهاج أكثر من الشرعة، مطلع الطريق، فأين هو؟ الرازى، رحمه الله، فى تفسيره لم يجد هذا التفسير اللفظى كافياً أو مقنعاً، خاصة فيما يتعلق بالمنهاج، فخلص إلى القول بأن: "الله أعلم بأسراره"! وحيث أن الشرعة فى القرآنً محكمة ومعلومة، ليست سراً، لزم أن يكون المنهاج هو السر الكبير من أسرار القرآن، وهو عندنا كذلك.

جل المفسرين فى قوله تعالى: "منكم"، لتعلقه بالشرعة، فرضوا أن هناك تقديم و تأخير، أى أن المقصود هو: "جعلنا لكل أمة من الأمم (منكم) شرعة ومنهاجا"، لكنه تعالت حكمته فى الحج رتب الآية بلا تقديم ولا تأخير فى قوله: " لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا "، تكرر مرتين، فيكتنف التشابه آية المنهاج لما فيها من التقديم والتأخير، أى المجاز الذى لم ينعكس على تقريرات المفسرين. هذا مثال لرد المتشابه إلى المحكم، ولابد من إعتبار للفارق بينهما (آيتى المائدة والحج)، ما لم نقف عليه فى التفاسير. أما الجعل فى القرآن ليس في مفعوله مجاز، من المحكمات، مثل قوله عز وجل: " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً " (البقرة: 22)، " إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ " (البقرة: 30)، " وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا " (البقرة: 125)، فلا يجوز اعتبار الشرعة والمنهاج بمعنى واحد أو مترادفين، مثلهما مثل الأرض والسماء فى البقرة (22) مع التباين بينهما، لا يغير من محكم المفعول به فيها كون الصفة متشابهة "فراشاً" و"بناءاً". إنما الصحيح فى نظرنا أنه تعالى وضع شريعة لكل أمة، ووضع منهاجا لكل الأمم. قارب فى ذلك من قال بأن الشرائع تختلف من أمة لأخرى، أماعقيدة التوحيد فواحدة فى كل الأديان. عُلمت الشريعة جعلاً ووضعاً، ولم يُعلم بعد ما هو المنهاج الذي وضعه تعالى لعباده. قالوا هو الطريق الواضح والمستمر، فأين هو فى القرآن؟ إن لزم وجود الشريعة فى القرآن جعلاً منه تعالى طبقاً لما جاء في الآية الكريمة، لزم ذلك جعلاً أيضاً للمنهاج، بلا مجاز، سواء كان المنهاج مختلفاً بين الأمم مثل الشرعة أم لا. فالآية الكريمة عويصة التأويل، شأنها شأن متشابه القرآن. فى كتاب "إشراق المنهاج" التفسير الذى نراه معقولاً بإعتبار المنهاج. في كل هذا نقدر إجتهاد علمائنا الأجلاء، لكل مجتهد نصيب، وإذا إختلفنا معهم فلا ندعى التأليف، إنما تدبر القرآن بمعاول قرآنية، وبما هدانا الله إليه من علمه وفضله. والله المستعان على مسألته.


 

تساؤلات المنهاج (2).

تساؤلات المنهاج (2).

بسم الله الرحمن الرحيم

أهم تساؤلات المنهاج:

1- أين المنهاج؟

2- المحكمات والمتشابهات.

3- واو والراسخون.

4- التكرار.

5- السبع المثانى والفاتحة.

6- التأويل.

7- الخاتمية.

8- الإكنان.

9- الإحكام.

 

                                        ثانيا: المحكمات والمتشابهات.

 التساؤل الثانى ما المقصود بالمحكمات والمتشابهات فى قوله أحكم الحاكمين:

﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾  (آل عمران: 7)

المحكمات:

الرأى شبه مستقر على أن المحكم ما خلا من الإحتمال، وقيل ما لا يحتاج إلى غيره لفهم معناه، وقيل هو ما يرد إليه غيره، المتشابه، وكأنه المرجع من قوله عز وجل: " هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ "، وقيل هو الأحكام الشرعية، وقيل هو الناسخ (موضوع المحكم والمتشابه). فى المنهاج نتفق مع هذه المقولات إلا النسخ حيث لا نسخ فيه بأى وجه. نتفق معها مجتمعة فهو الذى يخلو من الإحتمال، ولا يحتاج إلى غيره، ويرد إليه المتشابه، وتجد المحكم بهذه الأوصاف الثلاثة فى الأحكام الشرعية. ثم نضيف بأن ذلك صحيح فى الإفراد، لأن التكرار يضفى التشابه حتى لو كان الإفراد محكماً بتلك المعانى، كما سنرى بعون الله. متى ثبت مطلب التأويل للمتشابه يصبح عندنا نوعان من المحكم، محكم بالوضع واضح معناه ومقتضاه، ومحكم ناتج التأويل يتكفل به الراسخون فى العلم، فيصير القرآن كله محكماً عند تحقق التأويل الحق للمتشابه، معلوم أنه لم يتحقق بعد، وقد عاد  القرآن مهجوراً.

يجوز إعتبار المحكم على أنه الذى يخلو من المجاز، وبالتالى ليس به من المتشابه. وحيث هو كذلك فيخلو من الإحتمال، ولا يحتاج لغيره فى تحصيل مفاده، ويصح أن يكون مرجعياً، الأوصاف الثلاثة، وهو كذلك فى نصوص الشرعة القاطعة. لكن المنهاج ينبنى على المجاز، إن كان فى ظاهر الإفراد أو بالتكرار، فندر معه وجود المحكم بهذا المعنى، وهو المستفاد من قوله جل شأنه: " كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ "، بمعنى أن المجاز يكتنف القرآن جميعه، على الأقل من باب التكرار والسبع المثانى، ثم قواعد النحو والبلاغة من بيان ومعانى وبديع عند أهل اللغة. توصل الرازى، رحمه الله، إلى مثل هذه النتيجة من الناحية اللغوية فقال: "الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز، وعدم التخصيص، وعدم الإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكان ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً، فثبت أن شيئاً من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعاً"، فيصير عندنا مشكل بين النص على أن القرآن به محكم (آل عمران: 7) وبين التأويلات اللغوية والمنهاجية. الأصح عندئذ أن يعتبر المحكم ما هو واضح مفهوم فى نفسه، لا يحتاج إلى غيره لبيان مقاصده، مثل غالب النصوص الشرعية. مع وضوح المفهوم فى نفسه، إن شابه الحاجة إلى بيان أو تأويل لفض معارض، كالتخصيص عند الأصوليين، كان به مجاز يستدعى التأويل والمحكم لا يحتاجه، وعد من المتشابهات، وإن تكرر فقد تضمن متشابهاً دليلاً منهاجياً إضافياً لا يجُب دلالة الإفراد المحكمة، على طريق عدم التفريط، الذى يعنى ثراء  الدلالة.

ثم تساؤل هل القرآن بعضه محكم كما فى هذه الآية الكريمة، أم أن كله محكم لقول الحكيم العليم: "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ " (هود: 1)؟ في الظاهر هناك تعارض بين الآيتين، تأتَّى لقصور فى فهم معنى الإحكام فى الأخيرة. فى هود فعل الإحكام من "أَحْكَم"، بينما في آل عمران المفعول به الإسم الصفة "المحكم". فقوله تعالى: " أُحْكِمَتْ " لا يعنى المحكم من القول، إنما قصد بالفعل الماضى الصناعة، أن القرآن كله أحكمت صناعته وأتقنت، أو صُنِعَ محكماً: "في النظم والرصف وأنه حق من عند الله"، مقالة الإمام القرطبى، رحمه الله، ونتج من هذه الصناعة المحكمات والمتشابهات، كليهما "أُحْكِمَتْ " صناعته وأُحكم وضعه. بل إن الإحكام المقصود به فى هود يتوجه للمتشابهات أكثر من المحكمات، لما في الأولى من خفاء ومجاز، سيجئ بيانه بعون الله. يعزز ما ذهبنا إليه قوله جلت حكمته: " فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ"، فعل الإحكام فى المضارع، حيث لا يكف الشيطان. فلا تعارض بين الآيتين، وليس من دليل، كما قيل، على أن القرآن كله "محكم" بالمعنى الذى في آية آل عمران. والله أعلم به التوفيق.

المتشابهات:

قيل بأن الله إستأثر بعلم المتشابه، ونؤمن به ولا نعمل به. غالباً لأن لا أحد يعلم مقاصده وحاجة العباد فيه، وفي هذا مصادرة على التنزيل وتعطيلاً لدلالة المتشابه. أما الذين نظروا فى  الظاهر قالوا بأنه سمى متشابهاً لأن القرآن يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً، ما يعتبر مبتدى النظر فى المتشابهات. من العلماء من جرى وراء هذا التعريف وسبر القرآن وفتش عن تشابهاته آية آية بحثاً عن مدى التشابه لفض التعارضات فى المعانى اللفظية والنحوية والعقيدية أو التشريعية، ولدرء الشبهات حول القرآن. لكنهم لم يتخطوا حدود اللغويات صوب حقيقة المضمون.

 والذين إبتغوا الحقيقة المضمرة خطوا الخطوة الإبتدائية الضرورية وقالوا بأن المتشابه هو الذى يحتمل وجوها، وإذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأُبطل الباقى صار المتشابه محكماً، ومنه تعريف المحكم: الذى يحتًمل وجهاً واحداً. بهذا التعريف أثبتوا حاجة المتشابهات إلى التأويل. الزمخشرى، رحمه الله، ضرب مثلاً فقال: "{ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } مشتبهات محتملات، { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ } أي أصل الكتاب تُحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها، ومثال ذلك: ...

{ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا  [الإسراء: 16].

{ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء  [الأعراف: 27]"

الله عز وجل تعالى عن الأمر بالفسوق فى الأولى، فكانت الآية من المتشابهات، وردها إلى آية الأعراف، فهذا تأويل الأولى المتشابهة من طريق الرد إلى الثانية المحكمة. فى المنهاج تعد الأولى أيضاً من المتشابهات لأن بها ثنائية "الإختيار والجبر" من السبع المثانى، الوجه الثانى المنهاجى من التأويل، مثلها مثل قوله عز وجل: "  وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَى " (الأنفال: 17)، ثنائية فى منهاجية، كما سيجيئ بيانه بعونه تعالى.

فى ذلك لم يجيبوا على سؤال التكرار: لماذا يشبه بعضه بعضا؟ إلاَ أنهم قالوا بالإبتلاء ومعالى الدرجات للعلماء، وبعضهم يثبت إعجاز النص الإلهى من طريق التشابه، بينما الأسباب الحقيقية التى تليق بالقرآن أبعد من ذلك بكثير، والإعجاز تحت المتشابه تعجز عن تصوره العقول، وتتحقق من قوله تعالى: " فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ".

ثم تساؤل هل بعض القرأن متشابه كما في سورة أل عمران (7): " وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ "، أم أن كله متشابه كما في سورة الزمر (23) وقوله جل وعلا: " كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ  "؟ كلا القولين من المحكمات لأنه تقرير العزيز الحكيم. الإنطباع الأول عن الأخير أن التشابه سببه المثاني، ويعني كذلك أن المثاني متشابهات. لحل الاستشكال يلزمنا تعريف ما هي المثاني؟ فإذا كان القرآن كله متشابهاً فلا يمكن اعتبار المثاني هي الفاتحه، إنما القرآن كله مثاني. وقد توصلنا بالبحث المضني ان المثاني تعرفها من التكرار، من القول بان القرآن يشبه بعضه بعضاً. فنقول إن آية آل عمران تتكلم عن المحكم والمتشابه فى الإفراد لفظا أو عبارة أو آية، أو حرفاً مثل الحروف المقطعة فى أوائل بعض السور، تركيب النص المعهود. أما المتشابه المثاني ففي التكرار، حتي ولو كان محكماً إفراده، فيشمل القرآن جميعه. لكن الذين بحثوا في المتشابهات بالتبعيض لم يجدوها في القرآن كله إنما البعض كما في آل عمران، ويتبع ذلك أن التشابه التكراري يمتد للألفاظ والحروف، بحور من المداد،  ما يقتضي الوقوف علي السبع المثاني بطرق تأويل خاصة نبينها فيما بعد بعون الله. نخلص إلي أنه ليس من تعارض بين الآيتين، فالأولي المتشابه فيها في الإفراد والثانية في التكرار، نوعان من المتشابه، دون التفصيل. والله أعلم به التوفيق.

ألم تر أن الله تعالت حكمته شبه الشرعة والمنهاج بالنهر والبحر فى قوله جل شأنه:" وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاج " (فاطر: 12)، الآية الكريمة من المتشابهات، إفراداً للمجاز فى " الْبَحْرَانِ " وتكراراً مرتين للفظ " هَٰذَا "،  بالإضافة إلى متشابه تكرار الآية كاملة مرتين (الفروق فيها تفصيل)، وهى تعتنى بنسبة الصلاحية للشرب بين الماء العذب فى الأنهار والملح الأجاج فى البحار والمحيطات. هى نسبة المفهوم بين المحكم والمتشابه، الأول مفهوم فى نفسه لا يحتاج إلى تأويل، وهو عملية التحلية للمياه المالحة، أما الثانى يحتاج إلى عملية تحلية ليسوغ شرابه، بمثابة التأويل للمتشابه ليصبح محكما واضح المفهوم. التراتب واحد بين الآيات: يأتى أولاً المحكمات (آل عمران) والشرعة (المائدة) والعذب (فاطر). بناء عليه صح التعريف بأن المحكم ما لا يحتاج إلى تأويل، مقابله المتشابه، والله أعلم

بقي تساؤل ما علاقة المنهاج بالمتشابه؟ الإجابه في تناظر وتقابل بسيط بين مجهولين: المنهاج في المائدة (٤٨) والمتشابه في آل عمران (٧) وغيرها من الآيات. كلاهما نص عليه الخلاق العليم بالوضع في القرآن. لا يُعلم أين المنهاج ولاتُعلم مقاصد المتشابه وأسبابه علي التحقيق، فنقول بلا تعجب أو تردد بأن المنهاج في المتشابه، والمتشابه هو المنهاج، مثل أن الشرعة فى المحكم بالتناظر بين الآيتين. بمعنى آخر أن المتشابه شكل أو ظاهر مجهول المضمون أوالباطن، والمنهاج مضمونه الحكمة مجهول نصه، شكله أو ظاهره. فثبت أن المتشابه هو الشكل الظاهر للمنهاج المضمون الباطن. هنا تنفتح علينا مصارع التساؤلات والتأويلات، وتتفجر منابع الإستدلال، ونعلم ضخامة وصعوبة المطلوب ومخاطره، ويتبين لك أننا نحرث في أرض صلدة من ناحيتين: أن ما نسطره عن المنهاج والمتشابه يختلف عما مع السلف والخلف من العلماء، ومن ناحية ثانية أن المنهاج وصفه تعالى بالحجر (بيانه فى كتاب "إشراق المنهاج")، وما زال قائماً وصفه. يبقي تساؤلان رئيسيان: ما هي السبع المثاني وما هو المنهاج؟؟ بعض من هذه الإجابة فيما يلي من تساؤلات المنهاج، ومنها ما هو على هذه المدونة، وهي المهمة الرئيسية لكتاب "إشراق المنهاج". والمستعان هو الحكيم العليم يهدينا إلي ما يحبه ويرضاه، جل فضله وعلمه هو الأعلم.


تساؤلات المنهاج (3).

تساؤلات المنهاج (3).

بسم الله الرحمن الرحيم

أهم تساؤلات المنهاج:

1- أين المنهاج؟

2- المحكمات والمتشابهات.

3- واو والراسخون.

4- التكرار.

5- السبع المثانى والفاتحة.

6- التأويل.

7- الخاتمية.

8- الإكنان.

9- الإحكام.

 

ثالثا: واو والراسخون.

يقول أحكم الحاكمين:

" هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(آل عمران: 7)

ابن عاشور، رحمه الله، أجمل ما مع السلف والخلف فى واحد من أحدث التفاسير الجامعة، مما اسهب قال فى "التحرير والتنوير": " فالراسخون في العلم الثابتون فيه العارفون بدقائقه، فهم يحسنون مواقع التأويل، ويعلمونه. ولذا فقوله " والراسخون " معطوف على اسم الجلالة، وفي هذا العطف تشريف عظيم كقوله: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم " (آل عمران: 18)، وإلى هذا التفسير مَال ابن عباس، ومجاهد، وَالربيع بن سليمان، والقاسم بن محمد، والشافعية، وابن فورك، والشيخ أحمد القرطبي، وابن عطية، وعلى هذا فليس في القرآن آية استأثر الله بعلمها. ويؤيّد هذا أن الله أثبت للراسخين في العلم فضيلة. ووصفهم بالرسوخ، فآذن بأنّ لهم مزية في فهم المتشابه لأنّ المحكم يستوي في علمه جميع من يفهم الكلام، ففي أيِّ شيء رسوخهم؟ وحكى إمام الحرمين، عن ابن عباس أنّه قال في هاته الآية «أنا ممّن يعلم تأويله». وقيل الوقف على قوله " إلا الله " وإنّ جملة " والراسخون في العلم " مستأنفة، وهذا مروي عن جمهور السلف، وهو قول ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود، وأبي، ورواه أشهب عن مالك في جامع العتبية، وقاله عروة بن الزبير، والكسائي، والأخفش والفرّاء، والحنفية، وإليه مال فخر الدين. ويؤيّد الأول وصفهم بالرسوخ في العلم فإنّه دليل بيّن على أنّ الحُكم الذي أثبت لهذا الفريق، هو حكم من معنى العلم والفهم في المعضِلات، وهو تأويل المتشابه، على أنّ أصل العطف هو عطف المفردات دون عطف الجمل، فيكون الراسخون معطوفاً على اسم الجلالة فيدخلون في أنّهم يعلمون تأويله. ولو كان الراسخون مبتدأ وجملةُ  "يقولون ءامّنا به " خبراً، لكان حاصل هذا الخبر ممّا يستوي فيه سائر المسلمين الذين لا زيغ في قلوبهم، فلا يكون لتخصيص الراسخين فائدة. قال ابن عطية «تسميتهم راسخين تقتضي أنّهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أيّ شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلاّ ما يعلمه الجميع وما الرسوخ إلاّ المعرفةُ بتصاريف الكلام بقريحة معدة» وما ذكرناه وذكره ابن عطية لا يعد وأن يكون ترجيحاً لأحد التفسيرين، وليس إبطالاً لمقابله إذ قد يوصف بالرسوخ من يفرق بين ما يستقيم تأويله، وما لا مطمع في تأويله. وفي قوله " وما يذكر إلا أولوا الألباب " إشعار بأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه."

نتفق مع ما أورده الشيخ فى إجماله، مع ملاحظة أن الفخر الرازى، رحمه الله، كان ميالاً إلى إحتمال القولين، العطف والإبتداء. نحن إبتداءأ مع العطف، لنا فى ذلك أدلة لم يتطرقوا إليها، خاصة فيما يتعلق بخاتمية الرسالة التى لم تكن كذلك إلا بالمتشابه، الذى يستتر تحته النذير والبشير، والإعجاز فى مطلب الرسالات يترى فى العصور دون مقتضى بعث الرسل، أصابها الإعراض وعاد القرآ ن مهجوراً لقصور فى أدوات التأويل. ثم إن هناك فارق بين أن الراسخين يعلمون طرائق التأويل وبين أن يعلموا المؤول إليه. فأما الأول فلا جرم إستحقوا عليه الرسوخ فى مكمنه، وهو فى منظورنا المعنى به فى الآية الكريمة بالعطف، جزئياً على الأقل، يختلف من عصر لعصر بتراكم العلوم وتقدمها، ما أشار إليه ابن عاشور بتفسيره، ولا يترتب على ذلك إختلاف المؤول إليه، إنما الوصول إلى الحقيقة المضمرة من عدمه. أما هذا الثانى فهو بالقطع فى علم الله، المعنى به فى الآية الكريمة بالإبتداء، إلى أن يتحقق ويقع المراد الخفى المؤول إليه، أى التأويل الحق الذى لا زيغ فيه مبدئياً، به يكون العطف سائغاً، ويكون التوفيق بين القولين، والله أعلم به التوفيق.

والعطف أولى لقول العليم الحكيم:

" وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ "  (العنكبوت: 43)

معلوم أن الأمثال من المجاز فمن المتشابه، فتعتبر هذه الآية الكريمة بمثابة المحكم لما فى أية آل عمران من متشابه الواو إختلفت عليه الأفهام. الآية محكمة إلا " نَضْرِبُهَا " تؤيد العطف، إن العالمين الراسخين هم ما لديهم طرائق التأويل من قوله جل علمه: " يَعْقِلُهَا "، بمعنى إتعاب القرائح لا علم الغيب المؤول إليه، وفى ذلك دينامية تعبر العصور.

          هناك فارق بين أن يكون تأويل المتشابه يستأثر بعلمه تعالى علمه، وبين أن يعتبر من أنباء الغيب. فالذين قالوا بالإبتداء أوحوا بأن الله إستأثر بعلمه لأنه من الغيب، وفى ذلك مغالطة وخلط للأوراق. فعلم الغيب على أنواع، منها ما هو من أنباء الآخرة من بعث وجنة ونار، ومنها ما قد سلف مثل ما حفل به القصص القرآنى، ومنها ما هو آت ما بعد الوحى مثل قوله جل علمه: " غلبت الروم "، جميعها ورد بالقرآن، الأكثر من الأخير تجده فى المتشابه، وضع لهذا الغرض، وهو الذى به كانت الرسالة خاتمة. تأمل قول علام الغيوب:

" ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ "  (أل عمران: 44)

تكرر مرة أخرى فى يوسف (102)، وثالثة فى هود بتلك (49). وإذا كان هذا الغيب من ذكر الماضى فإنه تعالى أطلق وحدد حدود الغيب الذى يطلع الناس عليه فقال قوله الحق:

 " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ "  (آل عمران: 179)

علام الغيوب جل ذكره إستثنى من نفى الإطلاع على غيبه ما أوحى به لرسله، مطلق الرسالة، فصله فى سورة الجن بقوله العليم الحكيم:

" عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ‎*‏ إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *‏ لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا" (الجن: 26 - 8)

قوله عز وجل: " يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا " مترتب على الإرتضاء ومتعلق بالإستثناء، لذلك فهو يعنى بهً حاضر دنياهم وفيه علم المناسبة، ويعنى ثانياً أنباء ما قد سلف " مِنْ خَلْفِهِ " من الأقوام، مثل ما فى القصص القرآنى، وهما من علم الغيب إستثناهما تعالى من عدم الإظهار للناس، فيظهر لهم هذه من طريق الوحى. أتبع ذلك بقوله: " وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا "، تأكيدأً وتفصيلاً لما " بين يديه "، وبأن ليس هناك تفريط فيما بلغ من رسالة. وهذا التأويل هو عندنا السائغ فى مقامه. ليس مقصود قوله: " يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا " أن الله وضع ملائكة "رصدا" لحراسة الرسول من فتن الشيطان وغواياته كما فى التفاسير، فهذا من قبيل تجاوز الدليل بالثمن القليل، وقد أشير لمثل هذا المعنى فى موضع آخر من القرآن يعتنى بعصمة الرسول، عليه الصلاة والسلام. فما إستأثر بعلمه جل شأنه لم يوحى به ولم يظهر عليه أحداً، فى رسالة أو وحياً أو من وراء حجاب. وما أظهره تعالى فى الأخر قرنه بمطلب التدبر، والتأويل من أبواب التدبر، تأييدا لواو العطف. ثم إنه أطلق العلم فى قوله الحق:

 " وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ " (البقرة: 256)

كان علم الغيب  من غيب الآخرة مثل قيام الساعة أو كان علم دقائق الكون وما فيه من ذرات ونويات ونجوم، والأحياء من روح ودورات الحياة والتراكيب العجيبة للكروموزومات، دقائق خلقه الخلاق العليم. أحاطهم تعالى علمه ببعض من هذا كله وأكثر، بما شاء من هذا كله، وهذا كله تجده فى القرآن وفى متشابهه بالأكثر. ثم إن المصطفى، عليه الصلاة والسلام، تكلم بلسانه الخلاق العليم فقال:

" قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ "  (الأنعام: 50)

نفى النبى، عليه الصلاة والسلام، علمه بالغيب، إنما يتًبع الوحى بما فيه مما أظهره الله لعباده من غيب. تأمل أن قوله جل وعلا: " إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ " تكرر فى الذكر الحكيم ثلاث مرات (الأنعام: 50، يونس: 15، الأحقاف: 9) بإشارة المنهاج – كما سنرى فيما بعد - الذى هو المتشابه، الوجه الآخر للتأويل. والإتباع لا يتأتى على أصله شاملاً إلا بالتأويل الذى يخلو من الزيغ. فثبت العطف فى واو والراسخون.

          نقول أن مفهوم خاتمية الرسالة لم يدلل عليه كما يجب، من ذلك أن العطف فى واو والراسخون توجبه خاتمية الرسالة. تأمل قول العليم الحكيم:

" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ "  (فصلت: 53)

فيها قال الرازى، رحمه الله: " قولان الأول: أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيات الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة، وقد أكثر الله منها في القرآن، وقوله " وَفِي أَنفُسِهِمْ " المراد منها الدلائل المأخوذة من كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة، كما قال تعالى: " وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ " (الذاريات: 21) يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العليم المنزّه عن المثل والضد" ... " فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقاً لخبره، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجزة، فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً". فالمقصود بالآيات فى " آيَاتِنَا " ليس آيات التلاوة إنما آيات الإعجاز الكونية. فى الذكر الحكيم دلائل الإعجاز ما بعد إنقضاء الوحى، إما الوقوع والمشاهدة، وإما التأويل وإما كليهما. ومعلوم أن التأويل يلزمه دليل خارجى، والذى يقف عليه العلماء، ما يقتضى أن لهم الفضل فى إثبات الإعجاز فيما  بعد إنقضاء الوحى، المستقبل الذى يضمره العطف فى واو والراسخون. يكمل هذا المعنى قول علام الغيوب:

" خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ "  (الأنبياء: 37)

" آيَاتِي " فى الذكر الحكيم تعنى آيات التلاوة لا آيات الإعجاز الكونية، مثل ما فى قوله عز وجل: " قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ " (المؤمنون: 66). هناك فى فصلت الآيات الكونية فيما بعد إنقضاء الوحى، وهنا آيات التلاوة، بمعنى أن الأيات الكونية هى أدلة التأويل لآيات التلاوة، كلاهما فى المستقبل من الوحى، مثل قوله جل علمه: " اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ " (التوبة: 38) من بين " آيَاتِي " فى الأنبياء، وهو دليل "الجاذبية الأرضية" التى أكتشفت مؤخراً وهى الدليل الخارجى  الكونى للإعجاز من بين " آيَاتِنَا " فى فصلت. فمن يوفق بينهما فى المستقبل من الوحى سوى الراسخون فى العلم؟ إمعاناً لواو العطف المستقبلية قال الخلاق العليم:

هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ"  (الأنعام: 158)

فيها الأيات كونية. وقال:

" هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ "  (الأعراف: 53)

ليس اليوم يوم القيامة كما قيل فى التفاسير، إنما يوم فى الحياة الدنيا بعد إنقضاء الوحى، يوم يدلل الراسخون فى العلم بالتأويل على إحدى معجزات الخالق فى الكون بمقتضى خاتمية الرسالة. فهل من حجة لواو الإبتداء بعد هذه الآيات الكريمة المستقبلية، لإثبات بالمعجزات على مر العصور أن رسل الله، صلوات الله عليهم وسلامه، قد جاءت بالحق من ربهم العليم الحكيم؟

وتعجب، بالرغم مما أثير حول واو والراسخون والإبتداء النحوى فيها، والتحذيرات المظنونة من إتباع المتشابه، فإن من تعرض لتفسير القرآن لم يتوان فى تناول كل القرآن آية آية بما فيه من متشابهات، بل منهم من عنون تصنيفه بالتأويل، والإمام الطبرى، رحمه الله، فى مصنفه "جامع البيان فى تفسير القرآن" يقول فى كل آية بالتأويل وليس التفسير، حتى المحكم منها. فقد نسفوا عملياً القول النحوى بالإبتداء فى واو والراسخون. ومن تعرض من العلماء للمتشابه العقيدى أصابوا فى كثير من التأويلات العقيدية، لكن المتشابه كما فى سورة الزمر " كتاباً متشابهاً مثانى " يشمل القرآن جميعه، فتعد مثل هذه التأويلات فردية لا قاعدة لها إلا الرد إلى الدليل الإعتقادى مبناه " ليس كمثله شيئ " ، منها اليد والعين والإستواء وما مثلها إعتدادا بالتنزيه. ومعلوم الإختلاف فيها بين الفرق، تشيعوا على المتشابه وتأويله، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

          لا جرم أن الحديث الشريف يصدق بالقرآن وبمعطياته، فنعثر فيه أيضاً على ضالة المختلفين على واو والراسخون. تأمل حديث رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم: عن على، رضى الله عنه: سمعت رسول الله يقول: "إنها ستكون فتنٌ، قلتُ : فما المخرجُ منها يا رسولَ اللهِ ؟ فقال : كتابُ اللهِ، فيه نبأُ ما قبلكم ، وخبرُ ما بعدكم ، وحُكمُ ما بينكم، هو الفصلُ ليس بالهزلِ، من تركه من جبَّارٍ قصمه اللهُ، ومن ابتغى الهدَى في غيرِه أضلَّه اللهُ، وهو حبلُ اللهِ المتينُ ، وهو الذِّكرُ الحكيمُ، وهو الصراطُ المستقيمُ، وهو الذي لا تزيغُ به الأهواءُ، ولا تختلفُ به الآراءُ، ولا تلتبس به الألسُنُ، ولا يَخلَقُ عن كثرةِ الرَّدِّ ، ولا تنقضي عجائبُه ، ولا يَشبعُ منه العلماءُ، من قال به صدَق، ومن حكم به عدَل، ومن عمِل به أُجِر، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيمٍ" (أخرجه الترمذي (2906)، والدارمي (3374)، وابن أبي شيبة (30629) باختلاف يسير). معلوم أن الرد لا يكون إلا للمتشابه، رده للمحكم، وهو باب من التأويل، فمن يقوم بالرد الكثر؟ ومن يتقصى ويجرى وراء عجائبه المعجزات، التى منها "خبر ما بعدكم"، فيكشف عنها ويثبتها للخالق؟ وفيم لا يشبع العلماء غير معضل المتشابه؟ يُحمل كل ذلك على واو والراسخون، ويتكفل الراسخون فى العلم بالتكليف المتضمن والمهام الملقاة على عاتقهم على مر الزمان بإتعاب القرائح، وإلا التفريط.

روى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في ضمن حديث طويل: ”إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر." فى المعنى: أولاً تضمين إشارة المستقبل من الوحى من الوراثة، وثانياً إثبات المعجزات للخالق جل ذكره شأنهم فى ذلك شأن الأنبياء، وثالثاً تكليف العلماء بمهات من مهام الأنبياء بخلاف الوحى، فى مقدمتها الإشتغال بمعطيات الوحى للأنبياء، عليهم الصلاة والسلام. يقع ذلك فى تكليف العطف فى واو والراسخون، وبه يمتد الوحى فى كل زمان وكل مكان، مناط الوحى لرسولنا الكريم، صلوات الله عليه وسلامه. ففى العطف ليس فقط تشريفاً للعلماء كما قيل، ولكن أيضاً تكليف لهم بإتعاب القرائح فى بحر دلالة الوحى الواسع بلا برور، لا شبع منه على مر العصور. فى ذلك أيضاً إثبات لخاتمية الرسالة، بما يعنى تأويل المتشابه فى المقام الأول. والله أعلم منه الهدى وبه التوفيق

.

 

قبس من كتاب "إشراق المهناج"(1).

قبس من كتاب "إشراق المهناج"(1).

فى الفلسفة والحكمة

من الباب الأول، الفصل الأول تحت عنوان: "خطاب العقل".

......................................................  

< المَقْرِيزي، رحمه الله، صنف الفلاسفة بين الطوائف التي تخالف ملة الإسلام، مُؤَصِّلا المسمى "فَيْلَسُوف" بأنه يتألف من شقين: "فِيلو" ويعنى "محب" و"سُوفْيا" وتعنى "الحكمة"، أي أن الفيلسوف هو "مُحب الحكمة"، والفلسفة ترجمتها "مَحبة الحكمة". ثم قال: " والحكمة قولية وفعلية، وعلم الحكماء إنحصر في أربع أنواع: الطبيعى والمدنى والرياضى والإلهى. والمجموع ينصرف إلى: علم ما، وعلم كيف، وعلم كم. فالعلم الذى يطلب فيه ماهية الأشياء هو الإلهى، والذى يطلب فيه كيفيات الأشياء هو الطبيعى، والذى يطلب فيه كميات الأشياء هو الرياضى " [28]. ليس في هذه العلوم مخالفة للإسلام من حيث أنها علم، ولا من حيث أنها ترنو إلى معرفة الأشياء وعللها، إنما المخالفة تتأتى من الاعتقاد المتضمن في هذه الحكمة أو تلك متى نص عليه. فمنهم من ينكر النبوة كما ذكر المقريزى في تفصيله للاختلاف. بل إنها لا تخالف الإسلام من حيث أنها حكمة، وقد قال تعالى:  ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة ِ﴾. لفظ الحكمة هنا هو نفسه هناك، إنما مقصود الآية الكريمة الحكمة الإسلامية، فجاز القول بالفلسفة الإسلامية من حيث أنها الحكمة المستقاة من مصادر الإسلام النقلية. حتى أن الحكمة أضيفت إلى الكتاب في مواضع كثيرة من القرآن فقال جل ذكره: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ﴾، كُررت ثلاث مرات بالمنطوق، وقال: ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. من ثم فمن حيث أن الفلسفة حكمة فهى مطلوبة مرغوب في خيرها. قيل في اللغويات: الحكمة هي: " ما قل لفظه وجل معناه، مثل الأمثال وجماع الكلم "، الوصف الظاهرى، وقيل في المعجم الوسيط: " معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم والعلم والتفقه ". فى تعريفات الجِرْجَاني: " كل كلام وافق الحق فهو حكمة "، ومنه الحكم القضائى، وفي الحكمة الإلهية قال: " قيل: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والعمل بمقتضاه، ولذا إنقسمت إلى العلمية والعملية ". قسمها الجرجانى إلى حكمة علمية (علم بالموجودات فكانت معرفية) وحكمة عملية، مثلما قال المقريزى أن هناك حكمة قولية وحكمة عملية، فالربط بين القول والعمل، مطلوب إسلاميا وفيه الخير  الكثير. غير أننا نرى في الحكمة التبصير بحقيقة الأمور أكثر من كونها البحث في حقيقة الأشياء، الأولى مترتبة على الثانية في جوهرها وتركيبها، أعلى في مرتبة العقليات.

من ناحية ثانية، فمن تعريفات الفلسفة أنها: " علم يُعنى بدراسة المبادئ والعلل الأولى للأشياء وتفسير الأحداث والظواهر تفسيرًا عقليًّا، ويشمل: المنطق والأخلاق وعلم الجمال وما وراء الطبيعة " (معجم اللغة العربية المعاصر)، تمتد إلى البحث في العلاقات بين العقل والحس والموجودات والتفاعل بينها من فعل وتغير وحركة وصَيْرُورة، يضاف إليها كأساس المثال المأمول والمرجو من وراء التنظير. مثانى المنهاج ترتد مبدئيا إلى الجزء الأول من التعريف وهو العلم بالموجودات. وليست هناك فلسفة أشمل وأعم من "السبع المثانى" في الإلمام بالموجودات من حيث التجريد في العقل. لو نظرنا فى ثنائية "المضمون والشكل"، تجد أن كل موجود بالقوة أو بالإمكان في كل الوجود، بلغة الفلسفة، إلا ولابد له من مضمون أو جوهر وشكل أو مظهر، حتى الكلام كما  هو معلوم فيه. تحتها ما قاله المقريزى من أن الفلسفة هى "عِلْم ما". كذلك ثنائية الكيف والكم، ما من موجود إلا وله كيف وكم، في مقالته يجئ تحتها "علم كيف" و"علم كم". فإذا تفحصت السبع المثانى (تفصيل عنها فيما بعد بإذن الرحمن) من هذا الباب وجدت الفلسفة بأنواعها قاصرة عن الإلمام بالموجودات في كلياتها. أما العلاقات بين العقل والحس والموجودات من المنظور الإسلامي فليس مقامنا لها، وقد قال فيها الكثير من علماء الإسلام مثل ابن رشد وابن سينا والفارابى والغزالى، رحمهم الله. مثل ذلك عما وراء الطبيعة ومقارباتهم للفلسفة اليونانية. ابن رشد خاض حربا فكرية ضروسا من أجل تبيان أن الفلسفة ليست جرما بل مطلوب كطريق من طرق التعرف على المعبود جل في علاه، حيث قال: " فإن الغرض من هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعى، النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ أم محظور؟ مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟؟ فنقول: إن كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات، سبارها، من جهة دلالتها على الصانع، أعنى من جهة ما هي مصنوعات الموجودات، إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم "  [4 أ1]. من هنا فقد قارن المنهاج الفلسفة الوضعية في العلم بالموجودات وبالمثال، الذى منشؤه العمل على منواله، كما سنرى بعونه تعالى. أهل الفلسفة لهم الباع الأكبر في تحرير المسألة. لكنا نركن إلى الملفوظ الإسلامي، أي الحكمة، لا اليوناني أى الفلسفة، فهناك اختلاف في الدلالة، وكان المنهاج حكمة إسلامية، بدلالة نقلية نبسطها فيما بعد بإذن الرحمن.

             في المبتدي من المهم أيضا أن نَبْسُط الفارق بين مفهوم "المنهج" ومفهوم "المنهاج". الأول درج عليه الفكر البشرى عامة على أنه الوسائل والطرائق المؤدية لتحقيق الغاية متمثلة في اليقين العلمى، كما فى المنهج العلمى للبحث المبنى على فرض الفروض، بالضرورة لا يعتنى بالمثال، ما هو الفارق بين الفلسفة والعلم. تجده فى كل العلوم الإنسانية والطبيعية، بالإضافة إلى المنهج الخاص بكل علم. أما "المنهاج" فهو الذى ورد فى قوله تعالى:  ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾، يحتوى على مثالية لتضمنه الأصول والقواعد والكليات التى تجرى عليها حياة الناس فى الواقع اليومى الملموس، الفروع في سياق أصول الشريعة. الجديد فى موضوعنا أن الناظر فى المنهاج كالناظر فى الفلسفة، من حيث أن موضوعهما الكليات والمثل. الاختلاف أو الفارق بين المنهاج والفلسفة هو أن الأول لا ينفصل عن واقع الحياة المعاشة، مثل الأصول وفقه الفروع فى الشِّرْعَة. أما الثانية فيلزم ترتيب أيديولوجية لها تحملها إلى أرض الواقع، مع إمكان أن تخلو منها كما فى مثال الوجودية السابق. فبان بذلك الفارق بين المنهج والمنهاج. جاز أن نقول بأن "المنهج" طرائق وسبل مؤدية لليقين العلمى، يهدف فيما يهدف إليه إلى تأسيس النظريات، أما "المنهاج" في النقل فهو تنظيريا يعتبر بالتقريب فلسفة إسلامية بالدارج من المفاهيم العقلية.

إن قلنا بالجدل على أنه فلسفة عرفها الناس منذ نشأتها كعلم مع أرسطو ورفاقه، فهو نظر مجرد بالدرجة الأولى، قابل للتطبيق أو لا، يعتمد على معطياته ومدى تقبل الواقع له. أما فى المنهاج تجد "السبع المثانى" هى البنية الأساسية، وفيها الجدل يسطر الفعالية. مسمى الجدل هناك هو نفسه الجدل هنا.  وليس من فارق أو تمايز بينهما من حيث المعنى، إلا فى صياغة المفهوم والمسميات كما سنرى بإذنه تعالى. ليس هناك جدل بلا ثنائية وثيقة الإزدواج. فإن نطرنا فى إزودواجية "المضمون والشكل"، فهى جدلية وهى ثنائية فى وقت واحد، من ثنائيات "السبع المثانى"، لا تمحيص بأحدهما دون الآخر، فيها تفصيل. يحضرنا هنا أحد الأدلة التطبيقية لهذه الثنائية، بلا إنفصام مع الواقع، وقوله تعالى: ﴿ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾، قدم فيه المضمون على الشكل، وكانت الثنائية بذلك أكثر فصاحة من الفلسفات الوضعية. على أن فى المنهاج فروق واختلافات عن الفلسفة تتضح فيما يأتى بعد من تفصيل بإذن الرحمن، وعلى ألا نحمل المنهاج فى هذا المقام على أنه جدل وحسب، إنما كليات الإسلام التى لم تمحص جيدا من قبل، بل يندرج تحته جانب من أصول الفقة والإعجاز العلمى والحكم المدنى والاقتصاديات والأخلاق والتربية، وكل ما لا تطوله الشِّرْعَة. وإنما المرام هو تبيان التوافق بين العقل والنقل، من ترتيبات الجزء الأول من الكتاب  >

....................................................

 

(يطلب الكتاب من "دار الفارابى/بيروت":

http://dar-alfarabi.com/product/اشراق-تامنهاج-الجدل-بين-العقل-والنقل/

وموقع "نيل وفرات":

https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb360400-355792&search=books)

 

قبس من كتاب "إشراق المنهاج" (2)

قبس من كتاب "إشراق المنهاج" (2)

من الباب الأول، الفصل الثانى:

ج) وجهــان لعمــلة واحــدة

            لنبدأ مع مفكرى الإسلام المعتبرين. الإمام الرازى، رحمه الله، فى تفسيره يقول: “ من الناس من عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدل، وإحتج بوجوه. أحدها: أنه تعالى قال: ﴿ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾، وهذا يقتضى نفى جميع أنواع الجدال، ولو كان الجدال فى الدين طاعة فكان أولى بالترغيب فيه. وثانيها قوله تعالى:

﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾   [الزخرف: 58]

عابهم بكونهم من أهل الجدل، وذلك يدل على أن الجدل مذموم، وثالثها قوله:

﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾   [الأنفال: 46]

نهى عن المنازعة "  [15ب1]. منه أن تحريم الجدال فى الحج اقترن بالرفث وبالفسوق، بالمنطوق على المحل وهو الحج، وإنفصلا فى الأسباب بتخصيص النفى لكل على حدة. فكان هناك تباين فى أسباب النفى بين المطالب الثلاثة: ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ، ولم يقل { لا رفث وفسوق وجدال } أى جَمْع الحكم، ولكن فَرَّقه وقَسَّمه [18أ3]. ساحت المعانى عند البعض بهذا المقدر، وأصبحت كل هذه محرمات فى الحج بنفس الرتبة، وهو ذكر الرازى السابق وبحثهم فيه. أما أدلة الرفث وهو الجماع التى تستثنيه وتحرمه فى الحج فقط فلا تحتاج إلى نقاش، ويؤخذ الأمر على ظاهره كمنتهى فى مقامنا. وأما تلك الخاصة بالجدال فحولها خلاف، إلا أنه إرتبط بالفسوق تحريماً فى الحج وغير الحج فى نظر البعض. وتعجب لماذا ورد ذكر النهى عن الفسوق فى مقام الحج بالرغم من أنه منهى عنه فى العموم؟! فى نظرنا لترميز التباين فى الأسباب. والله أعلم.

            إيضاحا للتباين فى الأسباب: فلا أحد يقول بالنهى عن الرفث عموماً فى الحج وغيره، ولا أحد يقول أيضاً بالنهى عن الفسوق فى الحج فقط لا فى غيره، فثبت التباين بتخصيص النفى لكل على حده. من ثم لزم البحث فى أدلة نفى الجدال فى الحج منفصلة عن أدلة الرفث وأدلة الفسوق. تلك هى أيضا وجهة النظر فى التفسير عند الإمام الزمخشرى، رحمه الله، الذى قال: "وقرىء المنفيات الثلاث بالنصب وبالرفع، وقرأ أبوعمر وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب، لأنهما حملا الأولين على معنى النهى كأنه قيل فلا يكون رفث ولا فسوق، والثالـث على معنى الإخبار بإنتفاء الجدال كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف فى الحج. وإستدل على أن المنهى عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقولـه، ﷺ: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه" وأنه لم يذكر الجدال " [17]. ذهب الإمام القرطبى، رحمه الله، إلى نفس النتيجة حين قال في تفسيره: " وإختلف العلماء فى المعنى المراد به هنا على ستة أقوال... قلت: فعلى هذين التأويلـين لا جدال فى وقته ولا فى موضعه، وهذان القولان أصح الأقوال "  [26ج]. فإنصرف معنى النفى فى الجدال إلى حكمة الحج كشعيرة من شعائر الإسلام وفرض من فروضه على القادر عليه، كذلك وقته وموضوعه وكيفيته، من باب الطاعة، ولم ينصرف إلى الجدال نفسه بتحريمه كفاعلية نقاشية أو مناظرات.

            هذه النتيجة تبين إلى أى مدى يمكن الخطأ والتعاكس فى مقاصد الإسلام لو إستسلم النظر للظاهر من النصوص الدينية دون تدبر وتمحيص وبحث، على أساس من منهج تفسيرى صحيح وأدلة ثابتة، ذلك أن عموم الإستسلام لظاهر المنطوق نفى لإعجاز الذكر الحكيم. فالظاهر من المنطوق تحريم الجدال إبان الحج، إنسحب عند البعض إلى تحريمه خارجه أيضاً فعمم التحريم بعيدا عن مرمى الموضوعية، والمقصود على حقيقته بالتأويل لا هذا ولا ذاك، حتى لا يتصور النهى عن أن يتجادل المسلمون فيما بينهم فى أمـور دينهم ودنياهم أثناء الحج، ومن الدعاة والمفسرين والمفكرين من ينظر إليه نظرة أعظم مؤتمرات المسلمين قاطبة متجردين من عتاد الدنيا وزينتها متوجهين إلى الله عز وجل بالقربى فى العبادة والطاعة فى اتباع أوامره وإجتناب نواهيه، والإستقامة على سنته وإتيان فروضه، فكيف فيه ينهى عن الجدال بين المسلمين ومقارعة الحجة بالحجة قضاء على الخلافات الظاهرة، ونيلاً للموافقة واليقين فى الأمر أو الدعوة إلى الإسلام الحق على تمام الإيمان فى مقاصده، مما هو مفترض عدم تحصيله فى غالبية الحجيج، وهو مطلوب نصاً ظاهراً وباطناً، فى الحج وغيره؟

            مثل ذلك في تفسير قوله تعالى:

﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّـهِ قَانِتِينَ ﴾   ]البقرة: 238[

اختلف العلماء اختلافا كبيرا على ماهية الصلاة الوسطى، وساقوا أدلة على صلاة الصبح أنها المقصودة، وأدلة على الظهر والعصر والمغرب دون العشاء، على أي منها هي الوسطى زمنيا بلا اتفاق. لو أن ذلك من قبيل التخصيص لذكر الزمن بتعليل. لكنا هنا مع منهاج المثانى والتشابه في تكرار الصلاة، ومن جهة الجمع والإفراد (شرحه في الباب الثانى بعون الله)، ومن جهة الوسطية في الإسلام، لا توقيت الصلاة الذى جاء شاملا في الجمع. القرآن يفسر بعضه بعضا، وتفسير الآية الكريمة فى قوله تبارك وتعالى:

﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ﴾   ]الإسراء: 110[

فكانت ﴿ الْوُسْطَىٰ ﴾ بمعنى ﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ﴾، في الصلوات الخمس، فمطلب المحافظة على الوسطية دون تفضيل بينها في التوقيت. الإمام الرازى، رحمه الله، في تفسيره بعد إسهاب وذكر مقالات السلف وتعديد للأدلة على المرجح الزمنى للصلوات الأربع، قارب معنا وقال: " فإن قيل: الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد، وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة، قال تعالى ﴿ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]  أي عدولاً وقال تعالى: ﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾  [القلم: 28]  أي أعدلهم ".  فإذا كان المطلب الحفاظ على كل الصلوات فلا يعقل تخصيص الحفاظ بالتأويل، يؤيده قوله تعالى: ﴿ قَانِتِينَ ﴾، فإنسحب الحفاظ إلى الكيفية لا التوقيت، وحيلت إليها الوسطية. كذلك في آية الحج، فلا يعقل أن ينهى عن الفسوق في حالة الحج فقط، بينما هو منهى عنه بإطلاق، وحيل الاستدلال لمعنى آخر غير التخصيص.

            ذهب الرازى فى تفسيره لآية الحج هذه إلى مدى أبعد فى إثبات الجدال حين إستدل بقوله تعالى:

﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾   [النحل: 125]

وقوله تعالى:

﴿  يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ﴾   [هود: 32]

فقال: " ومعلوم انه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين "، وهما نفس الآيتين اللتين إحتج بهما جمهور المتكلمين وقالوا: “ الجدال فى الدين طاعة عظيمة “. ذَكَرَه الرازى عنهم، ورأى فى هذا التعارض الظاهر بين أدلـة النهى وأدلة الأمر هو أنه: " لا بد من التوفيق بين هذه النصوص، فنحمل الجدل المذموم على الجدل فى تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح على الجدل فى تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله ". يتكلم عن الجدل ومقصوده الجدال، كما سيأتى بعد بإذن الله.

            نحن فى نظرنا لا نقول بالتعارض ولا نسعى إلى التوفيق، لأن كل هذه الأدلة وجهان لعملة واحدة هى الجدال: الوجه الأول محمود فيه قول المؤمنين بالحكمة والموعظة الحسنة، والوجه الثانى مذموم فيه قول الكفار ومن يناطحون الدين الإسلامى بالباطل ليدحضوا به الحق، وكلا الوجهين إثبات للجـدال، ولم ينه سبحانه عن الجدال، وإنما قرر مسلك وأدوات المؤمنين فيه.

            أدلة تحريم الجدال فيما غير آية الحج (البقرة: 197) لم تفسر ولم تؤول بالاستقراء الصحيح على المثانى. فمفهوم الجدال كما هو معروف فى الفكر الإسلامى، كما يستبين بعد بإذنه تعالى، هو قول بحجة وبرهان بين طرفين، نقاش. أن الطرف الآخر فى مقابل المؤمنين فى الجدال ونقاشه، يجادل بالباطل وهذا متوقع منهم، فليس معنى ذلك تحريم الجدال على المؤمنين، إلا أن يجادلوا هم بالباطل مثلهم، وكون الجدال على هذا الوجه فهو مذموم قطعـاً، أياً كان السالك له. الوجه الآخر هو القول بالحق، مطلوب ومأمور به، كما فى آيتى (النحل: 125) و(هود: 32). فكل الأدلـة لا تنفى الجدال بل تثبته. ونعتقد أن ما حدث ويحدث من سوء فهم للقصد فى القرآن الكريم يرجع غالباً لوقوع أهل اللغة فى أسر الجملة، ولا يسقط ذلك أهميتها فى التفسير وإدراك المعانى وتحرير المفاهيم وتقرير المقاصد. فنحن معهم فى أن اللغة هى الأساس فى تدبر القرآن الكريم، كيف لا وقد أنزله العزيز الحكيم قرآناً عربياً مبيناً لا عوج فيه؟ لكنها لا تعدو أن تكون مفتاح التفسير، وما عداه لا يخص علم بذاته.

            أصحاب الأصول يقولون بالمفهوم وأن هناك أيضاً مفهوم المخالفة، أي المفهوم ومقابله، أو الإيجاب والسلب. فإذا أثبت الشىء فى موضع على وجه، فهو سبحانه ينفى مقابله أو ضده على الوجه الثانى فى نفس الموضع أو فى موضع آخر. هذه المنهجية وصفها الإمام الشاطبى، رحمه الله، بقولـه: " إذا ورد فى القرآن الترغيب قارنه الترهيب فى لواحقه أو سوابقه أو قرائنه وبالعكس. وكذلك الترجية مع التخويف، وما يرجع إلى هذا المعنى مثله. ومنه ذكر أهل الجنة يقارنه ذكر أهل النار، وبالعكس؛ لأن فى ذكر أهل الجنة بأعمالهم ترجيه، وفى ذكر أهل النار بأعمالهم تخويفاً، فهو راجع إلى الترجية والتخويف "  [19ب3].

            فإذا كان المستدل والمتفق والمجمع عليه نصاً ألا تعارض بين القرآن والسنة فى المقاصد والأحكام لأنها بيان له، فإن ذلك يصدق بنفس الدرجة وربما أكثر فى المنهاج، مما حدا بالمنذري، رحمه الله، أن يؤلف كتابه معنونا "الترغيب والترهيب" [29] فى السنة النبوية والأحاديث الشريفة. لا غرو إذن أن ينطبع فكر علماء الإسلام بهذا المنهج، يذكر الجاحظ، رحمه الله، عن ابن سنان لما سئل ما عندك قال: " عندى قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب؛ آمر فيها بالتواصل وأنهى فيها عن التقاطع.. فقيل: هلا إكتفى بالأمر بالتواصل عن النهى عن التقاطع، أو ليس الأمر بالصلة هو النهى عن القطيعة؟ قال: أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان فى العقـول عمـل الإفصاح والتكشـف؟"[11ه].

            من ثم فليس من تعارض بين الأدلة فى الجدال بمنهج المثانى لأنهما وجهان لعملة واحدة. ومن تعريف الجدال بأنه قول بالحجة والبرهان بين طرفين، فليس هناك جدال من طرف واحد، أو كما قال شاهين محقا فى نقده لأبوزيد "يتجادل مع نفسه". على أساس مفهوم المخالفة، متى ذكر ذم جدال الكفار بالباطل، كان المسكوت عنه هو مدح جدال المؤمنين بالحق، والعكس صحيح، يعضده الدليل بالمفهوم المخالف أو المضاد فى موضع آخر. المسكوت عنه فى الحالة الأخيرة هو عكس العكس بالنسبة للأولى، وقد قيل نفى النفى إثبات.

قوله سبحانه:

﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ﴾   [الكهف: 56]

بالضرورة الجدالية وبمفهوم المخالفة على المثانى [8أ]، فإنه كذلك يفيد "ويجادل الذين آمنوا بالحق ليدحضوا به الباطل" فى نفس موضوع الجدال. فمن أين جاءهم الحق الذى يريدون أن يدحضوه فى جدالهم؟ من المؤمنين فى جدالهم معهم، مباشرة أو بطريق غير مباشر، فالإثبات هنا لفعل الجدال "يجادل" ينسحب على الكفار وعلى المؤمنين سواء بسواء. دليل تعضيده هو قوله تعالى:

﴿  وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾   [النحل: 125]

نفس الدليل بالمفهوم العكسى للآية الأولى (الكهف: 56)، وزيادة بالأحسن. المسكوت عنه أو المفهوم العكسى لهذه الآية هو أن الكفار يجادلون بحجـة وبرهان ودليل من طرف، ويجادلهم المؤمنون بما هو أحسن مما عندهم من الطرف الثانى. ففرض الجدال على المؤمنين من هذا المنطلق، وهو أساسـاً الدعوة إلى دين الإسلام، وهو الذى أدى بالمتكلمين أن يقولـوا: " الجدال فى الدين طاعة عظيمة ". الأصح منها فى هذا الشأن "الجدال بالدين طاعة عظيمة". لذلك سبيلان: الأول هو أن يتجادل المؤمنون فيما بينهم على التدبر لتقرير أمور الدين وأصوله كما قال الإمام الرازى، بل تكييف أحكامها وتحريرها. الثانى أن يتجادل المؤمنون مع الكفار يقارعونهم الحجة بالحجة والدليل بالدليل والبرهان بالبرهان، إنما الأحسن والأفضل، وفى ذلك نصر للإسلام والمسلمين. شواهده فى التاريخ كثيرة حتى أن بلاداً كثيرة دخلت فى الإسلام وقبلت الجزية دون حروب من طريق الجدال. لو لم يجادلهم المسلمون أولا لكانت حروب وطيسة على منوال بعض ما حدث، لكن ذلك مخالف لمعطيات المنهاج الإسلامى فى تنزيل العقل منزلة رفيعة وإعلاء شأنه ببث الرسالات إليه.

            كان ذلك هو مطلب الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، وأمراء المؤمنين من بعدهم لقوادهم فى الفتوحات، طلباً ثابتاً كالفريضة إقتداءاً بالصادق الأمين ، وارتفاقاً بمنهجه وهو الممتثل الأول لأوامر ربه جل شأنه عندما خاطبه: ﴿ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ﴾، وقال له: ﴿ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ﴾. يروى ابن كثير عن غزوة القادسية فى عهد عمر بن الخطاب، رضى الله عنه:

" فكتب سعد إلى عمر بذلك فكتب إليه عمر: " لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، وإستعن بالله وتوكل عليه، وإبعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأى والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم وفلجاً عليهم " ... ولما تواجه الجيشان بعث رستم إلى أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنـه. فبعث إليه المغيرة بن شعبة، رضى الله عنه. فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنـا. فقال له المغيرة: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة،  وقد بعث الله إلينا رسولاً قال له: إنى قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بدينى فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبـة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز، فقال له رستم: فما هو؟ فقال أما عموده الذى لا يصلح شىء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله،  فقال: ما أحسن هذا؟! وأى شىء أيضاً؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله. قال: وحسن أيضاً وأى شىء أيضاً؟ قال: والناس بنو آدم، فهم أخوة لأب وأم، قال وحسن أيضاً. ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا فى دينكم أترجعون عن بلادنا؟ قال: إى والله ثم لا نقرب بلادكم إلا فى تجارة أو حاجة، قال: حسن أيضاً. قال (الراوى): ولما خرج المغيرة من عنده ذَاكَرَ رستم رؤساء قومه فى الإسلام فأنِفوا ذلك وأبَوْا أن يدخلوا فيه ...".

" قالوا: ثم بعث إليه سعد رسولاً آخر بطلبه وهو ربعى بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارِق المذهبه والزرابى الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلىء الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب. ودخل ربعى بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبَيْضَته على رأسه. فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إنى لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتمونى فإن تركتمونى هكذا وإلا رجعت. فقال رستم: إئذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ماجاء بكم؟ فقال: الله إبتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتهـا، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضى إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى. فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم! كم أحب إليكم؟ يوماً أو يومين؟ قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. فقال: ما سن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فأنظر فى أمرك وأمرهم وإختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، فقال: أسيدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم. فإجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا معاذ الله (!) أن تميل إلى شىء من هذا وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابـه، فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وأنظروا إلى الرأى والكلام والسيرة. إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الحساب ". (المضمون سابق على الشكل)

               " ثم بعثوا يطلبوا فى اليوم الثانى رجلاً فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلم نحو ما قال ربعى. وفى اليوم الثالث المغيرة بن شعبة فتكلم بكلام حسن طويل. قال فيه رستم للمغيرة: إنما مثلكم فى دخولكم أرضنا كمثل الذباب فى العسل. فقال: من يوصلنى إليه ولـه درهمان؟ فلما سقط عليه غرق فيه، فجعل يطلب الخلاص فلا يجده، وجعل يقول من يخلصنى ولـه أربعة دراهم؟ ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل جحراً فى كَرْم، فلما رآه صاحب الكرم ضعيفاً رحمه فتركه، فلما سمن أفسد شيئاً كثيراً فجاء بجيشه، وإستعان عليه بغلمانه فذهب ليخرج فلم يستطع لسمنه فضربه حتى قتله، فهكذا تخرجون من بلادنا. ثم إستشاط غضباً وأقسم بالشمس لأقتلنكم غداً. فقال المغيرة: ستعلـم. ثم قال رستم للمغيرة: قد أمرت لكم بكسوة ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنـا. فقال المغيرة: أبعد أن أوْهَنَّـا ملككم وضَعَّفْنا عزكم، ولنا مدة نحو بلادكم ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون وستصيرون لنا عبيداً على رغمكم؟! فلما قال ذلك إستشاط غضباً...".

" وكتب سعد إلى عمر يخبره بالفتح وبعدة من قتلوا من المشركين، وبعدة من قتل من المسلمين، بعث بالكتاب مع سعد بن الفزارى وصورته: أما بعد فإن الله نصرنا على أهل فارس ومنحناهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراؤون مثل زُهائها فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبوه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار، وصفوف الآجام، وفى الفِجاج. وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارىء وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوى النحل، وهم آساد فى النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقى إلا بفضل الشهادة إذا لم تكتب لهم. "  [7أ].

            لم يكن الجدال إذن فى واقعهم، رضوان الله عليهم ورحمته، فى العقيدة بالحجة والدليل والبرهان، بالكلام الملفوظ، إنما أيضاً التطبيق بالسلوك وبالعمل، بالتخطيط لكل الاحتمالات، وهوالمعنى اللغوى للفظ "الجدال" كما سيأتى بعد إنشاء الله. لم يكن طلبهم إلا عزة الإسلام ونصرته، نذروا له أرواحهم فداءاً له، ونصرهم الله وهم قلة فى الجيش أفراداً وعتاداً وبعداً عن الدعم والعون. فكانت الحجة هى جيش المقدمة لأن العقل فى المنهاج الإسلامى كذلك فى المناط، وكانت هى السلاح الأغلب فى فتح دمشق ومصر، فلم تدر فيهما رحى الحرب إلا القليل، وكانت مسلحة بقوة الإيمان وشدة العزيمة والشكيمة فى الرجال قبل العتاد. وقيل فى أيامنا هذه: "الحرب الحديثة حجة"، أو ما معناه.

            فى خطاب الحق سبحانه لنبيه الكريم ، أدلة أخرى لإثبات أن الجدال بين طرفين هو المقصود فى ذكره من طرف واحد وإن كان بالنهى عنه لمسلكه. قال تعالى:

 ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ﴾   [الأنفال: 6]

وقال:

 ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾   [الأنعام: 25]

وقال:  

﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ﴾   [النساء: 107]

وقال:

﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾   [النحل: 125]

الآيتان الأوليتان تثبتان أن الكفار يجادلون الرسول الكريم ، بالباطل. الثالثة تثبت أوامره سبحانه له بجدالهم. فنهاه عن الجدال عن الذين يختانون أنفسهم كفئة، أى الدفاع عنهم، ما هو بمفهوم المخالفة أمر بالجدال والدفاع عن الفئات الأخرى المؤمنة. جاء الأمر صريحاً بالمنطوق فى الرابعة، الجدال بالحسنى والأحسن. قوله تعالى:

  ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾   [العنكبوت: 46]

هو أمر من الحق تبارك وتعالى لعباده المؤمنين المسلمين بأدوات الجدال، بأن يجادلوا أهل الكتاب بما هو أحسن مما بين أيديهم، شكلاً ومضموناً بالضرورة. بالشكل فى الخطاب بالأسلوب المهذب والحسنى، بالأبلغ والأفصح والأكثر بياناً، وفى المضمون بالحجة الأبلغ والدليل الأنصع والبرهان الأدمغ، ويحتمل المعنى البعيد هنا على التورية الأحسن من الجدل نفسه، قواعده ومبادئه وسبله وغاياته، بمعنى الجدال فى موضوع الجدل، ودليل تأكيد هذا المعنى قوله تعالى:

 ﴿ أدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾  [النحل: 125]

الأحسن فى مضمون الحكمة عندهم داخل فيه الجدال والجدل، وربما -والله أعلم- وقف الإمام الجوينى، رحمه الله، على هذا المفهوم فقعَّد قواعد الجدال ومناطاته فى كتابه "الكافية فى الجدال" [13]، وقال الرازى بهذا المنحى أن يتجادل المسلمين فيما بينهم لتقرير وبيان ما غمض من حقائق الدين فى الفقه وأصوله.

يقول ابن عبد البر، رحمه الله، فى كتابه "بيان العلم"، مَوْبوءاً بالتكفير فى عصره:  " نهى السلف رحمهم الله عن الجدال فى الله عز وجل فى صفاته وأسمائه، وأما الفقه فأجمعوا على الجدال فيه والتناظر؛ لأنه علم يحتاج فيه إلى رد الفروع إلى الأصول للحاجة إلى ذلك وليس الاعتقادات كذلك"... ثم ساق هذا الشعر:

أجادل كل معترض خصيم         # # #           وأجعل دينه غرضاً  لدينى

فأترك ما علمت لرأى غيرى       # # #           وليس الرأى كالعلم اليقينى

فلست مكفـراً أحـداً يصلى           # # #           ولم أجرمكم أن تكفرونى "

            من نافلة القول أن الديمقراطية لا تستقيم بالرأى الواحد فقد عفى الزمن على الديكتاتورية به، وكانت الشورى فى الإسلام ثابتة والجدال بالحجة فيه وبه مطلوب، واستقام الأخير مبدأً عمت الديمقراطية به وجه الأرض فكراً، وإن لم تحزه زرعاً. ومن عادى الجدال كأنه عادى الديمقراطية وعادى الإسلام سواء، وقَبَّعه فى جب من التاريخ كئيب تمتد دهاليزه ودروبه إلى وقتنا الحاضر. وعليه فلا تستقيم الديمقراطية النيابية إلا بمن يملك أدوات الجدال بالحجة والدليل والبرهان والمضامين المؤثرة، لا سفسطة ولا بهرجة ولا تمظهر، مثلما كان عليه الصدر الأول فى الإسلام وقد ضربنا المثل بسياسة عمر وتوجهاته فى الدعوة والحروب واختيار سعد لأفضل الرجال وأشجعهم، رضوان الله ورحمته عليهم جميعاً. بقى أن ننوه إلى أن المفهوم الذى تناولنا به "الجدال" ليس هو مفهوم "الجدل" فى العموم، فهناك فرق سوف نوضحه فى حينه إنشاء الله تعالى، وبه التوفيق.

العقل والنقل بين إبن تيمية وإبن رشد.

العقل والنقل بين إبن تيمية وإبن رشد.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فى كتابه "درء تعارض النقل والعقل":
< والسلف والأئمة الذين ذموا وبدعوا الكلام فى الجوهر والجسم والعرض تضمن كلامهم ذم من يدخل المعانى التى يقصدها هؤلاء بهذه الألفاظ فى أصول الدين، فى دلائله وفى مسائله، نفيا وإثباتا. فأما إذا عرفت المعانى الصحيحة الثابته بالكتاب والسنة وعبر عنها لمن يفهم بهذه الألفاظ ليتبين ما وافق الحق من معانى هؤلاء وما خالفه، فهذا عظيم المنفعة، وهو من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالى:
* كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً۬ وَٲحِدَةً۬ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ‌ۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَـٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡ‌ۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦ‌ۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٲطٍ۬ مُّسۡتَقِيمٍ *(البقرة: 213)
وهو مثل الحكم بين سائر الأمم بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعانى التى يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم، وذلك يحتاج إلى معرفة معانى الكتاب والسنة، ومعرفة معانى هؤلاء بألفاظهم، ثم إعتبار هذه المعانى بهذه المعانى ليظهر الموافق والمخالف.>
      هدف كتابه كما فى عنوانه ألا تعارض بين العقل والنقل، مازالت أرضا خصبة للمعارك الفكرية بين الفرق الإسلامية. شبه المجمع عليه عند أهل السنة والجماعة تقديم العقل على النقل. فى ذلك قالوا لو تقدم النقل على العقل لكان قدحا فى النقل لأنه لا يعرف إلا بالعقل. لكن إبن تيمية فى كتابه هذا قال أن الأمر ليس بإطلاق. حجته هى أن النقل ليس بحاجة للعقل لإثبات إن كان حقا من عدمه لأنه حق فى ذاته، إعتقد فيه الناس بعقولهم أم لا. فى كتابنا "المنهاج بين العقل والنقل"، إتفقنا معه فى هذه المسألة، ثم حددنا أن ذلك فى الشرع، ما جاء فىي النص قاطعا، فالنقل مقدم على العقل، وما عداه يعود للقاعدة الأصلية وهى أصل من أصول الدين، تقديم العقل على النقل. فيها تفصيل حتى نضع المسببات على أسبابها، لأن هذا القطع من جهة لا يعرف إلا من طريق العقل إن كان من تدبر، ومن جهة ثانية من طريق العقل الإقرار به والإيمان بالمشرع به على ما هو ظاهرا وباطنا، إنما المقصود التسليم والكف عن التأويل، مناط العقل. قول الراسخين فى العلم: "ءَامَنَّا بِهِۦ كُلٌّ۬ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَا‌ۗ"، جاءت مع إحتمال إسناد العلم بالمتشابه لله وحده مع واو الإبتداء، الظاهر على ما هو عليه بلا تأويل من حيث أنه إيمان. ومن حيث أن الأصل هو تقديم العقل فلزم النظر فى المتشابه، عندها تقديم العقل واجب مثبت وجوبه فى النقل. يندرج فى هذه المسألة العلوم الكونية وتأويلات الإعجاز العلمى وعلوم الآخرين، نقصد ما ليس من النقل. ففيها العقل مقدم للحكم بين سائر الأمم بما جاء فى الكتاب الكريم والأحاديث الشريفة، ما قال به شيخ الإسلام بانيا على معطيات الذكر الحكيم، وفى ذلك مقالتنا.
      مما قاله القاضى ابو الوليد ابن رشد، رحمه الله، فى هذه المسألة فى كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من إتصال":
< ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان، وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربى. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم إزدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول.
      بل نقول: إنه ما من منطوق به فى الشرع، مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان إلا إذا أعتبر وتصفحت سائر أجزائه، وجد فى ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل، أو يقارب أن يشهد، ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، وإختلفوا فى المأول منها من غير المأول، فالأشعريون، مثلا، يتأولون آية الإستواء، وحديث النزول، والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره>
       زاوية إبن رشد هى الإستدلال أما زاوية إبن تيمية فهى البرهان والإثبات. أنت بحاجة للعقل للإستدلال ولو كان المستدل عليه مقطوعا به، وفى ذلك إبن رشد.بتقديم العقل على النقل، لا مراء فى ذلك لأنه مطلب التدبر. والنقل أو الشرع، كتابا وسنة،  ليس بحاجة إلى العقل لإثبات أنه حق من حيث أنه إيمان، تطلب فى الإستدلال التأويل أو لا، أخطأت فى استدلالك أو لا، آمن الناس به أم لم، وفى ذلك إبن تيمية ومعتقد كل المسلمين، تقديم النقل على العقل. فليس ثمة خلاف بين العالمين، وإن قاسى الإسلام من جراء إختلاف المسلمين على هذه المسألة. اللبس والخلاف يجئ بإعتبار من لا يؤمن، فى الحجاج والبرهان والجدل مع المخالفين للشرع، الدحض لحجج الآخر، الهم الأول للمتكلمين مع القول فى الذات الإلهية. لكن الآية إنقلبت فإرتد الخلاف على الإسلام. لم تجنى كثير ثمرة فى جانب الخصوم، وعاد الكلام معركة بين المسلمين بينما اساس المعركة مع الآخر، ضمنها الحكم بين سائر الأمم بالكتاب، مقالة إبن تيمية.  فى هذه الحالة من الحجاج، قبل الأخر، أنت تحتاج إلى العقل لإثبات أن الشرع هو الحق، ولا ترى من يخالف أو يكابر فى ذلك أيضا. حتى الخصوم يعلمون أننا نعتقد فيه الحق بديهيا وإلا لما كان إيمان وإعتقاد. لكن أيما توجهت لا تعدم خلافا منشؤه الخلط بين المناطات الثلاثة، الإستدلال والبرهان والحجاج. وعلى جل الصفحات المبينة سيقال لك من لا يعتقد فى أن الشرع حق فى ذاته - سواء قدمت العقل أو النقل - فهو كافر بالضرورة. دلائل الشرع فى كل ذلك بينة لا شبهة فيها ولا مكابرة.
يقول الحكيم العليم:
* أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * (السجدة: 3)
كرر قوله: "الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ" فى غير موضع، وفى صيغة أخرى قوله: "مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ"، أنه حق فى ذاته من حيث الإيمان بالظاهر بتقديم النقل، ومن حيث الإستدلال بتقديم العقل لتكشف ما به من حق، فى ذلك إبن رشد، ومن حيث البرهان بتقديم العقل ليبرهن على أنه الحق، وللحكم به بين سائر الأمم، فى ذلك إبن تيمية، تشكك فيه الناس بالعقل أم لا، آمنوا به بالعقل أم لا. بالحق فيه النذير والحجاج مع الآخر لعلهم يهتدون. قدم النقل فى أنه حق بذاته، وقدم  العفل فى النذير والدعوة إلى الدين الحق، الحجاج مع الآخر. والله أعلم.
-----------------------------
 
الإنشاء: [Minhageat.com]

تساؤلات المنهاج (4).

تساؤلات المنهاج (4).

بسم الله الرحمن الرحيم

أهم تساؤلات المنهاج:

1- أين المنهاج؟

2- المحكمات والمتشابهات.

3- واو والراسخون.

4- التكرار.

5- السبع المثانى والفاتحة.

6- التأويل.

7- الخاتمية.

8- الإكنان.

9- الإحكام.

10- المصطلح.

رابعاً: التكرار.

لغة المنهاج تبدأ بالتكرار مروراً بطرق التأويل المنهاجى والسبع المثانى والجدل فيها والمنهاجيات وأبواب المنهاج وإنتهاءأ بقوله عز وجل: " إِلَّا قَلِيلًا " فى سورة يوسف وتأويل حلم الملك، ذلك حسب ما تحصلنا عليه من المنهاج إلى الآن، بهدى وفضل من الله الحكيم العليم، جل فضله. التكرار من تعريف الجمهور للمتشابه هو أنه يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً. فيكون التكرار من تشابه بعضه لبعض، ومتى كان تكرار كان متشابه، فيضفى التكرار على وحداته صفة المتشابهات ولو كانت محكمات، وقعت فيها الإحتمالات وبات لها مطلب التأويل وعدت من المنهاج.

 تعريف بعض العلماء للمتشابه من أنه يحتمل وجوهاً فإن ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقى صار محكماً، فهو تعريف غير مستقيم. ذلك لأن الوجوه عرفت من قول على، رضى الله عنه: "القرآن حمال أوجه"، وهذه المقولة تقع فى التحليل وليس التأويل، تحليل الدلالة والوقوف على عناصرها، وقد أوضحنا الفرق بينهما فى كتاب "إشراق المنهاج"، وفى هذه المدونة مقالة "الدلالة أفقيا ورأسيا". فالوجوه لا تبطل لأنها تثبت وجهاً أو زاوية للدلالة فى كلام الله، مثل وجه إعتقادى وآخر شرعى وثالث منهاجى أو رابع إعجازى لنفس الدليل، وهذه لا تبطل، إنما كل منها يتطلب التأويل أو لا يعتمد على النص إن كان محكماً أو متشابهاً لغوياً فى الإفراد أو تكرارياً. والتأويل يكون لما داخلته الإحتمالات، وهنا يصح القول بأن المتشابه الذى يحتمل إحتمالات، فإن ردت الإحتمالات لإحتمال واحد وأبطلت الباقيات صار محكماً. علي أن ذلك في الدليل الإفرادي. هذا متبع فى شتى العلوم الطبيعية والنظرية، فيها القول بالفروض فى محل الإحتمالات، فإذا ثبت فرض منها أنه الصحيح، بالتجربة أو الدليل القطعى أو الراجح، وبطلت باقى الفروض توصل الباحث إلى الحقيقة العلمية المرجوة.

التأويل فى المنهاج يختلف عن هذا الطريق، الذى عجزعن الوصول إلي المنهاج، نبينه فيما بعد بعون الله، مطلبه يثبت بثبوت التكرار. فلماذا التكرار ويشبه بعضه بعضاً؟ تجد الإجابة فى المنهاج وما يلى من تساؤلات مقتضباً. مبتدى الإجابة هو بغية اليقين. لأنه متى كان متشابهاً شابه الظن والإحتمال فى ظاهره، فكيف تصل إلى اليقين؟ فى منهاج القرآن بالتكرار. نقول دائماً أننا نتدبر القرآن بمعاول قرآنية، وهنا أولها وأهمها، قول أحكم الحاكمين:

* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ *‏ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *  (التكاثر: 3 – 5)

تأمل التكرار (الألوان لإيضاح الدلالة المنهاجية): الأول والثانى للفعل " تَعْلَمُونَ " متطابقين فى الخبر، أما الثالث فقد وصفه تعالى ب " عِلْمَ الْيَقِينِ". الرابط بينها " كَلَّا " فى ثلاثية. ومادام المطلوب هو اليقين فى العلم، لزم تكرار هذا المطلوب نفسه ثلاثاً لإثبات معول التأويل الذى نتحدث عنه، من ثم إتباعه ضمن طرق التأويل المنهاجية، تجده كثيراً فى القرآن أوضحه فى سورة البقرة وقصتها، قول العليم الحكيم:

 *قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴿٦٨﴾‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿٦٩﴾‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿٧٠﴾‏ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ  * (البقرة: 68 – 71)

مع إجابة سؤال التبيين الثانى وصف جل ذكره البقر بالتشابه، بمعنى كثير الإحتمال، وبمعنى أن الإجابتبن الأولتين ليستا بكافيتين لعلم اليقين. كثير من علماء التفسير استدلوا على تعريف المتشابه من هذا الموضع أنه كثير الإحتمال. أما مع الإجابة الثالثة إرتفع التشابه ووصف تعالى المعطى بالحق المطلوب علمه يقيناً. وعليه لا يثبت علم اليقين بالحقيقة إلا فى التكرار الثالث. في قصة البقرة هذه تفصيل كثير لأن بها مبدأ الوسطية فى الإسلام منهاجياً، بلغة المنهاج "منهاجية الوسطية".

مثل ذلك فى عدد أهل الكهف، وهى سورة التأويل الثانية فى القرآن بعد سورة يوسف، قول الحكيم العليم:

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا *  (الكهف: 22)

 وصف عز وجل العد الأول والثانى بالرجم بالغيب، ثم أطلق الثالث ليكون عكسه، أنه يقينى ويكون عددهم سبعة " رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ "، مثل ما فى واو والراسخون، فلا شك أن الراسخين قلائل. إستنتج العدد سبعة الرازى، رحمه الله، بتفسيره من طريق آخر. تأمل قوله تبارك وتعالى: " فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا " مخالجة الشك وعليه الإحتمال فى التأويل، والنهى عن المراء الظاهر يضمر طلب التأويل تحصيلا للباطن، الحقيقة المضمرة فى الظاهر. فى قصة موسى والخضر، عليهما السلام، قصة تعليم التأويل، هناك ثلاثة  أفعال، وصف الأولين، خرق السفينة وقتل الغلام، بإمراً ونكراً على الترتيب، أى سلبيين، أما الثالث إقامة الجدار فكان إيجابيا يستحق عليه الأجر. بذلك ثبت مطلوب اليقين بالتكرار ثلاثاً، فى أكثر من ثلاث مواضع فى القرآن، أهم معاول التأويل المنهاجى للقرآن، مستخلصاً من القرآن. ولله الحمد والمنة.

القاعدة الثانية فى التكرار نستخلصها من قول العليم الخبير:

* كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * (المطففين: 7 – 9)

وقوله:

* كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * ‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ *كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * (المطففين: 18 - 20)

نعود فنقول عندما نستدل على وجه جديد للدلالة فى القرآن فلا نخالف به ما سبقنا من وجوه الدلالة عند علماء التفسير والأصول، إنما نضيف وجهاً جديداً ربما كشف النقاب عن مكنونات جديدة لإعجاز كلام الخالق سبحانه الذى لا ينضب فى باب عدم التفريط. تأمل النظم فى نسقين وتركيب من تراكيب القرآن اللغوية العجيبة فى سورة المطففين. تكرر قوله " مَّرْقُومٌ " مرتين فى نفس السورة على قيد بضع آيات، وفى  التكرار متشابه يعنى بوجه منهاجى جديد غير الوجه الذى عليه التفاسير من أنه كتاب مكتوب فيه صفات الأرقام من دوام ووضوح. الوجه الجديد يشير إلى مرقوم من أرقام، جوزه الألوسى، رحمه الله، فى مصنفه: "روح المعانى": "أو من رقم الكتاب إذا جعل له رقما أى علامة". نعم إن الأرقام فى القرآن لها مدلول على وجه إضافى، ظهرت حديثاً بعض من البحوث العددية تبحث فيه إمتدت إلى عد الآيات والألفاظ المتشابهة، وإستدلوا بها على إعجازات فى النظم القرآنى، تثبت وضع القرآن للخالق توقيفياً. لكن هذا المنحى لم يتناول المعانى عن قرب، والمعنى والمفهوم والمراد المقصود هم مطلوب التفسير والتأويل. فكان الوجه العددى فى " مَّرْقُومٌ " لا نقول فيه الثمن القليل، إنما قاصر عن أن يحيط بمقاصد التنزيل، وهو من ناحية أخرى يعتبر بحثاً فى الشكل والظاهر دون الباطن والمضمون المضمر خاصة فى المتشابهات.

الوجه المنهاجى فى الدلالة هو أن " مَّرْقُومٌ " مرتين فقط فى القرآن كله تعنى الإشارة إلى المثانى فى التكرار مرتين، فكل ما تكرر مرتين، لفظاً أو جملاً أو آية، ينتمى إلى البحث والإستدلال والتأصيل فى المثانى. ومرتين عدداً تفى بالمقصود من " مَّرْقُومٌ " مرتين. فيكون المعنى الرقمى فيه هو عدد التكرار، مرتان وثلاث...الخ. إذا إعتبرنا تكرار " كِتَابَ " مرتين فى كل نسق وموضوع (نعتبر النسق المنهاجى ما يتناول موضوعاً واحداً مترابط المعنى والمقصود، يحده إلتفاتان موضوعيان) وصلنا إلى تفصيل إعتبار الكتاب كله على المثانى عددا وهو مفهوم قوله جل ذكره فى سورة الزمر: " كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ". ففى سورة المطففين إستدلال على المتشابه التكرارى العددى الثنائى، وعلى أن هذا فى الكتاب كله. وهو المطلوب إثباته فى القاعدة التكرارية الثانية من معاول التأويل القرآنية المنهاجية، مستخلصة من الذكر الحكيم. والله أعلم، هو ولى التوفيق.

الإستدلال التكرارى لا يقتصر على الثنائيات، فهناك أرقام إستدلالية منهاجية أساسية، أولها الثنائية كإشارة للمثانى، والثلاثية كما رأينا فى سورة التكاثر لإثبات اليقين، والثلاثية فى آن واحد تعتبر إشارة إلى منهاجية، التى هى منهاجية اليقين فى التكاثر، متكاثر فى الذكر الحكيم. الرقم التكرارى الثالث هو سبعة إشارة للسبع المثانى، كما فى نسق الطلاق فى سورة البقرة، تكرر قوله تعالى: " حُدُودُ اللَّهِ " سبع مرات فى آيتين متتاليتين (229، 230). وهو كذلك لفظياً إشارة للسبع المثانى مثل قوله جل علمه: "سَبْعَ بَقَرَاتٍ " و" سَبْعَ سُنبُلَاتٍ " (يوسف: 43). الرقم التكرارى المنهاجى الرابع هو إثنى عشر، إشارة لعدد أبواب المنهاج، مثل تكرار " إذا " إثنتا عشرة مرة فى سورة التكوير، ولفظياً مثل قوله جل وعلا: " أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُم " (البقرة: 60). الرقم التكرارى الخامس مركب من الثنائية والثلاثية، تكرار الثنائية ثلاث مرات بغية اليقين فى استخلاصها وتأصيلها، دليله التأصيلى قوله تعالى: " وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً " (الواقعة: 7)، فُصًلت الأزواج الثلاثة فيما تلاها من آيات. تأمل آيات القبلة وقول الخلاق العليم:

* قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ *   (البقرة: 144)

وقوله:

* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ  *   (البقرة: 149 - 50)

هذا مثال مثالى لإشارة التكرار الثنائى الثلاثى من قوله تعالى: " أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً " (الواقعة: 7)، الذى ينظر فيه ويعتبر تأصيلاً لثنائية من ثنائيات السبع المثانى. تكرر تكليف القبلة ثلاث مرات للنبى، عليه الصلاة والسلام، وللمسلمين مرتين. فى التجريد تكرر التكليف للفرد ثلاث وللمجتمع مرتين، دليل وإشارة لثنائية "الفرد والمجتمع" وكليتها "الجزء والكل" من السبع المثانى، كليات الوجود. لكن يلزم دليلان تكراريان آخران مثل ذلك حتى يثبت يقيناً إستخلاص الثنائية كإحدى السبع المثانى. متكاثر فى الذكر الحكيم بالنسبة لهذه الثنائية أكثر من غيرها. هو مثال مثالى لأن به تكليف شرعى لا يستدعى أكثر من دليل واحد، لكنه تكرر خمس مرات. باب مفتوح لذريعة وحجة لأعداء الإسلام للطعن على القرآن بالركاكة للتكرار، فما بالك بتكرار جملة وتكليف فى آيتين متتاليتين (البقرة: 149، 150)، وأى ركاكة يحتجون بها؟ بينما الوضع عكسى فى المنهاج، كلما قربت الأدلة التكرارية من بعضها البعض كلما كانت أكثر قطعية فى الحكم، قاعدة التقريب والتبعيد فى التأويل، فدليلان فى آيتين متتاليتين فيهما القطع مثالى ويقين الإستدلال بيًن. لقد جاء التحدى بإتيان سورة منه، فهل التحدى الإلهى بالركيك المتكرر؟ فيثور سؤال لماذا التكرار إذا كان الحكم الشرعى ثابت فى دليل واحد مقصده تكليف المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فتكليفه تكليف للمسلمين؟ هذه إجابته منهاجية ناصعة بينة. ولله الحمد والمنة.

 بهذا إتضح أكثر المقصود بلفظ "مرقوم" فى سورة المطففين، وبهذا دخلنا فى باب التفسير الإشارى للقرآن، لتتفجر منابع الإستدلال التكرارى. وما زال للتأويل معاول أخرى قرآنية، تبيينها فيما بعد بعون الله. تفصيل الإستدلال وإحاطة أكثر بالتكرار فى كتاب "إشراق المنهاج" الذى جاء به:

"وعليه فإن فى التكرار المنهاجى رد لتلك المطاعن بالركاكة، وإثبات إعجاز النسق والنظم والتحدى بالوضع فى القرآن، فضلا عن مناطه الذى وضع له وهو الاستقراء. فيه إجابة السؤال الملح والذى جاهد من أجل إجابته الكرمانى، رحمه الله: لماذا كان التكرار الذى يُسْبِغ عِواراً على النص وقيل فيه بالإحكام وإتقان الصنع؟ لكنه القرآن معجزاً لبنى البشر بالوضع وبالدلالة، شكلاً ومضموناً، غايةً ووسيلة، وفى التكرار المنهاجى الإعجاز النصى والتحدى الأكبر في القرآن الكريم، كلام الله. لم يكن أعظم إحكاما للنص من مرتبة هذا التكرار، وكان التحدى بإتيان سورة منه لم يتخيله بشر من قبل. فإنقلب العِوار إلى تاج الإحكام في النصوص، والله أعلم، به التوفيق."